لم يكن مصطفى فرّوخ صاحب قامة فنية شاهقة فقط، ولكنه كان
ناقدًا ثاقب البصيرة ومؤرخًا متعمّقًا في الفن، لذا فهو مؤسس حقيقي لتاريخ الفن
اللبناني الحديث.
ترك الفنان مصطفى فرّوخ حوالي 5000 لوحة بمختلف التقنيات بيعت في
لبنان والخارج، وله أيضًا كتب مطبوعة عدة: «رحلة إلى بلاد المجد المفقود» وهي عبارة
عن دراسة لفن العمارة والزخرفة في الأندلس، ثم كتاب «قصة إنسان من لبنان» يحكي فيه
قصة حياته بشكل قصصي. ثم «الفن والحياة» وهو عبارة عن مجموعة مقالات تبحث في الفن
وارتباطه بالحياة. وكتاب «طريقي إلى الفن» وهو في معظمه نقد فني في صيغة السيرة
الذاتية وتاريخ الفنون. وكتاب «وجوه العصر»، ويتضمن رأي الفنان فرّوخ في فن
الكاريكاتور وصور لمعظم أعماله الكاريكاتورية. كما ترك مفكرة يومية تتضمن مذكراته
وآراءه في الفن والمجتمع والوسط السياسي وحال البلاد والعباد، في حقبة مفصلية من
تاريخ لبنان. فقد عايش نهاية الحكم العثماني والحرب العالمية الأولى، ثم حقبة
الانتداب الفرنسي وقيام دولة لبنان الكبير والمؤسسات، فالانتقال إلى مرحلة
الاستقلال من عام 1943 حتى وفاته عام 1957. كما ترك كتابًا يتضمن آراءه السياسية
حول حقبة الاستقلال اسمه «صوت الحق» ينطوي على نقد لاذع لسياسة تلك الحقبة وساستها.
وقد عمل في قطاع التعليم فترة طويلة حيث درّس مصطفى فرّوخ الرسم في الجامعة
الأمريكية في بيروت، وفي دار المعلمات الرسمية، وألقى العديد من المحاضرات حول
الفن والحياة والمجتمع في الندوة اللبنانية. وعرضت لوحاته في متاحف ومعارض عالمية
في روما وفرنسا ونيويورك وغيرها، كما دخل اسمه في قاموس الفن العالمي عام 1950
"Benezit".
قفزة نحو النهضة
إن نشأة مصطفى فرّوخ في بيئة متواضعة ومجتمع متزمت أوائل القرن
العشرين، أضفى على شخصيته منذ نعومة أظفاره، الحس النقدي والتمرّد المحصن بالمعرفة.
وقد عاش غربة روحية مرة بين ما تضطرم به موهبته من طموح وعزم وعصامية واجتهاد
مثابر، وبين قيم اجتماعية سائدة هي محصلة لنظام اجتماعي وسياسي وديني كان فيها
الفن، وخاصة فن التصوير «محرمًا» آنذاك، ما يطرح سؤالاً بديهيًا حول كيفية تطور
مهارته الفنية، خاصة أنه فتح عينيه في بيت كل ما فيه بسيط، وفي حي البسطة التحتا
حيث لا معالم فنية فيه ولا ما يلهب الخيال. وقد كتب فرّوخ في مذكراته يقول بأنه لم
يرَ صورة زيتية أبدعتها يد فنان قبل العاشرة من عمره وقبل أن يزور الفنان حبيب سرور
في محترفه عام 1916. بل كان يرسم كل ما تقع عليه عيناه الواسعتان: الوجوه، المراكب،
البحر والمرفأ، السوق والباعة والناس. وبالرغم من ظهور موهبته في الرسم في سن مبكرة
جدًا في الرابعة أو الخامسة من عمره وما رافقها من نهرٍ وموقف عدائي من أهله
وجيرانه وبعض المشايخ لاعتقاد سائد بأن الرسم في الإسلام «حرام». لكن الفنان في
داخله، تحصن غريزيًا بعزم ومثابرة، جعلاه يبني عالمه الداخلي في صندوق الألوان
ويحرسه بأحلام السفر والدراسة. شجّعه بعض أساتذته وعدد من الوجهاء البيروتيين،
وخاصة الشيخ مصطفى غلاييني وصلاح لبابيدي. تعلم مبادئ الرسم عند ابنة أحد المصورين
الفوتوغرافيين جولي لند ثم في محترف الفنان حبيب سرور الذي علّمه وشجعه على السفر،
ودراسة اللغة الإيطالية والفرنسية. بعد الحرب العالمية الأولى لم يعد فرّوخ إلى
الدرس في مدرسة نظامية، بل كان يدرس على نفسه، أو يذهب إلى المدارس الليلية لتعلّم
الفرنسية والإيطالية، وفي النهار يرسم ليحصّل المال. وكانت عدته للرسم السليقة
والذوق والموهبة الفطرية، ونصائح حبيب سرور التي كان يسديها إليه دائمًا. في
عام 1921 تعرف على الفنان خليل الصليبي.
وفي عام 1924 تجمع لدى مصطفى فرّوخ مبلغ من المال يكفي لأن يسافر به
إلى إيطاليا. درس في الأكاديمية الملكية للفنون في روما، كما درس في مدرسة خاصة
للتمرن. وقد ساعده المونسينيور شديد في مدرسة الكهنوت الماروني في روما، ورعاه طيلة
فترة إقامته ودراسته.
انفتحت أمام فرّوخ أبواب المعرفة الفنية على مصراعيها، فامتشق الريشة
والقلم وراح يسجل ويرسم كل ما تقع عليه عيناه بنهم. عمل ليلاً نهارًا لتعلّم مبادئ
الرسم وعلم التشريح وعلم المنظور ونظريات اللون والضوء، وزار كل متاحف روما وقصورها
وكنائسها خاصة فيلا بورغيزي المتحف الفني الشهير، حيث كان يستنسخ أعمال الفنانين
الطليان الكبار. وأكب على دراسة تاريخ الفن العالمي وخاصة عصر النهضة حيث تعمّق في
أصول فن العمارة وفن النحت وفن التصوير، وزار فلورنسا والبندقية ونابولي وبومبي
وبولوني وميلانو وتورينو الزاخرة بالفنون. درس في الأكاديمية الفرنسية للفنون في
روما ليلاً، كما درس في مدرسة فن الزخرفة في روما. وتخرّج فيها بالجائزة الأولى،
شارك خلال دراسته في بينالي روما بلوحتين «صورة غروب الشمس وغروب الحياة» و«صورته
الشخصية أمام المرآة» عام 1926. وقد تحقق حلمه الكبير بأن تعلق لوحاته إلى جانب
كبار فناني العالم الغربي وكان فرحه بذلك عظيمًا حيث كتبت عنه الصحف الإيطالية:
«Ilpopolo» و«Messagero».
وقد ودع إيطاليا بعد نيله الدبلوم ممتلئًا بمعارضها الفنية، ومدركًا
بأنه حان الوقت لزيارة باريس ليجمع بين الاطلاع على «الفن القديم الكلاسيكي في
إيطاليا والفن الحديث في فرنسا». فكتب يقول قبل سفره إلى باريس في 25 يوليو عام
1927: «حينما كنت أدرس تاريخ الفن أحسست بالحاجة إلى الذهاب إلى باريس والاطلاع
على الروائع المخزونة فيها، لأن باريس هي في الوقت الحاضر عاصمة الفن الحديث ومحور
حركته ومنها يشع كل تطور فني في يومنا. ثم إن باريس مدينة للعلم والنور لا يصح
لامرئ أن يصل إلى أوربا ولا يزورها». ولكن بقيت روما مهد الفن الأول ومحجته الدائمة
للمعرفة والجمال لديه حيث زارها لاحقًا أربع مرات للاستزادة من فنونها إذ يقول «إن
روما هي موطن روحي لي».
باريس وصدمة الحداثة
«إن باريس كبيرة، ومصطفى صغير فكيف العمل؟»
بهذه العبارة يسجل فروخ في مذكراته رعشة الانبهار والخوف التي اعترته
في باريس فيقول «لم يستطع دماغي الفني تحمل كل هذا، هذا وأنا قادم من روما، من بلد
أوربي وليس من أحد بلدان الشرق الساكن المطمئن. إنني أحسست كأني ريشة في مهب الريح
أو ذرة في خضم مترامي الجوانب، واسع الأطراف، فقلت في نفسي: رباه.. ما هذا؟ إن
باريس كبيرة ومصطفى صغير فكيف العمل؟».
غير أن الله ألهمه أن ينظر حواليه، فوجد مكتبة اشترى منها دليلاً
لباريس حيث بدأت رحلته الجديدة مع عاصمة الفن الجديد. وأول خطوة قام بها هي زيارة
المطران فارس وكيل الطائفة المارونية في باريس كما فعل حين زار روما، وقد ساعده
على الإقامة وتدبر أموره.
قدمت باريس للفنان الشاب فرّوخ كل مستحضرات الحداثة وثقافات الشعوب
العريقة على أنواعها (الآثار المصرية والآشورية والفينيقية والبابلية والفارسية
والإغريقية والرومانية وعصر النهضة الإيطالية ثم الفن المسيحي والإسلامي والفن
الفرنسي). وقد تجاورت في متحف اللوفر الشهير، وهو أول ما قام بزيارته في باريس. روى
فيه عطشه للفن وكان أول من يدخله صباحًا وآخر من يتركه مساءً. متعمقًا، متبحرًا
بخصوصية كل مدرسة فنية، وكل فنان، وقد ترك تعليقات غاية في الدقة النظرية في
مذكراته حول انطباعاته في اللوفر، متطرقًا - بالطبع - للثورة الفنية، التي قامت في
الفن الفرنسي مع الانطباعيين حيث يقول عن أعمال مونيه ومانيه وديغا وسيسلي ورينوار
«في هذه اللوحات نرى التجدد في التفكير واللون والرسم والإدراك والنظر... لقد ساروا
بالفن نحو التجدد فبلغوا ذروته في لوحات سيزان». ويقف بالإطراء عند الانطباعية. أما
التيارات التكعيبية والوحوشية والمستقبلية وغيرها من طفرات الحداثة فاعتبرها فّروخ
«قد خرجت عن صفاء الفن الجميل»، و«أن روحًا خبيثة وخفية اندست فحوّلت الفن عن طريقه
السوي لغايات غير شريفة مع ما بثته في الأدب والاجتماع والسياسة، فنفثت فيها سمومها
القاتلة، فطلعت علينا بأمثال بيكاسو Picasso ودوفي Duffy وماتيس: دجالي الفن الذين
مسخوا الفن والأخلاق وكدّروا صفاء الفن الجميل بأساليبهم ليتاجروا به وليفسدوا
أذواق الناس».
إن تربية فّروخ الفنية الجمالية على الفنون الكلاسيكية في روما،
والدراسة الأكاديمية فيها، حالت بينه وبين تقبّل ما يتمخض عنه المجتمع الصناعي في
فرنسا. من مفاهيم حداثية معاصرة، كانت عبارة عن تهشيم لكل القيم الكلاسيكية السوية،
وخلق مفاهيم وبنى تأليفية جديدة تعكس واقع النظام الرأسمالي وحركة العرض والطلب في
السوق الفني. فتوقف في فنه لاحقًا عند حدود الانطباعية منسجمًا مع ذاته وقناعاته
دون حرق للمراحل، كما فعل العديد من الفنانين اللبنانيين الذين استهوتهم تيارات
الحداثة وبالغوا في تقليدها ونقلوها نقلاً حرفيًا، بالرغم من فارق التطور السياسي
والاجتماعي والاقتصادي والتاريخ والجغرافيا.
كان فرّوخ مسكونًا بهواجس النهضة القومية، وتطور المجتمع واليقظة
الحضارية، لذا نراه في كتاباته دائم المقارنة بين مجتمع وطنه والمجتمع الغربي بين
حضارة الشرق وحضارة الغرب، بين حضارة روما الكلاسيكية وحضارة فرنسا المتجددة
الثورية فيقول: إن فن روما فن رصين مطمئن، بينما فن باريس فن صاخب ثائر». وكانت
زياراته لمتاحف باريس (اللوكسمبورغ وفرساي) وجامعاتها وكنائسها وبعض غاليريهاتها قد
ألهب فيه الحماس للمشاركة في صالون باريس الرسمي، حيث عرضت لوحاته إلى جانب كبار
فناني الغرب في هذا الصالون ثلاث مرات. تزامن وجود فرّوخ في باريس مع وجود الفنان
عمر الأنسي وقيصر الجميل حيث ربطته بهما أواصر الصداقة والفن. كما التقى في باريس
بالفنان يوسف الحويك النحات اللبناني الكبير (1883 - 1962).
لقد فتحت باريس أمام فرّوخ طريق الريادية في الانطباعية في الفن
اللبناني حيث كان من أوائل الفنانين الانطباعيين في جيله إلى جانب الجيل الانطباعي
اللبناني الأول: عمر الأنــسي (1901 - 1969)، قيصر الجميل (1898 - 1958)، صليبا
الدويهي (1912 - 000)، رشيد وهبي (1917 - 000). كما بثت باريس في شرايين لوحته
اليقظة اللونية ومعادلة الزمن والنور، والزمن واللون. فعاد إلى الشرق ليعيد اكتشاف
نورانيته ولعبة الانطباع الذاتي في مواجهة متغيرات الطبيعة والإنسان والحياة. في
طريق عودته إلى بيروت عام 1927 زار اليونان وآثارها وتركيا ومعالمها الفنية. وأقام
أول معرض له في عام 1928 في دار الوجيه أحمد بك إياس. احتفلت به بيروت وأهلها
ومثقفوها والصحافة، وكان هذا أول معرض فردي لفنان بيروتي يصوّر موضوعات اجتماعية.
ثم أقام معرضًا في الجامعة الأمريكية عرض فيه لوحات من مختلف الأنواع الفنية:
المنظر الطبيعي، البورتريه، اللوحة التاريخية، صور الحياة والبيئة. أما لوحات
العاريات فهو لم يعرضها لقناعته بأن مستوى ثقافة الناس آنذاك لا تحتمل رؤية أجساد
عارية، متوخيًا إيقاظ فكرة الجمال في هذا الوطن، حيث يقول بأنه أراد أن يتجه بالفن
«وجهة قومية نحن بأشد الحاجة إليها».
المجد المفقود
على الرغم من النجاح الذي حققه في معارضه الأولى أواخر العشرينيات في
بيروت وأوائل الثلاثينيات، بقي فروخ مجدًا، تتقد في نفسه شعلة الفن، جاهدًا في
التوازن: عين على الغرب، وعين على الشرق، الواقع والحلم، الدور النهضوي في بيروت،
ومجد العالمية والفن الحديث في باريس.
الناقد والمؤرخ
إن إعادة قراءة نتاج الفنان مصطفى فرّوخ اليوم، الفني والنقدي، اللوحة
والنص، يفرض حتمية وضع الأمور في نصابها التاريخي، وإحقاق الفنان فروخ بوصفه أحد
أعمدة النهضة الفنية والثقافية في لبنان مستهل القرن العشرين. ولعل ميزة فرّوخ
المجتهد الأكبر، هي في كونه أمضى وقته في الدراسة في أوربا متأبطًا الريشة والقلم
معًا، مسجلاً أفكاره وأحاسيسه ومشاهداته على دفتر محفوظ دائمًا في جيبه، بوصفه رفيق
الدرب والشاهد على ما ترى العين ويرف له القلب، وينبهر به العقل.
ففي قراءة نقدية متأنية لنصوصه التي نشرت في كتبه، نكتشف ريادية ناقد
فني كبير، ومؤرخ للفنون، وواضع لأسس لغة نقدية عربية سليمة معرفيًا، أصيلة الرؤية،
علمية من حيث الدقة في المصطلحات الفنية، وجدانية الأحاسيس، ومتينة الجذور في
المقارنة والمقاربة بين الأساليب والمدارس والحضارات الفنية. لقد كشف كتابه المبكر
«رحلة إلى بلاد المجد المفقود» عن ميلاد ناقد فني ومؤرخ للفن العربي في اللغة
العربية قاطبة عام 1933. مظهرًا موهبة أدبية، نقدية أدخلت إلى اللغة العربية قاموس
لغة فنية جديدة تقوم على المعرفة المتعمقة بتاريخ الفن ومراحل تطوره، وخصوصية
مدارسه وأساليبه، وتتسم بالقدرة على النفاذ إلى باطن العمل الفني وكنه سر بطانته
الروحية والمادية، الجمالية والتقنية، مع قدرة فائقة على حسن المقارنة والمفاضلة
بين الأساليب والطرز الفنية حيث يقول في وصف جامع قرطبة مقارنًا بين خصوصية الحضارة
الرومانية والحضارة العربية: «إن الباحث المنقب يلمس في هندسة هذا الجامع، ومن خلال
خطوطه الجامدة بظواهرها الفنية، روح الجد والرصانة والإيمان المتين، ويدلنا كل قسم
فيه عن جد وبأس وقوة عزم بالغة، يذكرنا شيء منها بالروح الروماني الحربي، بما في
أعمدتها من فخامة خصوصًا تاج الأعمدة الذهبية ولكن الرومانية قاسية جافة، بينما
العربية لطيفة، لما تحمل في طياتها من رقة في النقوش والفسيفساء الزاهية، التي تخفف
كثيرًا من قسوتها، وإن لمن عظمة الفن ومعجزاته أن يجمع بين القوة والرقة. وهذا ما
نراه ماثلاً في جامع قرطبة الشهير الذي يمثل فنًا ونسقًا خاصًا من فنون العرب
الكثيرة في الأندلس».
ربط فروخ في كتابه عن فن الأندلس، الفن بالتاريخ بدقة العالم،
المتمرس، والباحث المتعمق، حيث قدم للقارئ كل دور و مرحلة وكل مدينة وآثارها
(طليطلة، قرطبة، إشبيلية) مع نبذة تاريخية عن نشوء الفن فيها والقادة والحكام
والأمراء الذين بنوا معالمها الفنية. وقد برع في تحليل الصروح المعمارية، تحليلاً
دقيقًا في وصف مفردات العمارة: القوس، العامود، التيجان، العقود، الأبواب، الخطوط،
المآذن، القباب، في مقارنة دائمة بين بعضها البعض، وبينها وبين مثيلاتها في الفن
الأوربي.
وقد صاغ معرفته التاريخ - فنية بلغة عذبة بليغة، أكسبت الحجر رقة
وشفافية، فبات بين يديه قطعة موسيقية تتهادى أنغامها بشاعرية رومانسية تذكرنا بنصوص
أدباء ونقاد القرن التاسع عشر في فرنسا، خاصة غوتييه وديلاكروا وبودلير الذين كتبوا
عن الفن الإسباني وآثار الأندلس، يوم كانت الرحلات إلى إسبانيا حجًا رومانسيًا لا
غنى عنه. وقد استعمل فروخ العبارات ذاتها في وصف لعبة الضوء والظل وموسيقى الخطوط،
وفن الزخرفة في العمارة الأندلسية حيث يقول: «لنقف ونتأمل قليلاً في معجزات الفن
العربي: قناطر مشتبكة كأنها أرواح حملت من النقوش الرقيقة المشجرة ما هو أشهى من
الثمار أو كأنها غابة من النخيل الظليل في واحة غنّاء وهناك على الجدران رسم وحفر
ونقش وترصيع ووشم غاية في الفن والإبداع، تحلت بالذهب ووشيت بالألوان الزمردية
والقرمزية والسماوية. ألوان باهرة، كالشرق بأنواره المشعة.. فأتى شعر من الألوان
والخطوط والتناسق لا يقل رقة وانسجامًا عن شعره في البيان. بين هذه الروائع أنزلت
آيات الكتاب الحكيم، عبرًا وعظات على الجدران، فإذا هي سحر يأخذ الألباب، وموسيقى
من الخطوط والألوان كلها تناسق وانسجام».
إن ثقافة فروخ الكلاسيكية المعمقة تجلت في اختياره لمصطلحات الفن
المعماري (التوازن، الموسيقى الهندسية، الكل والأجزاء، الخطوط العامة والتفاصيل،
النسب بين الخطوط وغيرها»، كما تجلت في مقارباته الدائمة بين الفن العربي الأندلسي
والفن الغربي خاصة اليوناني والروماني في قصر الحمراء وفي ساحة الأسود بشكل خاص
فيقول في ختام كتابه عن الفن العربي: «من مميزات الفن العربي الشعر والرقة
والموسيقى في الخطوط وهو يجمع البساطة مع الفن والعظمة مع اللطف»، ويضيف مقارنًا:
«وأقرب الفنون الغربية إلى الفن العربي هو الطراز القوطي الذي فيه الكثير من اللطف
والتناسق. إنماهذا، لما فيه من الظلمة والجمود، يضع في النفس كثيرًا من الحزن
والكآبة ويجعل الإنسان لا يفكر سوى بالموت. بينما الطراز العربي بأنواره وألوانه
المشعة وموسيقاه يبعث في نفس الإنسان البهجة التي تحبب إليه الحياة
والأمل.