رجل الحضور الجميل

رجل الحضور الجميل

"الحضور الجميل" هو الانطباع المبكر الذي يشعّه شخص عبدالرزاق البصير في أي مجلس خاص أو عام يشهده، والاطمئنان إلى الصحبة، والثقة في الإفضاء محصلة نهائية أكسبته صداقات ومودّات بمساحة الوطن العربي، فأثبتت أن المثقف الحقيقي ليس كلمة على الورق وحسب (بزعم أن هذا هو ما يبقى) إنه إيمان داخلي يؤازره سلوك معلن... قبل الكلمة، وبعدها.

هذا-باختصار- عبدالرزاق البصير الذي عرفته، فأوجب عليّ احترامه منذ التقيته عام 1964 وإلى الآن، في ذلك العام كان فاروق شوشة كبيراً للمذيعين ومسئولاً عن القسم الأدبي بإذاعة الكويت، طلب مني المشاركة بأحاديث أدبية، فكتبت تحت عنوان "الأدب الإسلامي" عدداً منها، كانت إحدى الحلقات عن الشاعر أبي العتاهية، عقب إذاعة الحديث، جرى حوار بشأنه بين البصير وشوشة، خلاصته الرضا عمّا كتبت. في زمن شحيح بالعرفان، لا بد أن تمتن للرجلين: لمن ارتضاك، ولمن نقل إليك، فكان هذا اللقاء الأول في مكتب رئيس القسم الأدبي.

إن صفة "التواضع" إلى درجة الخجل، الذي يوشك أن يكون خجلاً فطرياً طفولياً تتصدّر "بداهة" البصير، وتستمر معه، لدرجة أنه لا يستخدم- على الإطلاق تقريباً- عبارة تتداولها لغة الكتّاب عادة دون تحرّج، مثل: وقد عرضت لهذا الموضوع من قبل، أو: وقد شرحت هذا وبينته في...، إن البصير لا يحيلك إلى نفسه مطلقاً، لا في حديثه الشفاهي ولا في كتبه ومقالاته، إنه خير من يستمع، ويحاور، ويطرح أسئلة قد تكون ماكرة مدبّرة لكشف تناقض أو إشارة إلى نقص في الطرح، ولكن البصير- الذي لا يتخلى عن دماثته- ينيب صيغة السؤال عن إعلان القرار أو استدراج الآخر إلى الاعتذار.

كتب البصير في موضوعات متعددة، لكنها- على انتشارها- ترجع إلى أصل واحد، لعله- هو نفسه- لم يشغل فكره باستخراجه أو تحديده، ولكن قراءته كاملاً لا بد أن تدل عليه، في مجال الإبداع كتب القصيدة، والقصة، والصورة القلمية، وأدب الرحلة، وعن فنون الأدب وفنون العرض كتب النقد المسرحي، وعن السينما في الكويت، وعن الموسيقى والغناء في الكويت أيضاً، أما مواكبته لقضايا ومشكلات مجتمعه، فإن مقالاته خير مؤشر للحركة- الفعل وردّ الفعل، حيث كتب عن التربية والشباب، وعن الجامعة، وعن الثقافة والمثقفين، وعن مجلس الأمة والسياسة المحلية، وعن الموقف من التجنيس، وفي محور النقد العملي أو التطبيقي تعد متابعاته في عرض وتحليل الكتب رصداً أقرب إلى الشمول لأهم ما أخرجت المطابع طوال حياته، ويمكن أن نجد هذا وغيره أكثر تفصيلاً وأدقّ إسناداً في ببليوجرافيا: "الصحافة الكويتية في ربع قرن ".

البصير ... الأديب المتواضع

أودّ أن أتوقف قليلاً عند صفة "التواضع " التي ألمحت إليها، وكيف تأخذ سياقاً بنائياً في طرح مقولاته الفكرية ورصده الدقيق للفروق الفنية، في مقالة له عن شاعر الكويت فهد العسكر، يصف لقاءه الأول بالشاعر، فيقول: "كنت في ذلك الحين لم آلف الأفكار الجديدة، أو الأساليب الجديدة في الكتابة، حتى أني كنت أرى أن السجع هو الأسلوب المفضّل في الكتابة، وكنت أعتقد أن ما يكتب في الصحف هو شيء من قبيل اللغو الذي لا غناء فيه" هذا "الاعتراف"، كتب عام 1964، أي بعد وفاة العسكر بثلاثة عشر عاماً، بعبارة أخرى: ليس هدفه تمجيد الآخر، وهو مما يمكن تجاوزه، وليس من شاهد عليه غير الضمير، غير أن البصير يفضي به، ويرتب عليه ما يجعل من العسكر قدوة، ومرشدا، فقد جرى بينهما حوار عرف فيه الشاعر أن صاحبه يقرأ بعض شروح المعلقات، كان تعليق العسكر: "هذا حسن "، ولكنه أثبت رجل البصير على بداية طريق جديد، إذ وضعه في حومة عصره، بأن قرأ له من شعر الأخطل الصغير، وعرّفه بمجلة سركيس التي نشرت هذا الشعر!!، وقد رضي البصير عن هذا "الكشف " المباغت حتى لقد رجا أمين المكتبة أن يكتب له نسخة من قصيدة الأخطل الصغير ليحتفظ بها، في زمن لم يكن الكتاب ميسّراً للراغب فيه!!

بهذه العفوية العذبة، مسرفة الشفافية، وبعبارات غاية في الاختصار والدقة معاً، يحدّد البصير ملامح الصورة، وما وراء الصورة من انفعالات، وما أدّت إليه من تغيير أيضاً، مدللاً على تواضعه المكين الذي لا يؤثر فيه أن الشاعر كان قد مضى، وأن المبتدئ القديم أصبح علماً ورائداً في الثقافة الكويتية، ومثل هذا أبداه نحوي، إذ أثنى على كتاب "الصحافة الكويتية" بما يراه يستحقه أو يدل عليه، ثم يقول ما كان يمكن ألاّ يقال دون أن يخلّ بقصد المقال: "وقد سبقت لكاتب هذه السطور محاولة للكتابة عن اتجاه كل صحيفة كويتية وتاريخها، فرأيت العجز يحيط بي من كل جانب، ذلك أن هذه الصحف ليست محفوظة بصورة كاملة... " إلخ، والحقيقة أنني- بدوري- لم أصنع ما عجز عنه البصير أو ما صوّرت له دماثته أنه كذلك، لأنني لم أكتب عن اتجاهات الصحف، فهذا مما يحتاج إلى خبرة داخلية، ومعايشة حقيقية، ومن ثم اقتصر جهدي على نوع من "الفهرسة"، وهي ليست "بحثاً" وإن كانت مقدمة ضرورية لإمداد الباحث بالمعلومات والوثائق الأساسية. ثم نعود إلى مقالة البصير عن الشاعر فهد العسكر، لنرى كيف أرشدته حساسيته الشديدة إلى التقاط بعض الأمور الدقيقة التي قد لا تلفت الانتباه، ولكن الناقد البصير سجّلها، واستبقاها في ذاكرته هذا الزمن الطويل، ليضعها بين يدي الباحث في سيكولوجية العسكر وطموحات شعره ومن أين يستمد قدوته، فقد لاحظ البصير أن الشاعر- في حديثه- لا يلتزم العامية الكويتية، ونصّ عبارة البصير: "فقد كانت لهجته- رحمه الله- لهجة تقارب الفصحى، لكنها بأسلوب جديد بالنسبة لي في ذلك الوقت، وكان إذا أراد أن يستعمل شيئاً من اللهجة الدارجة جاء بألفاظ غريبة عني في ذلك الحين: فكلمة "أيو" و " إيش تقرأ" وكلمة "آ" بدلاً من "إي" !!

من المهم في مطالب المعرفة بشاعر أن يقول البصير إن فهد العسكر في مرحلة من شبابه استولى عليه وسواس، وخوف من عذاب الله، حتى لقد لزم المساجد، ثم إنه غادر هذه الرحلة إلى ضدّها!! (أشار صلاح عبدالصبور إلى ما يكاد يتطابق مع هذا في كتابه: حياتي في الشعر) إن تنبّه البصير إلى هذا القلق العصبي، وهذا الانقلاب يدخل في دائرة المتوقع من مثله، أما اهتمامه بطريقة الكلام، واستمداد مفردات وعبارات من لهجات عربية أخرى، فإنه يدل على حساسية مفرطة، وإدراك- قد لا يكون واعياً من الناحية المنهجية- لتساند الاتجاهات حتى تأخذ عمق الظاهرة، من ثم لا يكون تطلّع العسكر أو اطلاعه على شعر بشارة الخوري ذا دلالة فنية معزولة عن تطلعاته الأخرى، إن تعلقه باللهجة أو لهجات خارج الكويت يكاد يضع إطاراً للحلم/ الأمنية الحياتية، بتحقيق نقلة شاملة لا تقتصر على الشعر، وإنما تشمل الحياة الاجتماعية في الأساس.

ولا نريد أن يسبق إلى الفهم من وصف البصير بالتواضع، أو بهذا الخجل الطفول، ولا عزوفه عن الإشارة إلى مقالاته وكتبه كمرجعية لأحاديث مستأنفة، لا نريد أن يفهم من هذا أنه كان حريصاً على استرضاء محاوره كهدف في ذاته، أو أنه على استعداد للتراجع عن قول أبداه، ففي مجال الموقف الأدبي كانت له صدامات وجولات غير قابلة لأنصاف الحلول، وبصفة خاصة حين يطأ هذا المحاور بعض ما يؤمن به البصير من أفكار السياسة، أو مبادئ الفن على السواء، وحواره المشهور مع الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد (وقد كان إبان هذا الحوار النقدي يعمل بإذاعة الكويت) يعطي هذا المعنى، إن قصيدة "على الصليب " التي فجّرت المشهد النقدي، تحوّلت بالحوار حولها من مستوى الغضب لكرامة الوطن إلى علاقة الرمز بالمرموز إليه، وإلى لغة الشعر، وهل يفيدها أن تكون غامضة، أم أن الوضوح أساس تكوينها، فإذا لم يحققه "الشاعر" فإن النقاد ينبغي أن يجلوا المعنى، لأن "فهم " الشعر لا محيد عنه لكي يتم تلقي القصيدة وتحوّلها إلى "قيمة" عند هذا المتلقي، أما الوقوف عند حد الانطباع العام، والرضا بالغموض والتهويم، فإنه قد يؤدي إلى نوع من الحدس الاحتمالي الذي تختلف حوله مستويات التأويل.

إن المرتكز الأساسي الذي يستخلص من القراءة الشاملة لفكر وتطبيقات البصير يستند إلى "الهادفية الاجتماعية"، فالأدب ليس ترفاً، والشعر ليس لعباً بالكلمات أو الصور، الإبداع رسالة، والمبدع مبشّر بهذه الرسالة، الوسيط بين طرفي العلاقة هو الناقد الذي يتفوّق بالفهم، فيجلو المعنى، ويمكّن للرسالة في نفوس الناس، بهذا القدر من الوضوح والتحدّد تستقر قيمة الفن ووظيفة النقد على السواء، ولا يجهدنا كشف منابع البصير في موقفه أو موقعه النقدي، لأنه لم يطرح هذه العلاقة في مستواها الفلسفي "علاقة الفن بالواقع " مكتفياً أو مقتنعاً بالمستوى السياسي- الاجتماعي (علاقة الفن بالجماهير، وبالعصر)، وليس من شك في أن الطابع القومي السائد في الفكر العربي منذ الأربعينيات، وحتى أعقاب حرب أكتوبر 1973 كان يمنح الفنون ألوانها، ويمنح المنظّرين حق أصالة الانتماء إلى أمتهم، وكذلك كان هذا الإطار العام للحركة الثقافية في الكويت، فلم تكن مصادفة أن تستضيف الكويت- حتى قبل إعلانها دولة مستقلة، دستورية (يونيو 1961) مؤتمر الأدباء العرب الرابع (عقد في ديسمبر 1958) تحت شعار: "البطولة في الأدب العربي"، ولم تكن مصادفة كذلك أن يلقي البصير بحثاً في ذلك المؤتمر تحت عنوان: "البطولة في الشعر الحديث "، وفي هذا البحث إلحاح على أن الثقافة حق للشعب، لأنه لا بطولة دون ثقافة، إذ البطولة تنبثق عن الإيمان بالهدف، إنه يؤكد على مبدأ ضرورة جماعية الثقافة، وأنها حق للشعب من زاوية أخرى حين يقرر أن الإضافة الحقيقية التي أضافها الشعر العربي الحديث، وخطابها خطوة أبعد من شعرنا القديم هي تصويره وتمجيده وريادته لبطولة الشعب، "فلم يعد أمر البطولة مقصوراً على القادة والحكام، وهذا هو شعرنا الحديث يتحدث عن البطولة الشعبية في الجزائر وبورسعيد، فيحسن الوصف، ويكشف عن معدن العروبة الأصيل".

هنا يبزغ الأساس التقدمي الذي أقام عليه البصير تصوّره لوظيفة الأدب، وفهمه لدور النقد، ومن هذه الوظيفة الاجتماعية تستجلب عناصر الإبداع، وينفي ما ليس محققاً للوظيفة، فإذا كانت الثقافة حقاً شعبياً، فإن الوضوح ينبغي أن يكون لغة الثقافة ومحصّلتها النهائية حتى تتمكن رسالة الفن أقوى تمكين، وبهذا يكون "الغموض " ضد الرسالة، وضدّ الفن الصحيح أيضاً!!، ولهذا يعجب مما يصفه بادّعاء مثقفين وفنانين أنهم في إبداعاتهم يتوجهون إلى الجماهير، مع ما يرى من غموض واستغلاق وهروب إلى الرمز في تلك الإبداعات، ففي رأيه أن هذا تناقض بين الهدف والوسيلة الموصلة إليه، ولعل إيمان البصير بهذه المقولة كان وراء انصرافه عن الاهتمام بالكتابات الجديدة، في الكويت وخارجها، تلك الكتابات التي أخذت طريقا آخر، واعتنقت أهدافاً أخرى، ليس من بينها التوجّه إلى الجماهير.

إن الحسّ القومي، الجماهيري، المتأصّل تراثياً هو الذي يشكّل الإطار الشامل لكل ما كتب البصير، وكان ارتباطه المبكّر بالنادي الثقافي القومي، ومشاركته في أسرة تحرير مجلته "الإيمان" (التي تعني الإيمان القومي) عام 1953 إلى جانب السقّاف، والخطيب، وعبدالله حسين، وعبدالله يوسف الغانم، ويوسف إبراهيم الغانم، ويوسف المشاري، وهم جميعاً من أقطاب الدعوة القومية في الكويت، لتدل على تجذّر هذا الانتماء، وأنه البذرة الأولى التي ظلت تكبر وتتفرّع حتى غدت دوحة وارفة نقرؤها في هذا النتاج الغزير.

عبدالرزاق البصير تجربة جريئة، متحررة، شديدة التفاعل مع زمانها، فإذا كان نمط المعري (الانسحاب المتأمل المستعلي) موجوداً بين أدباء كفّ البصر، فإن نمط طه حسين (المتفاعل الذي يؤثر ولا يتأثر) موجود كذلك، وقد أضاف البصير نمطاً يخصّه، إذ أعطى التفاعل مرونة الأخذ والعطاء، وتطوير الموقف عبر التجريب وإعادة قراءة المستجدات، وهذا ما تؤكده كتاباته الأخيرة. سيكون من المستطرف أن نعرف أن البصير أول ناقد مسرحي في الكويت، فقد واكب مرحلة المسرح المرتجل الذي صنعه محمد النشمي ورفاقه، وكتب عن عرض مسرحي شهده في مدرسة صلاح الدين (الشعب 23/ 10/ 1958)، وليس لنا أن نتوقع التطرّق إلى الجوانب الفنية في العرض، ولعلها أيضاً كانت متواضعة جدا، في مستوى الارتجال، أما ما شغله، وما يمكن أن يصل إليه بتمامه فهو موضوع المسرحية وحكايتها أو حبكتها، وقد صدر في طرحه عن مبدئه الأساسي وهو أن الفن نقد للحياة، وللمجتمع، غير أنه لم يفته الاعتراض على أمر لم يكن منه بدّ تلك الفترة، إذ يختم مقالته القصيرة بقوله: "وأحبّ أن أنصّ هنا أن العنصر النسائي لا يمكن أن يقوم به الرجال بأي حال من الأحوال"، فأي دعوة أخرى، وأي حلم تحرّض عليه هذه الإشارة المبكرة؟

مواهب أخرى

ذات يوم من مايو 1987 اجتمع عدد من أعضاء رابطة الأدباء على مائدة الشاعر الأديب سليمان الخليفي، كنت من بينهم، بعد الطعام والشراب، طلب الدكتور خليفة الوقيان من البصير أن يغني، امتنع أولاً، ثم رأى أن هذا يمكن أن يكون تحية خاصة لي، إذ كنت على وشك مغادرة الكويت لانتهاء عملي بالجامعة، لقد غنى البصير بقوة وشجن أحسّهما في وصف الأصبهاني لعظماء المغنين الذين ارتجت بأصواتهم وديان مكة في الزمن القديم، لم أكن وحدي دهشاً محتبس الأنفاس لا أكاد أصدّق ما أسمع وأرى، إلى الآن يتردّد شجن البصير وتتواثب قوة روحه في أصداء غنائه الذي يجوب مشاعري ويلح على خواطري كلما طافت ذكرى من أيام الكويت.

 

محمد حسن عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات