جمال العربية

تحقيق كلمة "أثناء"
من الكلمات الشائعة على الألسنة والأقلام كلمة "أثناء" التي نستعملها على أنها ظرف يدل على الزمان، وأنها مبنية على فتح الآخر دائما.

حدث هذا نتيجة للإحساس بأنها تفيد معنى الزمن. لكن كتب اللغة لا تعد هذه الكلمة ضمن ظروف الزمان، ولا ظروف المكان. وغاية القول فيها: "أثناء" جمع، مفرده ثني أو ثني (بفتح الثاء أو كسرها) ومعناه كل شيء ثني بعضه على بعض أطواقاً.

وفي لسان العرب: أثناء الوادي: معاطفه ومحانيه.

وفي شرح المعلقات للزوزني، يقول عند قول امرئ القيس:

إذا ما الثريا في السماء تعرضت

تعرض أثناء الوشاح المفصل

الأثناء: النواحي والأوساط، وأثناء الوشاح: نواحيه ومنقطعه.

وجاء في مقصورة "ابن دريد" المشهورة:

وضرم النأي المشت جذوة

ما تأتلى تسفح أثناء الحشا

وأثناء الحشا: ما دخل بعضه في بعض.

وعلى هذا يكون الاستعمال الصحيح لكلمة "أثناء" على أساس أنها معربة وليست مبنية على الفتح، وليست ظرفاً كما نتوهم.

بين المفرد والجمع

من أسرار الجمال في لغتنا العربية التعبير بالمفرد عن الجمع وبالجمع عن المفرد لغرض بلاغي معين أو إبداع تعبيري ما، فيكون وقوعه في الكلام علامة على ذوق لغوي مرهف، وقدرة على مغايرة المألوف، والسير في درب غير مطروقة.

يقول مجنون ليلى:

ومما شجاني أنها يوم ودعت

تولت وماء العين في الجفن حائر

فلما أعادت من بعيد بنظرة

إلى التفاتا، أسلمته المحاجر

فهو قد أفرد العين والجفن، وجمع المحاجر. وفى إفراد العين والأذن يقول بشار بن برد:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

والعرب تقول "العين" وتريد "العينين" في مثل قولهم، أقر الله عينك.

وفي القرآن الكريم (كي تقر عينها ولا تحزن) سورة القصص آية رقم 13. وفيه أيضا (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك) سورة القصص آية رقم 9 .

ومحجر العين هو ما دار بها. وبدا من البرقع لمن تستر وجهها وتكشف عن عينيها، وجمعه: محاجر وللإنسان محجران، لكن مليحا الهذلي يقول:

وشمرت الجمال بكل خود

يفيض على محاجرها العبير

ذلك قالوا: هي حسنة الوجنات، مع أن المرء ليس له إلا وجنتان اثنتان، والوجنة: ما ارتفع من الخدين.

قالوا عن الخطيب المفوه: هو واسع الأشداق، مع أن للمرء شدقا واحدا، يقول الشاعر في ذم خطيب يتشادق أو يتشدق - لأنه لم يوهب اتساع الفم ورحابة الشدق-:

تشادق حتى مال بالقول شدقه

وكل خطيب - لا أبالك - أشدق

يقولون: فلان راسخ القدم في العلم، بدلا من قولهم: راسخ القدمين وفلان قام على ساقه وحسر عن يده، بمعنى استعد وشمر للأمر وتهيأ، بدلا من قولهم: قام على ساقيه وحسر عن يديه.

يقول قائلهم: أعرت الأمر أذنا صاغية، وأرهفت أذني ورأيته رأي العين.

كلها بالإفراد بدلا من التثنية.

ويستعملون المفرد بدلا من الجمع، فيقولون: باتوا سامرا، أي متسامرين ويقول المتنبي:

قليل عائدي، سقم فؤادي

كثير حاسدي، صعب مرامي

بدلا من القول المألوف: قليل عوادي وكثير حسادي، ويستعملون الجمع بدلا من المثنى، في مثل قولهم: ذهبت مشياً على الأقدام: أي على القدمين. وفلان شديد المناكب: أي شديد المنكبين وقول الشاعر:

إنما قد وضعت كفي لأدري

أين حلت سهام تلك العيون

يقصد سهام تينك العينين. ويقول ابن النبيه المصري في وصف المحبوب:

سود سوالفه، لعس مراشفه

نقش نواظره، خرس أساوره

فقد استعمل ابن النبيه: سوالفه ومراشفه ونواظره وأساوره، وليس للمحبوب إلا سالفان ومرشفان وناظران وسواران.

وقد يستعمل بعضهم الكلمة المفردة للتعبير عن الواحد وعن الجمع، وعن المؤنث في مثل قولهم:

هو صديق، وهي صديق، وهم صديق وهن صديق.

فيكون التعبير أوفر حظا من البلاغة والجمال.

وردود سريعة

هي ثلاثة أسئلة في رسالة واحدة بعث بها قارئ كريم.

الأول عن قولنا: "تحية واحتراماً" في مستهل رسائلنا وخطاباتنا، ولماذا نصبت الكلمتان؟

والثاني: أي القولين أصح وأفصح: أنعم النظر أو أمعن النظر؟.

والثالث: هل الصحيح أن يقال: أمر مستحيل أم أمر محال؟

تنصب تحية واحتراما على تقدير محذوف، أي: أحييك تحية وأحترمك احتراما أو أقدم لك تحية واحتراما.

أما بالنسبة للسؤال الثاني فإن تعبير "أنعم النظر" أكثر شيوعا على الألسنة والأقلام من "أمعن النظر".

جاء في المعاجم العربية: أنعم النظر في الشيء: أي أطال الفكرة فيه.

وقيل إن أنعم مقلوب أمعن. والكلمتان صحيحتان في هذا المقام، والتعبيران فصيحان في الاستعمال.

وبالنسبة للسؤال الأخير: المستحيل كالمحال، لا فرق بينهما في المعني أو الاستخدام، والكلمتان صحيحتان فصيحتان.

فوز: زين النساء
للعباس بن الأحنف

يكتسب العباس بن الأحنف أهميته في ديوان الشعر العربي، من عدة وجوه: فهو أولا، شاعر خارج على السياق الشعري في عصره، لم يتقرب إلى أحد من الخلفاء أو الأمراء أو الولاة بشيء من شعر المدح، عندما كان المديح وسيلة التكسب والرزق، فضلا عن كونه طريقا إلى الحظوة والمنزلة المرجوة، والجاه. وامتلأ ديوانه بفن شعري واحد هو فن الغزل.

وقرأ الناس شعره واستمعوا إليه، فحسبوه واحدا من الشعراء العذريين، الذين امتلأ شعرهم في محبوباتهم بالتسامي والتطهر والبعد عن كل ما يشين، أمثال مجنون ليلى قيس بن الملوح وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة عفراء، وقيس لبنى - قيس بن ذريح -، ورأوا في شعره ما وجدوه في أشعارهم من صدق العاطفة، وحرارة الإفضاء، ونقاء التعبير، فقالوا هذا عذري تأخر به الزمان، حين جاء في ختام القرن الثاني الهجري، وتغذي به المكان، حين أقام في بغداد.

وهو ثانيا، شاعر أبدع لغة شعرية شديدة الصفاء والنقاء، لم تثقلها الزخارف أو المحسنات، ولم تبتعد عن السمت الحضري الرقيق، حتى لتكاد تكون لغة عصرية، مما جعل شعر العباس أكثر دورانا في مجال الغناء، ويتغنى به الموصلي وغيره من كبار المغنين في زمانه، يروون أنه لما سمع بعضهم يتغنى بقول العباس:

إليك أشكو رب ما حل بي

من ظلم هذا الظالم المذنب

صب بعصياني ولو قال لي:

لا تشرب البارد، لم أشرب

فقال: هذا والله الكلام الحسن المعنى، السهل المورد، القريب المتناول، السهل اللفظ، العذب المستمع.

ويمتلئ ديوان العباس بن الأحنف بالحديث عن " فوز "، وهو اسم اتخذه قناعا يخفي به حقيقة من يحب، والتي أحبها العباس هاشمية عالية القدر والمكان، لا يستطيع البوح باسمها خشية الويل والثبور، فهي "علية" بنت الخليفة المهدي وأخت الخليفة هارون الرشيد، واكتفى العباس في شعره بإشارات وإيماءات لا تفصح ولا تبين.

وهو ثالثا، شاعر اعترف له كبار علماء عصره وأدبائه بمنزلته في الشعر ومكانته فيه، وقد أعلنت شاعريته عن نفسها دون جهد أو مشقة، وبلغ من قلوب الناس مبلغا عظيما بفضل عكوفه على تجويد فنه الشعري الوحيد، فن الغزل، وتكفينا - في هذا المقام - شهادة الجاحظ فيه، وهو شيخ كتاب العربية في زمانه، حين يقول:

"لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا، ما قدر أن يكون شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح، ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه وأكثر".

يقول العباس بن الأحنف في محبوبته فوز، زين النساء:

أزين نساء العالمين أجيبي

دعاء مشوق بالعراق غريب

كتبت كتابي ما أقيم حروفه

لشدة إعوالي وطول نحيبي

أخط وأمحو ما خططت بعبرة

تسح على القرطاس سح غروب

أيا فوز لو أبصرتني ما عرفتني

لطول شجوني بعدكم وشحوبي

وأنت من الدنيا نصيبي فإن أمت

فليتك من حور الجنان نصيبي

سأحفظ ما قد كان بيني وبينكم

وأرعاكمو في مشهدي ومغيبي

وكنتم تزينون العراق، فشانه

ترحلكم عنه، وذاك مذيبي

وكنتم وكنا في جوار بغبطة

نخالس لحظ العين كل رقيب

فإن يك حال الناس بيني وبينكم

فإن الهوى والود غير مشوب

فلا ضحك الواشون يا فوز بعدكم

ولا جمدت عين جرت بسكوب

وإني لأستهدي الرياح سلامكم

إذا أقبلت من نحوكم بهبوب

وأسألها حمل السلام إليكمو

فإن هي يوما بلغت فأجيبي

أرى البين يشكوه المحبون كلهم

فيارب قرب دار كل حبيب

ألم تر أن الحب أخلق جدتي

وشيب رأسي قبل حين مشيب

ألا أيها الباكون من ألم الهوى

أظنكمو أدركتمو بذنوب

تعالوا ندافع جهدنا عن قلوبنا

فيوشك أن نبقى بغير قلوب

كأن لم تكن فوز لأهلك جارة

بأكناف شط أو تكن بنسب

أقول وداري بالعراق ودارها

حجازية في حرة وسهوب

وكل قريب الدار لابد مرة

سيصبح يوما وهو غير قريب

أزوار بيت الله مروا بيثرب

لحاجة متبول كل الفؤاد كئيب

وقولوا لهم يا أهل يثرب أسعدوا

علي جلب للحادثات جليب

فإنا تركنا بالعراق أخا هوى

تنشب رهنا في جبال شعوب

به سقم أعيا المداوين علمه

سوى ظنهم من مخطئ ومصيب

إذا ما عصرنا الماء في فيه مجه

وإن نحن نادينا فغير مجيب