جمال العربية

جمال العربية

الشاعر: أبواللغة وأمّها
كل إبداع جديد هو اختراق لفضاء اللغة، وشق لطريق جديدة، لم يعتد من قبل، من هـنا، يصبح الإبداع الحقيقي مغامرة، وإبحارا في المجهول، وصفحات عن الدهشة تخلعنا مما ألفناه، وتفاجئنا بما لم يخطر على بال.

وقد كان المبدع المهجري بالقلم واللون: جبران خليل جبران، مسكونا بهاجس الجدة والمغايرة، نافرا من الوقوع في هوة التقليد وأسر التقاليد، مؤمنا دوما بأن الشاعر الحق هو الذي يمتلك اللغة ويضخ في شرايينها روافد الحياة، ويكسبها في كل يوم ألوانا وظلالا ونوافذ وشرفات.

يقول جبران في معرض تناوله لجمال العربية، وروعة الإبداع الشعري، محذرا من الجمود والموت: إن خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه، فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر، وهو الواسطة بين عالم النفس وعالم البحث، وما يفرزه عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين.

الشاعر أبواللغة وأمّها، تسير حيثما يسير، وتربض أينما يربض، وإذا ما قضى، جلست على قبره باكية منتحبة، حتى يمر بها شاعر آخر، ويأخذ بيدها.

وإذا كان الشاعر أبا اللغة وأمها، فالمقلد ناسج أكفانها وحفّار قبرها.

ثم يقول جبران:

أعني بالشاعر: كل مخترع، كبيرا كان أو صغيرا، وكلّ مكتشف، قويا كان أو ضعيفا، وكل خلاق، عظيما كان أو حقيرا، وكل محب للحياة المجردة، إماما كان أو صعلوكاً، وكل من يقف متهيبا أمام الأيام والليالي، فيلسوفاً كان أو ناطوراً للكروم.

أما المقلد: فهو الذي لا يكتشف شيئا ولا يخلق أمراً، بل يستمد حياته النفسية من معاصريه، ويصنع أثوابه المعنوية من رفع يجزّها من أثواب من تقدموه.

وأعني بالشاعر: الملاح الذي يرفع للسفينة ذات الشراعين شراعا ثالثا، والبناء الذي يبني بيتا ذا بابين ونافذتين من بيوت كلها ذات باب واحد ونافذة واحدة، والصباغ الذي يخرج الألوان التي لم يمزجها أحد قبله، فيستخرج لونا جديدا، وهكذا يضيف كل من الملاح والبناء والصباغ شراعا جديدا إلى سفينة اللغة، ونافذة إلى بيت اللغة، ولونا إلى ثوب اللغة.

أما المقلد: فمقلد حتى في حبّه وغزله وتشبيبه، فإن ذكر وجه حبيبته وعنقها، قال: بدر وغزال، وإن خطر على باله شعرها وقدّها ولحظها، قال: ليل وغصن بان وسهام، وإن شكا قال: جفن ساهر، وفجر بعيد، وعذول قريب، وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانية، قال: حبيبتي تمطر لؤلؤ الدمع من نرجس العيون لتسقي ورد الخدود وتعض على عنّاب أناملها ببرد أسنانها!

أعني بالشاعر: ذلك المتعبدالذي يدخل هيكل نفسه فيجثو باكيا فرحا نادبا متهللا، مصغيا مناجيا، ثم يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبارته التي تتجدد في كل يوم، وأنواع انجذابه التي تتغير في كل ليلة، فيضيف بعمله هذا وترا فضياً إلى قيثارة اللغة، وعودا طيبا إلى موقدها.

أما المقلد: فهو الذي يردد صلاة المصلين وابتهال المبتهلين، دون إرادة ولا عاطفة، فيترك اللغة حيث يجدها، والبيان الشخصي حيث لا بيان ولا شخصية.

وأخيرا، يقول جبران:

الشعر- يا قوم- روح مقدسة متجسّمة من ابتسامة تحيي القلب، أو تنهيدة تسرق العين مدامعها، وأشباح مسكنها النفس وغذاؤها القلب، ومشربها العواطف، وإن جاء الشعر على غير هذه الصورة فهو تقليد كاذب!

قلب الشاعر

ويحملنا قلم مصطفى لطفي المنفلوطي إلى فضاء لغوي مغاير: لغة وأسلوبا وهندسة تركيب، وروحا بيانية وبلاغية تنتمي إلى روح عصر أدبي يغاير أفق جبران وطرائقه في القول والإبداع.

وفي تناوله لقلب الشاعر وما يجيش فيه من مشاعر وخواطر، وما يرتطم فيه من عوالم وآفاق، يقول المنفلوطي رقيق العبارة، المحكم النسج الذي يجيد دوماً تصوير الشعور الحزين:

أنت شاعر يا مولاي، وقلب الشاعر مرآة تتراءى فيها صور الكائنات، صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فإن أعوزتك السعادة، ففتش عنها في أعماق قلبك، فقلبك الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه.

السماء جميلة، والشاعر هو الذي يستطيع أن يدرك سرّ جمالها، ويخترق بنظراته أديمهـا الأزرق الصافي، فيرى في ذلك العالم العلوي النائي مالا تراه عين، ولا يمتد إليه نظر.

والبحر عظيم، والشاعر هو الذي يشعر بعظمته وجلاله، ويرى في صفحته الرجراجة المترجحة صور الأمم التي طواها، والمدن التي محاها، والدول التي أبادها وهو باق على صورته لا يتغير ولا يتبدّل، ولا يبلى على العصور و الأيام.

والليل موحش، الشاعر هو الذي يسمع في سكونه وهدوئه أنين الباكين وزفرات المتألمين، وأصوات الدعاء المتصاعدة إلى آفاق السماء، ويرى صور الأحلام الطائفة بمضاجع النائمين وخيالات السعادة أو الشقاء الهائمة في رءوس المجدودين المحدودين.

ثم يقول المنفلوطي:

أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذا السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنفل ما شئت في جنباته وأكنانه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله، ورءوس أشجاره وضفاف أنهاره، فأنت لم تُخلق للسجن والقيد، بل للهتاف والتغريد.

ميلاد شاعر

ويحملنا الشاعر الملاح علي محمود طه إلى أفق بعيد مغاير، نطالع من خلاله صورة الشاعر الذي يحمل عصا ساحر وقلب نبي، وتتجلى فيه لمحة من أشعة الروح، بل هو ملك قد جاء في صورة الإنسي، يتزيّا بسحر البيان، وري العقول الظمأى، ويترع الكون من مجالي إشراقاته وفيض فتوحاته وتجلياته، هي إذن الصورة الرومانسية المفعمة بالخيال المجنح والعاطفة المتأججة، والهـواجس المدوّمة يرسمها علي محمود طه لنموذج الشاعر كما يراه، ويرسم لميلاده عرسا بهيّاً سنياَ يشارك فيه الكون كله ويحتفي، أليس ما نشهده ميلاد شاعر؟ أجل، وأي ميلاد؟!

يقول علي محمود طه في قصيدته "ميلاد شاعر":

هبط الأرض كالشعاع السنيّ

 

بعصا ساحر وقلب نبي

لمحة من أشعة الروح حلّت

 

في تجاليد هيكل بشري

ألهمت أصغريه من عالم الحكمة

 

والنور كل معنى سريّ

وحبته البيان ريّا من السحر

 

به للعقول أعذب ري

حينما شارفت به أفق الأرض

 

زها الكون بالوليد الصبيّ

وسبى الكائنات نور محيّا

 

ضاحك البشر عن فؤاد رضي

صور الحسن حوم حول مهد

 

حُفَّ بالورد والعمار الزكيّ

وعلى ثغره يضيء ابتسامٌ

 

رفّ نورا بأرجوان نديّ

وعلى راحتيه ريحانة تندى

 

وقيثارة بلحن شجيّ

فحنت فوق مهده تتملى

 

فجر ميلاد ذلك العبقري

وتساءلن حيرة: ملكٌ جاء

 

إلينا في صورة الإنسي؟

من تُرى ذلك الوليد الذي هـشّ

 

له الكون من جماد وحيّ؟

من تراه؟ فرن صوت هتوف

 

من وراء الحياة ناجى الدوي

إن ما تشهدون ميلاد شاعر!

وتتدفق شاعرية على محمود طه وتنثال مقاطع قصيدته، حاملة معجمه الشعري الذي يميز عالمه، وهو المغرم بالحسن، المفتون بالجمال المتعقب لمجاليه في كل حال، والذي تتابع صوره الأخاذة ناطقة بعرام مشاعره ونشوة افتتانه، ونهمه بالحياة والوجود، حتى لكأنه يتشرب الطبيعة بألوانها ومباهجها، ويتحسس الوجود بقسماته وملامحه وتضاريسه، ويعانق كل قطرة ضوء وكل بوحة عطر وكل نفحة نسيم، صائغا من تفاصيل هذا الوجود الجميل ونمنمات هذا العالم الفاتن، ملامح أفقه الشعري وحبات عقده الشعوري.

يقول علي محمود طه في ختام قصيدته "ميلاد شاعر":

وتجلى الصدى الحبيب الساحر

 

في محيط من الأشعة غامر

وسكون يبث يبث في الكون روعا

 

وقفت عنده الليالي الدوائر

واستكان الوجود والتفت الدهر

 

وأصغت إلى صداه المقابر

لم يبن صورة ولكن رأته

 

بعيون الخيال منا البصائر

قال يا شاعري الوليد سلاما

 

هزت الأرض-يوم جئت- البشائر

فإليك الحياة شتى المعاني

 

وإليك الوجود جمّ المظاهر

لا تقل كم أخ لك اليوم في الأرض

 

شقي الوجدان أسوان حائر

إن تكن ساورته في الأرض آلام

 

وحفت به الحدود العواثر

فلكى يستشف من خلل الغيب

 

جمالا يذكي شباب الخواطر

ولكي ينهل السعادة من نبع

 

شهي الورود عذب المصادر

فلكم جاء بالخيال نبيّ

 

ولكم جُنّ بالحقيقة شاعر

أيها الشاعر اعتمد قيثارتك

 

واعزف الآن منشداً أشعارك

واجعل الحب والمال شعارك

 

وادع ربّا دعا الوجود وبارك

زها وازدهى بميلاد شاعر!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات