شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الخطابي .. نابليون الريف

لم يكن قائدا عسكريا مغوارا.. وما كان قد تلقى أي علوم عسكرية في أي كلية أو معهد أو أكاديمية مما يتخرج فيها القادة العسكريون.. فقد كانت كل صلته بهذه الأمور هي متابعته لهجوم شنه أبوه الشيخ قاضي منطقة مليلة على المعسكر الإسباني الذي يطل على مدينة شفشاون بالريف المغربي، عندما وجد القوات الإسبانية تنزل من معسكر تافرسيت فتهاجم مسجد المسلمين بالمدينة، وتسيء إليه وتقتل عددا من المصلين، واندفع القاضي الشيخ ومعه رجال أشداء من قبيلته "بنى ورياغل" ليرد الهجوم البربري الفرنسي وينزل بالفرنسيين هزيمة ساحقة " إلا أن الشيخ لقي حتفه في بدء الهجوم" ليتولى ابنه محمد عبدالكريم الخطابي رئاسة القبيلة.. ويصبح من بعد روح الثورة الريفية ويبدأ مرحلة جهاده الكبير ضد الإسبان.

كانت الدراسة الفقهية التي تعلمها عبد الكريم في جامعة القرويين بمدينة فاس هي كل ما يملأ مداركه حين عاد من مقر الجامعة الإسلامية الكبرى عام 1909. ولكنه لم يكتف بذلك فراح يواصل تعلم اللغة الإسبانية التي كان يفرضها الممثلون الإسبان على سكان مليلة. وإذا كان أخوه الأصغر قد تعلم معه الفرنسية إلا أن هذا الأخ اتجه لدراسة الهندسة بمدرسة المعادن بمدريد، بينما راح عبدالكريم يتنقل بين عدد من الوظائف حتى كان عام 1914 بعد سنتين من فرض الحماية الفرنسية على جنوب المغرب، ونظام الحماية الإسبانية على شماله. عندئذ أصبح عبدالكريم قاضيا على منطقة مليلة، في المنصب الذي كان يشغله أبوه من قبل. وخلال سنوات كانت العلاقات بين عبدالكريم الخطابي والسلطات الإسبانية تسوء لمعارضة أسلوب القادة العسكريين الإسبان الذين كانوا يعاملون الأهالي بطريقة شائنة، لا يحترمون خلالها كرامة رجال القبائل الريفية الغيورين على عزتهم وحريتهم.

وحدث ذات يوم أن رفض عبد الكريم مهمة طلبها منه القائد الإسباني سلفستر. وإزاء الرفض ثار القائد ودفعه غضبه إلى صفع القاضي الشاب الذي لم يتقبل الإهانة ورد الصفعة بصفعة مماثلة. ولم تمض أسابيع حتى ألقي القبض عليه ليسجن في قلعة "كباليريزاس" بمليلة بدعوى رفضه أوامر السلطات الإسبانية. وخلال فترة سجنه حاول عبدالكريم الهرب من السجن وقفز من جدار مرتفع فانكسرت ساقه اليمنى، وهو الحادث الذي جعله يصاب بالعرج ليعاد القبض عليه ووضعه في السجن. وحين عاد إلى أغادير كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت بانتصار الحلفاء، مما جعل المستعمرين الفرنسيين والإسبان يحكمون سيطرتهم أكثر على المناطق التي يحتلونها ، ويطبقون عليها قانون الغالب والمغلوب.

في ظل هذه الأحداث أدرك محمد وأخوه- وهما دون الأربعين- أنهما إما أن يكونا عميلين لإسبانيا، أو ثائرين ضدها، لأن كل المرونة التي أبدتها عائلتهما مع السلطات لم تجعل أهل الريف ينجون من الأذى الإسباني. وبدا العداء سافرا بين عبدالكريم وقبيلته ومعه أبناء الريف وبين السلطات الإسبانية. وحمل عبد الكريم نداء المقاومة وراح يكبد قوافل التموين الإسبانية أفدح الخسائر. وامتد نفوذ الأمير عبد الكريم من الريف الشرقية إلى الجبالة حيث طرد الإسبان منها، وسقط حصنها في أيدي أنصاره.. وبدأت مرحلة جديدة من الصراع.

الفرنسيون يتبعون الإسبان

على أثر ذيوع أنباء معركة "أنوال" هبت قبائل الريف لمحاصرة المراكز الإسبانية المبعثرة في أنحاء المنطقة، حتى تطهرت بلاد الريف تقريبا من الإسبان، ووصلت طلائع المجاهدين إلى ضواحي "مليلة"، حيث أسروا عددا كبيرا من الجنود، مما اضطر حكومة مدريد إلى دفع مبالغ ضخمة فدية لهم، وأصبح وجود الإسبان مقصورا على مدينة تطوان والموانئ وبعض الحصون في الجبالة.

في صيف 1924 قرر الخطابي القيام بهجوم عام، ونجحت قواته في الوصول، إلى ضواحي المدينة، ولكنها عجزت عن اجتياح أسوارها، وإن حققت انتصارات في ميادين أخرى. وقد اضطر ديكتاتور إسبانيا "بريمودي ريفييرا" إلى الحضور إلى تطوان للإشراف بنفسه على القتال ولكنه اضطر آخر الأمر إلى إخلاء ما تبقى من إقليم الجبالة.. ولا سيما حصن شفشاون.

وعندما تلاحقت هزائم الإسبان أمام عبدالكريم وقوات الريف، وجد الفرنسيون أنفسهم مضطرين- خوفا على منطقة حمايتهـم- لمساندة الإسبان، رغم التزام الخطابي بسياسة الحياد مع الفرنسيين، إدراكا منه بعجزه عن مواجهة دولتين كبيرتين في وقت واحد. ولكن عبدالكريم اضطر لمواصلة القتال عندما دخلت فرنسا بقواتها إلى جانب الإسبان واستطاعت قواته الصمود سنة كاملة من مايو 1925 حتى مايو 1926 في وجه الجيشين الاستعماريين، وبرغم بسالة الريفيين، فإن الإسبان نجحوا- بمعاونة أحدث وسائل قاذفات القنابل التي يقودها طيارون أمريكيون مرتزقة، وبمساندة البحرية الفرنسية- في إنزال جنودهم قرب خليج الحسيمة المواجه لأغادير، واستولوا على مقر قيادة الخطابي. وبرغم محاولات الخطابي مهادنة القوات الغازية، فإن القوات المشتركة استعدت لخوض آخر جولة في هذه الحرب المدمرة، فأعدت ثلاث حملات اتجهت في وقت واحد من طرق مختلفة إلى حصني تركيست الذي اتخذه الخطابي مقرا له بعد سقوط الحسيمة وأغادير.. وبسقوط الحصن شعر الخطابي أن قبائل الريف أنهكت وأنها لم تعد قادرة على خوض حرب العصابات ضد الدولتين، فآثر تسليم نفسه للفرنسيين دون الإسبان باعتبارهم أهون الشرين. اكتفت فرنسا بنفيه إلى مستعمرة ريونيون في المحيط الهندي.. ليهرب منها بعد ذلك ويلجأ إلى مصر التي حبت به باعتباره مجاهدا في سبيل الاستقلال.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الخطابي نابليون الريف