عندما تتكلّمُ الفصولُ «قراءة في كتاب نسيم الصبا لابن حبيب الحلبي - ت779هـ»

 عندما تتكلّمُ الفصولُ «قراءة في كتاب نسيم الصبا لابن حبيب الحلبي - ت779هـ»

حكاية اسمها الإنسان

ظل الطفل «الحسن» واقفًا يتأمل وجوه الحاضرين داخل المجلس المُنعقد بباحة البيت، وقد كست ملامحه علاماتُ الفخر والإعجاب، هذه العلامات التي كانت تتضاعف كلما ولى بصره باتجاه وجه الشيخ الجليل «عمر بن الحسن» صاحب الدار الذي يفد إليه الناس من كل حدب وصوب للإفادة من علمه الغزير في شتى مجالات المعرفة، وبخاصة الحديث وعلومه التي كان يتقنها ويبرع فيها، إذ كان يكفي أن تلقي عليه الحديث فيسارعك بالحكم على مدى صحته أو ضعفه أو تواتره أو الاتفاق عليه أو الاختلاف عليه، وكانت ثقة الناس في علمه دافعًا لهم للرضا بكل ما يصدره من تسعيرات للسلع بوصفه محتسب مدينة حلب، كان الفتى معجبًا أيما إعجاب بالتفاف الناس حول والده، وفخورًا بكونه ابنًا لهذا الرجل، تمنّى أن يكون مثله، أن يملك ما ينفع الناس، أن يحوز ثقتهم «هل سيأتي هذا اليوم؟» تساءل، «وهل يمكن أن أكتفي بالانتظار؟» تردد السؤال في خلجات صدره فارتعدت فرائصه وأفاق من غفوة تأملاته وهو يجري ليرتمي في حجر أبيه، الذي استقبله بابتسامة صافية وحضن دافئ وضحكة لا تخلو من وقار.

أدرك الأب مغزى الأُلقة التي لمحها في عين ابنه، وعلم أن الفتى يملك إرادة العلم وموهبة البحث، تيقن أن طفله المولود في دمشق سنة 710هـ يستحق أن توفر له سُبل المعرفة من مجالس علم وأدب وكتب ومراجع، وبالفعل بدأ الأب العالِم في دفع ابنه باتجاه بحر العلم، مانحًا إياه قارب القدوة ومجداف التشجيع، فنشأ «الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب الحلبي» مُحِبًًا للأدب مُهتمًا بالتاريخ والأخبار مُغرمًا بنظم الشعر، سمع الحديث على جماعة من أعيان عصره كما أخذ عن بعض الأدباء كابن نُباتة وغيره.

تنقَّل ابن حبيب بين عدد من المدن الإسلامية طلبًا للعلم؛ فرحل إلى القاهرة، والإسكندرية، والقدس، والخليل، وطرابلس الشام، وبعض مدن الحجاز، كما تولّى عددًا من المناصب الإدارية والدينية؛ فناب عن الحكم في دمشق في عهد الأمير «سيف الدين منجك»، كما باشر القضاء بحلب، وكتابة السر فيها، وولي كتابة الإنشاء فترة، فتحققت بذلك نبوءة الأب، ولأن لكل حكاية نهايتها، فقد آثر ابن حبيب في آخر حياته التخلي عن وظائفه فلزم داره مُتفرِّغًا للتأليف مُقبِلًا على التصنيف حتى وفاته سنة 779هـ.

وتبقى الكلمة

قد يرحل جسد المرء ولكن تبقى كلمته النافعة التي أبدعها تروي أجسادًا أخرى، فتظل روحه ماكثة في الأرض وقابعة في نفوس تلامذته، وقد أدرك ابن حبيب قدسية الكلمة وأهمية أن يصنع رصيدًا معرفيًا يُنتفَع به ويحول دون انقطاع عمله، فخلّف عددًا من المؤلفات في مجالات الأدب والفقه والتاريخ والسيرة النبوية، الأمر الذي يعكس تعدد اهتماماته المعرفية، ومن هذه المؤلفات: «أخبار الدول وتذكار الأُول» كتاب في التاريخ، و«تذكرة النَّبيه في أيام المنصور وبنيه» كتاب أرّخ فيه للسلطان قلاوون وأبنائه، و«جهينة الأخبار في أسماء الخلفاء وملوك الأمصار» كتاب في التاريخ من أنبياء اليهود حتى قلاوون، و«درّة الأسلاك في دولة الأتراك» كتاب في تاريخ السلاطين المماليك بمصر منذ سنة 648هـ إلى سنة 777هـ، و«الفوائد المُنتقاة من تاريخ صاحب حماة»، و«النجم الثاقب في أشرف المناقب» كتاب في السيرة النبوية، و«المُقتفى في ذكر مناقب المُصطفى» كتاب مختصر في السيرة النبوية، و«إرشاد السامع والقارئ من صحيح البخاري»، و«كشف المروط عن محاسن الشروط» كتاب في فقه الشافعية، و«الكوكب الوقاد من كتاب الاعتقاد» اختاره من كتاب الاعتقاد للحافظ البيهقي، و«التوشيح» حاشية على كتاب الحاوي الصغير للقزويني، و«الشذور» وهو ديوان مقطعات، «نسيم الصبا».

نسيم الصبا

ويُعد كتاب «نسيم الصبا» من أهم الكتب التي تركها ابن حبيب الحلبي، ويتكوّن الكتاب من ثلاثين فصلًا في موضوعات متعددة ينتظمها خيط الوصف؛ حيث تتناول بعض الفصول مفردات الطبيعة، مثل الفصل الأول «في السماء وزينتها»، والفصل الثاني «في الشمس والقمر»، والفصل الثالث «في السحاب والمطر»..، وتتّخذ بعض الفصول عالم الحيوان والطيور موضوعًا لها كالفصل الثامن عشر «في الخيل والإبل»، والفصل التاسع عشر «في الوحش»، والفصل العشرين «في الطيور»، ويهتم الفصلان العاشر «في وصف الغلام»، والحادي عشر «في وصف الجارية» بالجمال البشري، أما الأخلاق الاجتماعية والعلاقات الإنسانية فقد خُصصت لها بعض الفصول، كالفصل الرابع والعشرين، «في الكرم والشجاعة»، والفصل الخامس والعشرين «في العدل والإحسان»، والفصل الرابع عشر «في الفراق»، والفصل الخامس عشر «في الاستعطاف»، والفصل السادس والعشرين «في الشكر والثناء»، والفصل السابع والعشرين «في الهناء»، وانشغل الفصل الحادي والعشرون «في الكتابة» بالحديث عن فضل مهنة الكتابة ودور الكُتاّب البارز في المجتمع.

ويتخذ ابن حبيب من تجاربه الماضية مدخلًا للخوض في هذه الموضوعات المتشعبة، فكل فصل في كتاب «نسيم الصبا» يمثل حدثًا واقعيًا أو متخيلًا تعرَّض له المؤلف وأثَّر فيه واكتسب من خلاله خبرة إنسانية ومعرفية أراد إثباتها لكي يفيد منها غيرُه، وهو يعبر عن هذا كله بأسلوب جميل طلي يعكس حسه المرهف أمام الجمال، وبخاصة جمال الطبيعة من سماء وأنهار وأشجار وثمار، وجمال الإنسان وبديع خلقه، وقد ضمّن ابن حبيب الحلبي كتابه عددًا كبيرًا من الشواهد الشعرية له ولغيره من الشعراء.

وقد حظي كتاب «نسيم الصبا» بشهرة كبيرة منذ عصر مؤلفه إلى يومنا هذا، وقرّظه عدد من الأدباء والعلماء من أمثال الصفدي (ت754هـ)، وتاج الدين السبكي (ت771هـ)، وشمس الدين بن جابر (ت780هـ)، كما ألّف على منواله الشهاب الكوكباني (ت1151هـ) كتاب «عطر نسيم الصبا» في ثلاثين فصلًا أيضًا.

عندما تتكلم الفصول

يعد فصل «في أقسام العام» من أجمل فصول الكتاب، وفيه يرصد ابن حبيب حالة فريدة من حالات الحوار بين فصول السنة الأربعة التي يستنطقها المبدع لتبوح بعبارات ذات بنية دلالية دافقة ومفعمة بالخصوبة. يقول الراوي:

«حضرت فصولُ العام مجلسَ الأدب في يوم بلغ منه الأريبُ نهاية الأدب، بمشهد من ذوي البلاغة ومُتقني صناعة الصياغة، فقام كلٌ منهم يعرب عن نفسه، ويفتخر على أبناء جنسه، فقال الربيع: أنا شاب الزمان، وروح الحيوان، وإنسان عين الإنسان، أنا حياة النفوس، وزينة عروس الغروس، ونزهة الأبصار، ومنطق الأطيار. عرف أوقاتي ناسم، وأيامي أعياد ومواسم، فيها يظهر النبات، وتنشر الأموات، وترد الودائع، وتتحرك الطبائع، ويمرح جَنيب الجنوب، عساكري منصورة، وأسلحتي مشهورة: فمن سيف غصن مجوهر، ودرع بنفسج مشهّر، ومغفر شقيق أحمر، وترس بهار يبهر، وسهم آس يرشق فينشق، ورمح سوسن سنانه أزرق، تحرسها آيات، وتكنفها ألوية.

إن هذا الربيع شيء عجيب
تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهــب حيثما ذهـبنا ودار
حيـث درنا وفضة في الفضاء

وقال الصيف: أنا الخِل الموافق، والصديق الصادق، والطيب الحاذق. أجتهد في مصلحة... بي تتضح الجادة.. مواعدي منقودة، وموائدي ممدودة. الخير موجود في مقامي، والرزق مقسوم في أيامي...

مصيف له ظل مديد على الورى
ومَـنّ حـلا طعمًا وحلَّل أخلاطا
يعالـــج أنـواع الفواكه مبديًا
لصحـتها حفظـًا يعـجّز بقراطا

وقال الخريف: أنا سائق الغيوم، وكاسر جيش الغموم، وهازم أحزاب السموم، ... وأظهر كل معنى جلي، وأسمو بالوسمي والولي، في أيامي تقطف الثمار وتصفو الأنهار من الأكدار، ويترقرق دمع العيون، ويتلون ورق الغصون.. وفيها يكفى الناس هم الهوام، ويتساوى في لذة الماء الخاص والعام، ... بي تطيب الأوقات، وتحصل اللذات، وترق النسمات... وتسكن حرارة القلوب...

إن فصـل الخـريف وافى إلينا
يتهــادى في حلة كالعروس
غيــره كان للعيون ربيعــًا
وهو ما بيننا ربــيع النفوس

وقال الشتاء: أنا شيخ الجماعة، ورب البضاعة، ... ومن ليس له بي طاقة أغلق من دونه الباب. أميل إلى المطيع، القادر المستطيع، المعتضد بالبرود والفرا المستمسك من الدثار بأوثق العرا، المرتقب قدومي وموافاتي.... ومن يعش عن ذكري ولم يمتثل أمري، أرجفته بصوت الرعد، وأنجزت له من سيف البرق صادق الوعد... كم لي من وابل طويل المدى وديمة تطرب السمع بصوتها، وحيا يحيي الأرض بعد موتها، أيامي وجيزة، وأوقاتي عزيزة، ومجالسي معمورة بذوي السيادة، مغمورة بالخير والمير والسعادة. نقلها يأتي من أنواعه بالعجب، ومناقلها تسمح بذهب اللهب، وراحتها تنعش الأرواح، وسقاتها بجفونهم السقيمة تفتن العقول الصحاح. إن ردتها وجدت مالًا ممدودا، وإن زرتها شاهدت لها بنين شهودا:

وإذا رميت بفضل كاسك في الهوى
عـادت عليك من الدقيق عقـودا
يا صاحــب العـودين لا تهملهما
حـرك لنا عـودًا وحـرق عودا

فالنص السابق ـ في أقسام العام ـ يمكن اعتباره بناءً استعاريًا تمثيليًا لدلالة أعمق، ففصول السنة يمكن عدّها نماذج استعارية للمراحل العمرية التي تمرّ بها الذاتُ البشرية، فالربيع هو فترة الصبا والشباب، حيث الحركة الدائمة والحيوية التي يضيف بها الإنسانُ إلى رصيده الذاتي خبراتٍ ومعارف، وهي كذلك صنو النَّزق والطيش فالإمكانات الدلالية لهذه الأوصاف تمكّن من فهمها في صورة مُتوافقة مع التصوّر السابق. ويأتي النص الشعري مُلخِّصًا للحكمة الإنسانية الشاملة ففترة الصبا والشباب يُمكن النظر إليها من زاويتين مُتباينتين تعتمد كلٌ منهما على الحيز الزمني الذي يوجد فيه الرائي وهذا هو مناط عجائبيتها، فهي فترة طويلة وقصيرة في الآن ذاته؛ طويلة لمن يعايشها فيظن أنها ستدوم للأبد ويخدعه طولها ويغريه بارتكاب المعاصي، باعتبار أن طولها يسمح بالمراجعة الكفيلة بمحو ما تراكم من ذنوب، فالحياة تتبدّى في هذه الفترة في صورة تجليات جمالية خادعة «ذهبٌ، ودرٌ، وفضةٌ» مهما كانت المخاطر التي تحيق بنا وتعوقنا، وقصيرة لمن ينظر إليها بعد انقضائها، فيكتشف قصرها الشديد مُقارنة بما كان يمكن أن يفعل فيها فيشعر في أحايين كثيرة بالندم لعدم استغلال هذه الفترة على الوجه الأكمل، فيتحوّل الضحك المُعادل للنزق السابق إلى بكاء مرير مُعادل للندم الآني، والنص الشعري برصده للزاويتين يكشف ماهية الفترة ويضع الإنسان أمام حقيقة مجلوة ويتركه يختار، داعيًا إياه بشكل ضمني إلى استغلال فترة الشباب في العمل والتحصيل والمحافظة على نقائها.

والصيف هو فترة النضج التي يتخلّى فيها الإنسان عن نزقه ويفيد من تجاربه السابقة ويسعى من خلالها لاكتشاف الآخرين لكي يفيدهم ويفيد منهم، فهذه الفترة هي المنوط بها إصلاح ما اعوجّ في المرحلة السابقة «يعالج أنواع الفواكه»، فهي ركيزة الحياة التي تلقي بظلالها على بقيتها «مصيف له ظل مديد على الورى» ففيها تبرز شخصية المرء ويُصنَّف ضمن أحد الفريقين الصالح والفاسد، أما الخريف فهو ربيع النفوس، إنه فترة التأمل التي يبدأ فيها الإنسان في مراجعة ذاته واسترجاع ما مرّ به من أحداث وفق نظرة هادئة بعيدًا عن الانفعال الشبابي والانسياق وراء طموح الصبا، والرغبة في الارتقاء بالذات ولو على حساب الآخرين، إنه ربيع العمر الحقيقي، ولكن قلة من الناس هم من يستمتعون به، هؤلاء الذين يملكون صفات خاصة، إنهم أصحاب النفوس القوية، القادرون على التأمل ومُراجعة النفس وتصحيح مسارها. والشتاء هو الحالة الختامية حين تسقط زخارف الحياة الخادعة، ولا يتبقّى للمرء سوى عمله.

نلاحظ أن النص الشعري يساعد على تقريب النص من شكل المسرحية عندما ينهض بدور الجوقة؛ فالمشهد السابق يجعلنا إزاء نص يستدعي البنية المسرحية بتشكيلاتها المُتميزة ومن أهمها صوت الجوقة الذي يصلنا عبر الصوت الشعري، فالنص يمكن التعامل معه بوصفه مسرحية من أربعة فصول ، تتوزّع أدوار البطولة على أربع شخصيات «الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء» يستبدّ كلٌ منها بفصل كامل، فكل فصل يعتمد على حضور مُكثّف لإحدى هذه الشخصيات وتوار مُؤقت للشخصيات الثلاث الباقية، وتظل الشخصية تتحدّث - في الفصل الخاص بها - عن ميزاتها التي تفاخر بها في مواجهة ثلاث شخصيات التي تتدرّع بالصمت، مثلها مثل بقية الشخصيات الثانوية الحاضرة منذ البداية في إطار الفضاء المكاني المُحدّد «مجلس الأدب». وبانتهاء حديث الشخصية عن نفسها ينتهي الفصل وتعود إلى صفوف المُستمِعين، ليبدأ فصلٌ جديد تتحدّث فيه واحدةٌ من الشخصيات السابقة وتواجه الآخرين .. إلخ.

ويمهَّد لهذه البنية عبر صوت الراوي «حضر فصول العام مجلس الأدب في يوم بلغ منه الأريب نهاية الأدب، بمشهد من ذوي البلاغة، ومُتقني صناعة الصياغة. فقام كلٌ منهم يعرب عن نفسه، ويفتخر على أبناء جنسه» غير أن هذا التمهيد الذي يبدأ به الفصل يتخذ شكلًا شعريًا عندما يرد في مقام الانتقال بين الفصول أو في ختام النص المسرحي؛ ففي نهاية كل فصل يأتي النص الشعري وكأنّه التعليق الختامي الذي تنطق به الجوقة في المسرحيات القديمة، إنه تعليق موسيقي يهدف إلى إعادة تلخيص مضمون الفصل للمُشاهِد/المُتلقي، وفي الوقت ذاته تنبيهه إلى اقتراب ميلاد شخصية جديدة بملابسات جديدة، على مجرى الأحداث، وعلى أنقاض الشخصية التي يتلاشى دورها فور الانتهاء من النص الشعري، فالشعر يمفْصِل السرد لا بتقطيعه فقط، ولكن بإعادة وصله؛ فالبيت الشعري:

إن هذا الربيع شيء عـجيب
تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهــب حيثما ذهــبنا ودار
حيـث درنا وفضـة في الفضاء

بقدر ما يفصل بين حديثي الربيع والصيف ، بقدر ما يحافظ على ضمان قابلية المُتلقي للمُغايرة الدرامية التي ستحدث بظهور شخصية جديدة على المسرح، فالشعر يتحوّل هنا ـ في إطار بصري ـ إلى الستار في المسرح ، الذي يعلن هبوطُه بين الفصول انتهاءَ أحداث الفصل، ويعلن اختفاؤه بدايةَ فصل جديد وأحداث جديدة، ويختم النص المسرحي بصوت الراوي الذي يأتي في صورة شعرية:

وماذا يعيب المرء في مدح نفسه
إذا لم يكن في قوله بكذوب؟

إنه الستار الختامي الذي تنتهي الأحداث بانسداله، إنه صوت الجوقة المؤشِّر لتصاعد التجربة الدرامية، فالراوي يدرك أن تصاعد التجربة الدرامية ووصولها إلى ذروتها وفق هذا الجو التنافسي والخطاب الحجاجي الجمالي، لابد أن يقابلهما ارتقاء في الحس الجمالي للمُتلقي الذي يظل يتطوّر على مدار النص حتى يصل إلى ذروته هو أيضًا في نهاية النص، فيستجيب لهذا التصاعد مُستبدِلًا بالنص النثري المُستخدَم في البداية نصًا شعريًا يتخذ شكلًا حياديًا عندما يثبت لكل مُتلفِّظ ملفوظَه السابق، وينفي عنه صفةَ المُبالغة أو الغرور.

ما وراء الصوت

تقدّم نصوصُ الكتاب فضاءً دلاليًا متسعًا يسمح بنوع من حرية التأويل عند مقاربتها وهو ما يكشف عن مستوى أكثر عمقًا للصوت السردي، مستوى أكثر بقاء وخلودًا فيظل تأثيره يتردد وإن غاب المؤثر، كما يظل صدى الصوت يتردد مع اختفاء الصوت الأول المباشر، فقد يجهر الوصف في النص السردي التخيلي بشيء ما ومعلومة أو أكثر عن الموصوف، ولكنه وهو يفعل ذلك يقول بصفة ضمنية أشياء أخرى تمثل مركز الثقل الدلالي الذي لابد أن يبذل المتلقي مجهودًا ليكتشفه، وتعكس هذه الأمور الضمنية القابعة فيما وراء الصوت المباشر أهداف المبدع المستترة خلف مجموعة الأوصاف السطحية، وهذه الأهداف يتم اختزالها في عنصرين، هما: الدعوة للمغامرة والدعوة للتأمل.

يمكن أن نلمح تكثيفًا للإيحاء بروح المغامرة التي يتمتع بها البطل وذلك من خلال استهلالات بعض النصوص، حيث تُحشد مجموعة من القرائن المتواشجة مع عنصر المغامرة ودلالته، كرغبة البطل الملحة في السفر والارتحال، وسعيه الدءوب لاكتشاف المجهول وبحثه الحثيث عن كل ما هو جديد، فالاستهلال يكشف عن رغبة الراوي العميقة والمتكررة في إظهار البطل متمتعًا بروح المغامرة، ففي الفصل التاسع عشر (في الوحش) يُفتتح النص بعبارة «هفا بي هيف الإسفار، وطوحني بين أنكر صحبة الأسفار، إلى خرق متسع الجوانب تطول على سالكه سبائب السباسب. فسرت أطوي خيفه وصمانه، وأرض جلاميده وصوانه» فيبدو البطل هنا ذاتًا فاعلة عاشقة للسفر والارتحال، ومتجاوزة لحالة السكون المميزة للذوات الخاملة ، فهو ذات ديناميكية متطورة تمتلك طاقة ذهنية وروحية تدفعها لتجاوز واقعها المفروض عليها، واستشراف عالم مغاير يمثل واقعها الذي تصطنعه لنفسها، فعنصر الحركة الممثل لإحدى خصيصات البطل المميزة يُعد من أكثر القرائن تلاحمًا مع بنية الشخصية المغامرة التي هي ذات ديناميكية...لا تمكث طويلًا في مكانها، بل ترحل خلف الطموح والرغبة في الحصول على شيء ما، فالمغامر هو من يرمي بنفسه في غمار الأمور فيقال رجل مغامر إذا كان يقتحم المهالك، فهو الشخص المتمرد على مألوفية الواقع المعيش والساعي إلى خلق عالمه الجديد بنفسه والتواصل معه، على الرغم من إدراكه للمخاطر التي ستحيق به قبل الوصول إليه، فالبطل في النص السابق شخصية اعتادت السفر والارتحال إلا أنها تقاعست فترة عنه قبل أن تجيش بصدرها الرغبةُ الصادقة في المغامرة مجددًا، وهو على علم تام بتبعات تلك الرغبة وآليات تحقيقها «خرق متسع الجوانب تطول على سالكه سبائب السباسب..» فملفوظات (خرق، السباسب، صمّانه، خيْفه، جلاميده) تبرز حجم المشقة التي تحملها البطلُ المبئر وصولًا إلى هدفه الذي يعتّم النص على أية دلالة أخرى له غير الرغبة في المغامرة وما تنطوي عليه من رغبة في تجاوز الضعف الإنساني، فالروح الاستشرافية التي تهيمن على ذات البطل وعدم المبالاة بالصعاب في سبيل إشباع رغبة الاستكشاف تقارب بين النص المُتولِّد عن هذه الرغبة وما يطلق عليه رواية المغامرة التي يعرّفها د.الطاهر أحمد مكي بقوله «هي نسيج من أعمال تنطوي على كثير من المفاجآت والمباغتة والأحداث التي تشتمل على الأعاجيب»، فتعدد وحدات البناء الدرامي للنص ولعب المفاجآت لدور بارز في صياغته، والانزياح عن المألوف بالإضافة إلى الشخصية ذات السمات السلوكية والنفسية المميزة، كلها أمور تؤشر لرواية المغامرات وترسخ لمفهوم «الأنا المغامرة» المطروحة في النص من خلال شخصية البطل المختزِلة لتلك العناصر كافة، فالراوي ومن خلفه المبدع يقدم عبر هذه الشخصية - التي تجني ثمار مغامرتها خبرة ومعرفة ومتعة - دعوة لنا للتدرع بشجاعة المجاوزة وجسارة المفارقة ووهج الاكتشاف بوصف الإنسان كائنًا مغامرًا.

وكما كان لروح المغامرة التي يتمتّع بها البطل دور أساسي في دعوة المتلقي لممارسة حقه في المغامرة، فإن النظرة التأملية التي يتذرّع بها البطل في العديد من النصوص، تقوم بدور مهم في التأشير لما يتمتّع به البطل من خصائص تأملية تتفعل من خلال اختيار الراوي لفضاء زماني ملائم لعملية التأمل؛ فنلاحظ هيمنة فترة الليل على الأفضية الزمنية لمعظم النصوص المختزلة للبعد التأملي للبطل ، فالراوي يحرص على جعل الليل فضاء زمنيًا يحيط بالحدث ويؤطّره، فهذه الفترة هي أكثر الفترات ملاءمة لفعل التأمل بما تتيحه من إمكانات الصفاء الذهني والهدوء النسبي المحيط بالذات، بالإضافة إلى ما ترسخ في تلافيف العقل الجمعي للذات العربية وما تكرّس في ذائقتها من ارتباط حيوي بين الليل والرؤية العميقة.

فحرص الراوي على رصد ممارسة البطل دوره التأملي يقدم مؤشرًا لضرورة الاستجابة للمعطى الذي أسسته الرؤية القرآنية الداعية إلى إعمال الحواس والعقل لكي يجتاز الإنسان من منطقة معرفية إلى منطقة معرفية أكثر عمقًا تكشف له الكون وذاته وتزيده اقترابًا من خالقه جل وعلا.
-------------------------------
* أكاديمي من مصر.

----------------------------------------

ذهبَ الذينَ يعاشُ في أكنافهمْ
وبَقيتُ في خَلْفٍ كجِلدِ الأجرَبِ
لا ينفعون ولا يرجى خيرهم
وَيُعاَبُ قائِلُهُمْ وإن لَمْ يَشْغَبِ
ولقدْ أراني تارةً منْ جعفرٍ
في مثلِ غيثِ الوابلِ المتحلّبِ
مِنْ كُلِّ كَهْلٍ كالسِّنَانِ وسَيِّدٍ
صعبِ المقادةِ كالفنيقِ المصعبِ
منْ معشرٍ سنّتْ لهمْ آباؤهمْ
والعزُّ قدْ يأتي بغيرِ تطلبِ
قبرَى عظاميَ بعدَ لحميَ فقدُهم
والدَّهرُ إنْ عاتَبْتُ لَيسَ بمُعْتِبِ

لبيد

 

علاء عبد المنعم إبراهيم*