بطولة نفس

بطولة نفس

ورحل البصير ...

فتذكرت قول أحمد شوقي في وداع حافظ إبراهيم:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي

 

يا منصف الموتى من الأحياء

وهكذا الحياة حضور وغياب ومزيج من البؤس والنعيم والدمع والابتسام، فما علينا إلا التأمّل العميق، وعزاؤنا أن نلتمّس ذكرى الراحلين هؤلاء الذين وهبوا الكويت والعرب حبّهم وجهادهم ونضالهم، وتركوا لنا آثارهم المطبوعة في كتب قيّمة، نحيا معهم ونتدبرّ معاني جميلة توجّت مسيرتهم، ونتفهّم دورهم الريادي وعطاءهم الزاخر بلا حدود.

كان البصيرُ فيّاضاً في عاطفته، يغدق من بحر إنسانيته ومواقفه المثالية الراقية، وقد شعرنا بذلك حينما كان يعمل أميناً لمكتبة وزارة الإعلام حتى عام 1991 ، حيث يوجه القرّاء ويناقش الأدباء، ويحنو على الجيل الجديد من الشعراء، ويعايش القضايا السائدة، ويعبّر عن رأيه في صدق وحرية دون مواربة أو خفاء ، كان البصير نموذجاً لرجل الكلمة والخلق الرفيع وسماحة النفس ورحابة الصدر ورقة الأحاسيس وخفّة الظل.

وإلى جانب هذا تميز بدقة البحث الأدبي العميق، والتنقيب في أغوار التراث والتاريخ ولا سيما متابعته المجدة في نفض ستائر النسيان عن شعراء وأدباء عاشوا في منطقة الخليج، ولم تذكرهم كتب النقد أو البحث أو كتاب السير والتراجم الذاتية.

وأعتقد أنه في كتابه "الخليج العربي والحضارة المعاصرة" بذل البصير جهداً واضحاً في دراسة بعض الحقب الزمنية عن بعض هؤلاء الشعراء المبدعين، وكأنه بذلك يوجه الأنظار إلى أصالة الخليج وعمق تجربته الإنسانية والإبداعية.

شخصيات أهملها التاريخ

وترى البصير متحمساً في الكتابة عن تلك الشخصيات التي أهملها التاريخ وصارت في لجّة النسيان، ويحاول بكل بساطة أن يرد لها ملامحها المنسية وصورتها القائمة، ويرجع إليها الرونق والحضور الشجي، ويكتب مرة أخرى، فتضئ الشخصية في الذهن، وتضيف قيمة كبيرة إلى تاريخ الخليج ورجاله المخلصين.

وتعجب لقدرة البصير على الغوص في هذا التراث الأدبي التاريخي، ولولا جهوده، ما عرفنا شيئاً عن شاعر الخليج أبي عبدالله محمد بن يوسف المعروف بالأربلي، وهو شاعر من البحرين يقول عنه البصير " وقد شاء الله أن ينشأ شاعرنا البحراني في هذه الظروف الرديئة، إلا أنه كان محظوظاً لأنه عاصر انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين مما جعل العزة تسري في قلب كل مسلم بصورة عامة، وفي قلب كل عربي بصورة خاصة وكانت موهبة الشعر قد ملأت نفس شاعرنا منذ صباه، وظل يعزز موهبته بما يذيع من قصائد في مدح صلاح الدين الأيوبي بعد أن رحل إلى دمشق ليشاهد استرداد كرامة العرب والمسلمين بإبعاد الصليبيين عن البلاد.

وفي كتابات البصير بحث دائم عن بطولة النفس في مواجهة المحن، ولعله عاش هذه التجربة الأليمة حين حاقت به الظلمات وبدأ يشق جبالاً وعرة أمامه، وأصداء كائنات أصبح في لحظة لا يراها، ويفتقد نعمة البصر نتيجة إصابته بمرض الجدري، وهو ما زال في الرابعة من عمره، فهل يستسلم لهذا المصير؟ هل يخضع وينعزل في الركن بعيداً، تهمي دمعاته ولا ياها أحد؟

لقد كان في يوم ما أن يحاصره التشاؤم والسخط والرفض، ولكنه عشق التسلل خلف ضوء أشرق في حياته وهو إشعاع القراءة فهدأت ذاته الثائرة فوق انسياب الموج الأزرق ونسمات الصباح وأغار يد الطيور وحفيف الريح وزخات المطر.

وأدرك أنها كائنات تحيا حوله يراها ببصيرته، ويعرف كنهها بإحساسه، ويرق لأصواتها بحواسه، ويحلق معها بروحه الهائمة في مسودة الوجد ونضارة الفكر ورهافة الحب، ولذلك حين قرأ لطه حسين رواية "الأيام" أدرك أنه يمضي ثابت الخطى في الدرب المشرق، وأنه اجتاز عتمات الظلام، وأصبح هناك في جزر الظل والماء والورق الخضر والنهار الجديد.

طه حسين... النموذج

وإذا بدا البصير يشهد بأن كتاب "الأيام" لطه حسين كان بمثابة المفتاح الذهبي الذي فتح له أبواب العلم والمعرفة، فإن اعتقادي بأن إعجابه بكتاب طه حسين يرجع إلى جموح ذاته التي تطوي الخنوع، وتتغلب على القهر، وتنطلق وترفض الأسر، وتحلّق بأجنحتها في الفضاء الإنساني هاربة من جحيم الظلام أو معترك الظلم والإبادة.

فها هو يقول بكل بساطة: كنت أعتقد قبل قراءة هذا الكتاب أن الضرير لا يستطيع أن يساهم في الحياة الأدبية ولا الحياة العامة، فما معنى ذلك؟ هذا يشير إلى أن البصير كان في مسيس الحاجة إلى من يثير كوامن نفسه، ويحفّزه على الانطلاق والتفوّق على الواقع وهزيمته.

وقد شاهد في حياة طه حسين المثل والنموذج الرائع لبطولة الكلمة وثورة الروح، واستنفار الذات، ثم الإصرار والتصميم والوقوف ضد الروح العنيدة والتيارات الغاضبة. وينفذ البصير إلى البني السرية لرواية الأيام، ويقول مرة أخرى، وقد امتلك بطولة النفس والشجاعة وهزم الخوف، حينما قال:

"وددت لو درست هذا الكتاب لطه حسين، وقدمته للقراء، ففيه مواقع يجهلها المبصرون ويدركها المكفوفون، ولا يستطيع التعبير عنها إلا أمثالي"، ولكن القدر لم يمهله الفرصة لتحقيق هذا الكتاب الجميل.

فالبطولة النفسية وصراع النفس مع الحياة والواقع وضربات القدر تعد عنصراً أساسياً في توجهات البصير الأدبية، فليس هناك سوى واحة ظليلة من الحب والمغامرة والصمود والثبات تتوج أفكاره وتدفعه إلى البحث الدائم عن الفرسان والأبطال.

وفي مقال بعنوان "فارس من الخليج العربي" من كتابه الخليج العربي والحضارة المعاصرة، يتحدث عن الشاعر قطري بن الفجاءة المازني ويصف ثباته بثبات الجبال التي لا تهزها العواصف، وبقي يحارب مدة عشرين سنة، ما أرسل إلى الجيش غلا وهزمه.

ويعجب البصير بقيدة هذا الشاعر حين يقول:

أقول لها وقد طارت شعاعاً

 

من الأبطال ويحك لن تراعي

فصبراً في مجال الموت صبراً

 

فما نيل الخلود بمستطاع

سبيل الموت غاية كل حي

 

وداعية لأهل الأرض داعي

وما للمرء خير في حياة

 

إذا ما عد من سقط المتاع

ويسجل البصير حبه وإيمانه بشجاعة النفس ومواجهة التعسف والظلم عندما يكتب عن الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، وجهوده الوطنية، ويرى أن الشيخ قد دفعته شجاعته الأدبية إلى أن يعلن آراءه بجرأة نادرة على الرغم من أنها تسبب له نفور الكثيرين، فهي تخالف ما يتظاهرون به.

ويلقي الضوء على كبار المصلحين في الكويت الذين حملوا مشاعل التنوير والإصلاح، ووجهوا الحقائق، وفندوا الزيف، وأسسوا فكراً جديداً نابعاً من الدين الإسلامي لإصلاح أحوال الناس ودعوتهم إلى العلم ونبذ الخرافات والتزود بالثقافات الجادّة، والاطلاع على حضارات الشعوب الأخرى، ومن هؤلاء، عبد العزيز الرشيد وأحمد البشير الرومي وأحمد العدواني.

هكذا تبدو جهود البصير مع التراث الخليجي وبحوثه حول أعلام الأدب والفكر، وكيف ثبت هؤلاء في وجه المتغيرات والظواهر الغريبة، وكيف واجهوا المحن وعاشوا قضايا بلادهم، والبصير بذلك يعد من رواد أدب الالتزام، هذا النوع من الأدب الذي يلزم الأديب بالدفاع عن قضايا أمته ومناصرة الأحرار في كل مكان، والتصدي للاستبداد والقهر والمصادرة، وفتح نوافذ الحرية على الطاقات الإبداعية والإنسانية للشعوب.

تلك إحدى سمات كتابات البصير التي ظلت تلازمه حتى رحل عن حياتنا، وكان يسجل في مقالاته الصحفية خواطره وأفكاره حول قضية الكويت والشباب والعلم والتربية والتراث ولمحاته النقدية حول الشعر والفن والقصة والرواية.

قضية الكويت

وجدير بحياة البصير، أن نذكر هنا أهم قضية عاشها في الفترة الأخيرة من حياته، يكتب لها ويبحث فيها مع نفس تتألم لمجريات الأمور، وعصف الأحداث، وذلك منذ محنة الكويت في عام 1990 حتى رحيله، وقد ظل يكتب في قضية الكويت: إنها قضيته القومية والوطنية والإنسانية. وقد عاصر أحداث الغزو كلها ولم يسافر خارج الكويت.

وقد أصدر كتاباً أسماه "الجريمة الكبرى في الكويت وأمانة القلم" والكتاب صدر عام 1995 يحتوي على مجموعة كبيرة من المقالات التي نشرها في الصحف عن قضية الكويت ويقول عن هذه المقالات .إنها ترسم جانباً من تاريخ تلك الجريمة الكبرى التي أوقعها النظام العراقي على الكويت، كما أن هذه المقالات أو بعضها يعبر عما يجول في أذهان كثير من المواطنين الذين آثروا البقاء في الوطن العزيز طوال أيام الاحتلال.

ويصف البصير اليوم الأول للاحتلال بأنه حالة عبثية، ويقول "أصابتنا حيرة شلت قدرتنا على التفكير، لأن ما شاهدناه في تلك الأيام أشبه شيء بمسرح العبث".

ويؤكد البصير أنه قد قرر أن يظل ملتزماً بقضية بلاده ويكتب عن هذه الكارثة حتى يغير الآراء والمفاهيم التي استاع الإعلام أن يؤثر فيها على بعض المثقفين، وأن يعلو بقضية بلاده إلى كل قارئ ومثقف وإنسان يؤمن بالحق والعدل والسلام.

ويقول البصير: "وعلى كل حال، فإنني منذ وقعت الكارثة، لم أكتب إلا ما يتصل بهذه النازلة التي أثخنت الأمة العربية بالجراح".

ويلجأ البصير إلى وضع دراسات ومقالات يمكن أن يقال عنها إنها من أدب المحنة، فهو يطمح إلى اتجاهين، أولاً: إعادة الثقة والأمل في نفوس أهل الكويت وتعميق الانتماء والحس الوطني لديهم، وتعزيز إيمانهم بالله ومشيئته، ثانياً: محاولة إزالة بعض الغشاوة التي ألمت بالذهنية العربية عن تاريخ الكويت واستقلالها وسيادتها بحيث أننا فوجئنا بانفصال حاد وتناقض في موقف بعض المثقفين العرب من قضية الكويت، ومن هذا المنطلق، اقتحم البصير التاريخ الأدبي ليسجل غضبه، وعلى هؤلاء الذين شوهوا التاريخ، وكأنه يوقظ إحساس القراء بأن ما حدث إنما هو سلسلة نابعة من الماضي المؤلم لهذه الأمة، فيكتب عن بعض الأفراد الذين شوهوا التاريخ في الجاهلية وفي الإسلام.

ويصور الحياة المظلمة في فترة الاحتلال، وكيف شاهد التعسف والاضطهاد وقتل الشباب واعتقالهم دون سبب، وتهديد الأطفال والعجائز وكبار السن بالبنادق والآلات الحربية، وبذلك جسّد البصير صورة وحشية حقيقية لهؤلاء الطغاة القادمين، يسرقون وينهبون أرض الكويت وخيراتها.

ولا يتوقف البصير عند هذا الحد، بل يتناول القصائد التي كتبت عن هذه التجربة الوحشية، ويبرز ما فيها من قضايا وطنية، وعشق عميق للكويت الأرض التي ولدنا عليها، وسوف نموت فيها، ومن هذه الأعمال الشعرية ديوان الشاعرة جنة القريني: "الفجيعة"، ويحلل البصير كتاباً آخر من تأليف عزيزة المفرج هو "الزنزانة 60"، حيث كتبت الكاتبة عن تجربة الأسر وسجلتها بكل حقائقها، وكذلك يقرأ البصير للأديبة ليلى العثمان "الحواجز السوداء" ويحلل ما فيها من أحداث مثيرة.

ويبدأ البصير في الحديث عن الأسرى الكويتيين وترسيم الحدود، ويتابع أعمال اللجنة، ويجلس مستمعاً إلى قصص أم الشهيد أو زوجة الشهيد، ويسجّل كل ذلك في خواطره وكتاباته، ولا يغفل البصير أن يذكر وقائع عن تاريخ الكويت وإعجابه برجال وحكّام وقفوا بشجاعة، وناضلوا، ومنهم الشيخ عبدالله السالم الذي وقف كالطود الشامخ الراسخ حينما آثار عبدالكريم قاسم زوبعته المعروفة، وحين يقوم البصير بزيارة الشيخ عبدالله ينشده قائلاً:

يا ابن الأماجد كنت خير أب لنا

 

إنّا لشخصك دائماً نترقب

أوتيت يا أمل الكويت بصيرة

 

للمشكلات تحلها إذ تصعب

يهنيك هذا النصر أن جهودكم

 

نجحت بحمد الله فيما ترغب

لقد وقف البصير بكل شجاعة تجاه قضية بلاده مدركاً وواعياً أنه يحارب ويناضل ويؤدي دوره الوطني مثل كل كويتي أو عربي مؤمن بهذه القضية، وكان يقول دائماً: علينا بالاتصالات المستمرة بجميع دول العالم، نوضّح لهم بالوثائق أن الكويت كيان مستقل، مما يعني أن جميع ادّعاءات رئيس النظام العراقي باطلة.

هذا هو البصير الكاتب الوطني والإنسان الذي يقف في الخطوط الأولى مدافعاً ومحارباً، منتشاً بالأماني ومحتشداً بالأحلام، ويبصر دربه ليرى في الظلام ما لا يراه غيره في النور والحياة.

ولا ننسى أن البصير من مواليد الكويت 1919 في منطقة الشرق، ودرس القرآن في الكتاب وحفظه، ثم درس على يد علماء الدين قواعد النحو والبلاغة وفقه الدين والفلسفة القديمة في الكويت والنجف، وقد عمل في القضاء لمدة اثنتي عشرة سنة في المحاكم الخاصة بالأحوال الشخصية ثم مأذوناً شرعياً. وكان البصير عضواً في جمعيات أدبية كثيرة أهمها رابطة الأدباء، ولجنة التراث والبحوث والترجمة والتأليف والرقابة، وشارك في معظم المؤتمرات الأدبية، وقد رشّحه الدكتور طه حسين ليكون مراسلاً للمجمع اللغوي في القاهرة أو مجمع الخالدين. لقد رحل البصير، ولكنه باق في ضمير الأمة، وسيبقى مصباحاً مضيئاً بالنور والحب والإرادة والعزيمة التي لا تُقهر، إنه حقّاً الرجل الذي تحدى الظلام، وأبصر بثاقب بصيرته الحياة الجميلة الرائعة، فسلام على روحه وهو في ديار الخلود.

 

فاضل خلف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات