حوار أخير مع البصير

حوار أخير مع البصير

في زيارته الأخيرة للبنان، جمع بيننا هذا اللقاء الذي لم أكن أدري أنه الأخير، وأن هذا الحوار سوف يصبح أشبه بوصاياه الأخيرة.

يؤلف هذا الحوار مدخلاً إلى سيرة الأديب الكبير الراحل عبدالرزاق البصير وأدبه، ففيه يتحدث عن جوانب من سيرته: عن دخوله مبكراً حلبة العمل السياسي وهو دون العشرين من عمره، إلى أن ساهم بعد ذلك في تأسيس كتلة الشباب الوطني في الكويت وصار خطيباً لها، ويعرض، ربما للمرة الأولى، لأثر العمى الذي ابتلي به في حياته، وعمّا يجمعه بأدباء عرب في القديم والحديث كانوا أيضاً كفيفي البصر كأبي العلاء المعري وبشار وطه حسين.

وعندما ألححت في سؤاله عن غياب البوح الذاتي في أدبه، وعن انصرافه إلى "الخارج" أي إلى الشأن الأدبي أو الفكري العام، لم أظفر بأجوبة مقنعة، لقد أدلى بنفوذ "النظام العام" الفكري على الخصوص، وبكون الظرف غير ملائم كي يبسط القلم كل ما تجده النفس أو ما تشعر به على النحو الوارد في الحوار.

  • يحضرني وأنا أجالسكم الآن سؤال حول تجربتكم الجوّانية بالذات، أنا أعرف أن لكم مرادفاً في تجربتكم النفسية هو المعرّي وبشار في القديم، وطه حسين في الحديث، إنها تجربة فريدة: أديب هو بصير من حيث الفكر والروح، ولكنه كفيف على صعيد النظر أو البصر، مثل هذه التجربة جديرة بأن تُبسّط للقارئ لمعرفة هذا المخزون النفسي والروحي الذي صدرتم وتصدرون عنه.

- هذا السؤال عميق وعميق جداً، ولكنني أعتقد أن الاشتراك في هذه الآفة، وهي فقد البصر، لا يكون عند المكفوفين واحداً، كل إنسان يبقى على المزاج نفسه الذي تربى عليه، أو نمت ثقافته منه.

أبو العلاء المعري وزهده في الدنيا، وقدرته الحافظة إلى غير ذلك، لكن هناك تجربته التي عاشها التي تختلف اختلافاً كلياً عن تجربة بشار، بشار إنسان منطلق وكأنه لم يكن كفيفاً، لقد أعطى نفسه كل ما تشتهي من الناحية المادية.

طه حسين يختلف عن هذا وذاك، يختلف لأن تجربته في الحياة تختلف، أنا أعتقد أن هذه الآفة لا تستطيع أن تجعل المبتلين بها على نهج واحد في حياتهم إطلاقاً، هذه آفة يُبتلى بها الشخص وتبقى شخصيته، تبقى تربيته، تبقى بيئته وكيف يعيش، كيف تربّى، فأنا لا أرى أن هذه الآفة تجعل المبتلين بها مشتركين في شيء على الإطلاق، وهذا رأيي.

  • ولكن، أليس لها تأثير في النفس والروح والحياة الداخلية بشكل عام؟ أليس هناك بالتالي، من قواسم مشتركة؟ هذا الانصراف عن، الخارج، والانكباب على الداخل، هذه "الجوّانية" بالذات، أليس لها أثر، وأثر واحد في الأدب، في الإبداع، في النظر؟

- لا بد أن يكون طبعاً، لكن، كما قلت لك، كل إنسان حسب تربيته، بعض الناس لا ينصرف إلى الداخل إطلاقاً، أنا أعتقد أن بشار بن برد لم ينصرف إلى الداخل، لا أذكر أنني قرأت في ديوانه شكوى من ابتلائه بهذه الآفة، طه حسين بالذات، يشتكي كثيراً منها، ويحسّ بثقلها عليه.

أنا شكواي كثيرة من هذه الآفة، ولكنني لا أخرجها في ما أكتب من المقالات إلا قليلاً، كتبت مقالين أو ثلاثة عما أُصبت به، وعما أحسسته وعرفته، ولكن ما كتبته وما أحسسته، كان غير ما كتبه وأحسّه أبو العلاء المعري وبشار وطه حسين، وكلهم كانوا على الحال التي ذكرتها لك، كل إنسان حسب بيئته، هذه الآفة تؤثر، ولكن ليس إلى الحدّ الذي تغيّر في فكره، على الإطلاق.

هناك كتب مثل "نكت العميان"، لكني لم أر محلاً لي في حكاياته.

أنا والمعري وطه حسين

  • المعري، كما هو معروف، كان لآفة العمى تأثير كبير فيه، على صعيد النظرة إلى الحياة، إلى الوجود كله، هذا التشاؤم الأسود الذي نلحظه عنده، هذا التشاؤم المرّ، لا شك أنه أثر من آثار آفته، في حين أن طه حسين كانت له أشياء كثيرة يشعر معها قارئه أنها نتيجة لهذه البلوى التي ابتلي بها، نتيجة لضيق في الذات، في النفس؟

- طبعاً، أنا قرأت له وقفاته العميقة جداً مع المعري، هو يشترك معه في وقفاته ونظراته، ولكن إذا أخذت بشار بن برد، لا تجد لديه ما وجدته عند المعرّي أو عند طه حسين، "يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة"، "حسبي وحسب الذي كلفت به/ مني ومنه الحديث والنظر"، أو "عضة في ذراعها ولها/ فوق ذراعي في عضها أثر"، "واسترخت الكف للعناق وقالت ".

أنت تجد بشّاراً رجلاً مادياً وقد أعطى نفسه كل رغباتها، قد يكون يشعر أو لا يشعر، لكن كل هذا لم يظهر في ما كتب من شعر، على الإطلاق، حسب ما قرأت في ديوانه.

سياسي... قبل فوات الأوان

  • لاحظت من خلال قراءتي لكتبكم أنها اهتمام في الأدب، بالنتاج الأدبي، متابعة لما يجري في الساحة الأدبية والثقافية بوجه عام، كما لاحظت أن هناك غياباً للذات، أو غياباً للشخص في هذه الكتابة، ألم يكن من المجدي أن تكتبوا كتاباً في السيرة الذاتية، وفي التجربة الروحية، إلى جوار كتبكم هذه، ألا تجدون مثل هذا الكتاب كتاباً جميلاً وممتعاً؟ ألا تجدون، استطراداً، أن مثل هذا الكتاب الذي أدعوكم إلى كتابته، كتاباً مفقوداً في أدبنا، قديمه وحديثه؟

- الأصدقاء الذين يعرفونني ألحّوا علي إلحاحاً شديداً أن أكتب هذا الكتاب، وأنت تجعلني الآن أقول لك أشياء تتصل بحياتي وسيرتي، أنا حياتي غريبة، حياتي كانت غريبة جداً، لذلك فإن الكتابة في مثل هذه التجربة تكون في أن أترك الأشياء الكثيرة لأني خضت في السياسة من سنة 1938، كان عمري ست عشرة سنة، السياسة أخذتني منذ ذلك الوقت، وقد تكون أخذتني حتى الآن، لذلك فإن تجربتي، لو أكتبها، لربما أضطر إلى ذكر أشياء تثير عليّ أموراً كثيرة جداً جداً، لا أخفي عليك أنني خضت في السياسة في زمن كان من المفروض ألا أكون فيها، ولكنني خضتها، وعيت نفسي وأنا أخوض في السياسة، وجدت نفسي في المجلس التشريعي سنة 1936، كان عمري 16 أو 17 سنة، وأنا كنت خطيب كتلة الشباب الوطني في الكويت، وطبعاً، هذا لم يكن مرغوباً أو مقبولاً، على الأصح، من قبل الحكم في ذلك الحين، وقد اضطررت أن أترك البلد، وهذا موضوع أخاف أن أطيل عليك الحديث فيه، لأنه كان صدر حكم بجلدي في السوق، لكن جاء شخص وأنقذني من هذه القضية ثم سافرت إلى العراق، ومنه إلى البحرين، ومنها إلى المنطقة الشرقية في السعودية، وبقيت فيها سبعة أشهر إلى أن توسّط المتوسطون، أنا لا أدري ولا والذي كتب لي أن آتي.

هذه القضية تجعلني لا أكتب تجربتي الذاتية بصدق، إذا أردت أن آخذ الأشياء بظواهرها، فهذا شيء آخر، ولكن إذا أردت أن أكتب تجربتي الحقيقية، فإنني أخشى أن أثير أشياء، وبصراحة، قد لا يكون الوقت وقتها.

تساؤلات حول الوجود

  • هناك دائماً مجال للقول، ومتسع للقول دون أن يحشر الكاتب نفسه في هذه الزاوية الضيقة أو تلك، ثمة مجال واسع لكي يبسّط الكاتب رأيه بأسلوب غير مباشر.

- عندي آراء خاصة، مثلاً، أنا عندي أسئلة قلقة، أنا أتساءل دائماً: لماذا جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ وكيف نبقى؟ ولماذا؟ هذه الدوامة التي نلفّ فيها، قد لا تكون أجوبتها يسيرة على الناس، نعم، أنا أريد أن أتحدّث في أشياء غير عميقة، آخذ الأشياء الظاهرة فقط، أما العميقة، فإنها لا تصلح أن تكون لتلك البيئة المحافظة التي أعيش فيها، ثمة معايشة بيني وبين نفسي لهذه الأسئلة، وقد أكون كتبت حول هذه الأسئلة، كتبت مرة: "إن الذين يقولون بأن العقل نعمة على الإنسان واهمون"، وكتبت في هذا مقالاً طويلاً جداً.

ليس الأمر سهلاً على كاتب مثلي أن يثير مثل هذه الفلسفة أو هذه النظرة، أو هذه الفكرة في تلك البيئة المحافظة جداً، ثم إن البلاد العربية كلها قد ارتدّت ارتداداً شديداً جداً إلى درجة أن الإسلام أصبح جسراً يعبر الناس عليه لمصالحهم الذاتية، وأعتقد أن هذا خلاف ما يريده الإسلام وما جاء الدين لأجله.

قد تكون اطّلعت على ما حدث لوزير الإعلام السابق عندنا، قضية الكتب الممنوعة، أنت تعرفها، وأنا شخصياً كتبت أن هذا الذي حدث لوزير الإعلام غير جائز، كان وزير الإعلام في موقف سليم تماماً، قلت أيضاً: إن المساس بالذات الإلهية يُقذف في وجه كل إنسان يريد أن يقول رأياً يخالف رأي الآخرين.

عندنا تحوّل نحو التزمّت الشديد وهو غريب تماماً عن الإسلام، دين الحرية، لدينا في الكويت فسحة واسعة من التعبير، ولكن المتشددين لهم الغلبة في الوقت الراهن، هم ضيّقون في فهم الإسلام، لديهم ضيق شديد في فهم الدين بصورة عامة، وأنا أعتقد أن أكثرهم ليس كذلك، وإنما لأن هذا موجة أو جسر يركبون عليه ليصلوا إلى مصالحهم، صحيح أن بعضهم صادق، ولكن صحيح أيضا أن أكثريتهم، أو المسيطرين عليهم، ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.

في جلبات القومية

  • ومع ذلك، فأنا لا أقصد أن تكتبوا حول هذه القضايا التي تتحدثون عنها، يمكن للكاتب أن يتجه اتجاهات أخرى في بسط تجربته، أن يتحدث هذا الكاتب عن أقاليم نفسه، عن الفرح والغبطة في هذه النفس، عن حالات الانكسار والسقوط، عن رحلات تغيب فيها النفس في أغوار بعيدة، عن رحلات أمكنها القيام بها وعادت سالمة، أو لم تتمكن أن تعود أبدا، قرأت مرة مائة كتاب لكاتب، فلم يلفتني فيها شيء، ولكني قرأت له كتابا صغيرا تحدث فيه عن نفسه، فأسرني وتمنيت لو كتب تلك المائة على غراره.

- أنا كتبت مرة مائة صفحة عن حياتي ولم أنشرها حتى الآن، أنا الآن قلق قلقا شديدا لا حدّ له، قلقي يأتي من شقين: الشق الأول يأتي في هذا الارتداد الموجود في البلاد العربية جمعاء، في مصر هذا الارتداد الظلامي يسيطر على نقابة المحامين ونقابة الصحفيين إلى حد كبير، والحكومات تداري ولا تقاوم، أنا أرى أن الحرية مطلوبة، ولكن إذا كان هناك أناس لا يؤمنون بالحرية، فماذا نفعل؟ كيف أعطي الحرية لشخص لا يدين بالحرية؟ كيف أسمح لأشخاص بأن يخوضوا الانتخابات وأن ينجحوا فيها وهم لا يعطونك الحرية لاحقا؟

وقلقي أيضا نابع من خلفيتي الفكرية، أنا قومي، أنا مؤسس النادي الثقافي القومي، أنا من مؤسسي هذا النادي مع آخرين، طبعا قد نكون اندفعنا عاطفيا، وكان ينبغي ألا نندفع مثل ذلك الاندفاع، القومية ليست ثوبا نخلعه، الشباب اليوم لا يرون في القومية شيئا، اسأل هذا الشاب، يقول لك أنا كويتي أو سعودي أو سوري أو لبناني، دون أن يدري أن الكويت أو سواها من الأقطار العربية لا تمثل أمة.

العراق أخطأ كيراً بحقنّا، ارتكب العراق إثماً فظيعاً تجاه الكويت، ولكن العراق ، شئنا أم أبينا، جزء من الأمة العربية، نظامه السياسي رديء، هذا صحيح، ولكن العراق بلد عربي.

  • أحب أن أسمع منكم رأياً حول الأدب العربي اليوم؟

- أعتقد أن مفهومنا للثقافة قد تغير عما كان عليه في السابق، أنا شخصياً عشت في الخمسينات والستينات، كانوا يرتضون من الأديب أن يعرف تراجم شعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين، ويحفظ من أشعارهم وأخبارهم ويكتب عنهم كما فعل الدكتور طه حسين في "حديث الأربعاء" مثلا، لكن الأمر تغير في أيامنا، قد يكون المرء مثقفا، ولكن هذا ليس كل المطلوب في الثقافة، في أيامنا هذه ينبغي أن تكون الثقافة صورة للحياة، أي متعلقة بحياة الإنسان، فحاضرنا يلح على أن يعالج الأدب الصادق مشاكل الإنسان، لذلك، فالأدب ينبغي أن يكون صورة لما نحن عليه.

الشعر فقد الكثير من مكانته، بات اليوم عبارة عن تقليد لما عند الأجانب ، الكثير من صور الحداثة عند آبائنا وشعرائنا هو تقليد لما عند الغربيين، يقال ما لا يفهم ويعد شعرا، ويقال حتى في المقالات مالا يفهم ويعد نثرا أو مقالاً .

الأدب العربي اليوم يمثل ما نحن عليه من فوضى وتشتت، القدامى ترجموا عن اليونانيين والفرس والهنود ، ولكنهم لم يترجموا الأدب لأن الأدب يمثل صورة الحياة .

مشكلتنا اليوم أننا أخذنا الأدب الغربي والأجنبي وأردنا أن نكون هم، وهنا الخطأ الفادح.

أكثر شبابنا اليوم لا يستمعون إلى الموسيقى العربية، بل إلى الموسيقى الأجنبية، نحن نقلد الآخرين، وهويتنا ضائعة تقريباً .

غلب التقليد على حياتنا كلها ، نحن مأخوذون بالحضارة الغربية، بكل أنماطها بما فيها الشعر. نحن لم نعد مهمومين بالتعبير عن أنفسنا، بات همنا تقليد الآخرين، لا أدري ما إذا كنت مخطئاً؟

 

جهاد فاضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات