إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

المواقع تختلف والرجال باقون

كان هادئا في كلماته، مقنعا في أسلوبه، عقلانيا في تفكيره، هذا هو الدكتور محمد الرميحي كما عرفته أيام الجامعة، ولا أعتقد بعد تلك السنوات أن هذه الصورة قد اختلفت كثيرا، كان ذلك في العام 1976 وكان هو أستاذا لعلم الاجتماع ورئيس تحرير لمجلة مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية التي قام بتأسيسها ولم أكن أعرف حين جمعتني غرفة الدراسة المزدحمة مع عشرات الطلاب جاءوا للاستماع إلي محاضرته أنها سوف تجمعني مع هذا الرجل علاقة أقل ما يقال فيها أنهـا علاقة قدرية. ما أثار اهتمامي في تلك المحاضرة الأولى أنها لم تقتصر على العلم بمعناه الجامد، ولكنها كانت رحلة في كل صنوف المعرفة فقد كانت له وقدرة آسرة على المزج بين المنهج الدراسي وقضايا المجتمع بحيث يجعلنا نرى كل شيء بمنظار نقدي جديد وقد بدا ذلك واضحا في كتبه ومقالاته في الصحف اليومية التي كانت تثير جدلا ساخنا. مرت كثير من السنوات علي هذا اللقاء الأول وسافرت إلى المملكة المتحدة لدراسة الدكتوراة في جامعة (هل- Hull) وحين عدت إلي الكويت في إجازة عيد الفصح في إبريل عام 87، وجدت عرضا محددا منه بالعمل في مجلة العربي وعندما قلت له إنه لا توجد لي خبرة بالعمل الصحفي، وأن طموحي كله يتركز في العمل الجامعي أكد علي أن المهم هو الحماس، وأن الخبرة هي شيء قابل للاكتساب، وأنه هو نفسه ترك الجامعة من أجل هذا العمل. ألم أقل لكم إنه كان مقنعا؟ لقد جعلني هذا العرض أنتقل من الجامعة في أكتوبر 1987 لأتولى عملي في مجلة العري، وأجد نفسي فجأة في خضم قضايا الثقافة العربية، ولم تكن الرحلة سهلة، فقد جاء الغزو من الشمال مثل إعصار مدمر، وكان الرميحي واحدا من الأصوات الكويتية الشجاعة التي رفضت محاولة الغزاة محو اسم الكويت من خارطة الوجود، فأصدر في لندن القبس الدولي ثم جريدة صوت الكويت تعبيرا عن مشاعر عشرات الشرفاء الذين وقفوا مع الكويت حتى تحررت أرضيها وكان لي أيضا شرف خوض تجربة الصحافة اليومية من مدينة لندن، وقد كانت تجربة ثرية أضافت بعدا آخر بعلاقتي بالدكتور الرميحي. لقد قضينا معا 18 عاما من الصداقة والعمل هي عمر تجربته في مجلة العربي، وأشهد أن العمل بجانبه كان تجربة فريدة، فهذا الرجل الهـادئ الطبع تحتدم داخله عشرات المشاعر والقضايا، وله قدرة على تحويل الأفكار إلى وقائ ع ومواجهة الشدائد بنفس شجاعة وواثقة وأتمنى أن أكون قد تعلمت منه بعضا من هذه الصفات بجانب ما استفدته منه من خبرة مهنية. لقد كان أهم الدروس التي تعلمتها أن العمل الثقافي رسالة لا تنتهي، وأن الدور الذي تقوم به الكويت في هذا الشأن في حاجة إلى عزائم الرجال، لا يهم الموقع، ولكن المهم الفاعلية والتأثير لذا فإن الدكتور الرميحي يودع هذا الشهر موقعه في مجلة العربي ليقوم بأعباء المشروع الثقافي الكويتي من موقع آحر بينما يتحمل الدكتور سليمان العسكري مسئوليته مستكملا مسيرة طويلة وأساسية قضاها في تكوين ملامح هذا المشروع الذي يشهـد له كل المثقفين العرب بالنضج والأصالة إنه وطن غنى بالرجال القادرين على تحمّل مختلف أنواع الأعباء والمساهمة فيها بكل ما في نفوسهم من خبرات غنية وحس قومي لقد اختلفت المواقع؛ ولكن الفكر باق.

 

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات