ناتانايل سيشل العالمة.. عبود عطية

ناتانايل سيشل العالمة.. عبود عطية
        

          تمثل هذه  اللوحة نموذجاً  معبراً عما يمكن لفنان أن ينجزه بالاعتماد فقط على قدرته الذاتية وذوقه وخياله وثقافته العامة، بعيدًا عن الواقع المرئي والمعيش.

          «العالمة»، كما هو معروف، امرأة تعتاش من الغناء والرقص في حفلات الأفراح والمناسبات. وقد عرف الأوربيون «العوالم» من خلال كتابات بعض المستشرقين، ومنها على سبيل المثال الوصف المسهب الذي كتبه الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير في رسالة بعث بها إلى صديقه لويس بويا في مارس 1850م.

          أما رسام هذه اللوحة فهو الألماني ناتانايل سيشل الذي ولد عام 1843م في ماينز، ودرس في أكاديمية الفنون في برلين ، وعاش سنتين في روما (1866م -1868م) وزار باريس قبل أن يعود عام 1874م الى برلين التي استقرا فيها نهائياً حتى وفاته عام1907م.

          برع سيشل في رسم الصور الشخصية، غير أن أكثر أعماله شعبية، هي لوحاته الاستشراقية، ولوحة «العالمة»، المحفوظة حالياً في متحف الأرميتاج قد تكون واحدة من أفضلها.

          يمكن لمتأمل هذه اللوحة أن يستنتج فوراً أنها من بنات خيال الرسام ، وأن صاحبنا لم ير عالمة حقيقية في حياته،  فالآلة الموسيقية (الجنك) هي آلة الصالونات الأوربية، وليست أبداً من آلات عوالم الأفراح والمناسبات.حتى في شكلها تبدو هذه الآلة غير حقيقية «بلديًا» على الأقل. إذ إن صناعة آلات موسيقية (أو أي شيء آخر)، على الطراز الفرعوني، كان رائجًا في أوربا خلال القرن التاسع عشر، ولكن ليس في مصر أو أي من البلاد العربية.

          إلى ما تقدم، هناك مراسلات شكلية تبدو أكثر أناقة من أن تكون حقيقية.

          فالزخارف  الوردية المستوحاة من زهرة اللوتس والتي تزين قماش ثوب المرأة، هي نفسها على الجزء الخشبي من الجنك. وزخارف السجادة تتكرر داكنة حتى السواد على الجدار، وغطاء الرأس يتخذ الشكل نفسه عند المرأة وعند أبو الهول الصغير في الجنك.

          وإذا كان من الصعب دحض أصلية الثوب الذي ترتديه هذه المرأة لأن أثواب السيدات في الحفلات تبقى غير محددة المعالم والخطوط والشكل حتى في عصرنا، فإن المبخرة في المقدمة تبدو أقرب بشكلها إلى المباخر الصينية أو تلك الآتية من التيبت....!

          وإذا كانت الحلي الذهبية الظاهرة في هذه اللوحة تبدو واقعية و«أصلية» في هويتها،  شأنها في ذلك شأن الخف والسجادة ... فمن المرجح أن الفنان قد رأى هذه الأشياء في باريس، التي عرفت منذ العقد الأول من القرن التاسع العشر تفشي إنتاج سلع شرقية الطرز وخاصة الفرعوني منها.

          عبقرية الفنان كما تظهر في هذه اللوحة ، تكمن في جمع كل هذه الأشياء من لاشيء أمامه، وبناء لوحة متوازنة شكلاً يشع منها مناخ كان أبناء ذلك العصر يحلمون بالاقتراب منه والعيش فيه ، ويتوجه متوازناً الى أعين هؤلاء وإلى وجدانهم أيضًا.

 

عبود عطية   





ناتانايل سيشل (1843م-1907م)، «العالمة»، 1886م ، زيت على قماش، (153-92سم) متحف الإرميتاج، روسيا