وبعد فترة من التأمل وجدت نفسي غارقًا في أسئلة مضى عليها أربعون
عامًا، عندما كنت طالبًا في السنه الثانية في كلية العمارة بجامعة بيركلي
بكاليفورنيا حين وجه الاستاذ سؤالاً للطلبة: ما أعظم تصميم بنظركم؟ وبعد صمت طويل
تجرأ البعض بالإجابة... تاج محل، وأجاب آخر: الأهرام.
صمت الأستاذ الزائر، وكان معماريًا مميزًا، ثم قال: لا أقصد ذلك، بل
أقصد شيئًا أعظم بكثير وتراه كل يوم أمامك. نظرنا إلى بعض وكأنه يتحدث عن لغز، وإذا
به يقول «جسد الانسان هو أعظم تصميم على سطح الارض»، أذهلني الجواب وأثار جوابه هذا
أن اسأل نفسي... أتيت لأتعلّم العمارة ولا أعرف أن جسم الانسان هو أعظم عمل معماري
على هذا الكوكب! هذا تصميم وخلق إلهي وكيف لا يكون كذلك وقد قال تعالى {لقد خلقنا
الإنسان في أحسن تقويم} بهذا السؤال أراد الاستاذ ونحن في بداية الطريق أن نكتشف سر
عظمة هذا التصميم العظيم «جسد الانسان» فالجسد بيت الروح واذا لم تحاول كشف سر هذا
الجسد، الذي تسكن فيه روحك، فلن تستطيع أن تفهم ما هي العمارة أو تصبح معماريًا
مميزًا.
لهذا كان رسم ودراسة جسم الانسان من الأساسيات وبداية الطريق لدراسة
فن العمارة. فالفضاء، النسب، والوظائف في المعمار تعتمد على فهم البناء الالهي في
جسد الانسان.
نبني البيت لغرض الحماية والتفاعل مع عناصر الطبيعة وعونًا للجسد في
أداء وظائفه الحيوية حتى يؤدي الإنسان واجباته اليومية دون توقف.
فالجسد منظومة مركّبة لا يستطيع العقل أن يستوعبه, فلو حدث فيه أي خلل
تتحول الحياة إلى عذاب. وإذا فقد الإنسان القدرة على تحمّل هذا العذاب يطلب العون
أو يدعو الخالق بالرحمة بترك هذا الجسد.
ولا يختلف هذا الجسد عن الكون في الجوهر، ولهذا يسمي بالكون المصغّر
فيقول العارفون «لهب الشمعة الصغيرة لا يختلف عن لهب الشمس الكبيرة»، فالفرق في
الكم وليس في الجوهر.
فالمهندس العظيم هو الخالق سبحانه الذي خلق كل شيء في أحسن تقويم.
الطبيعة الجزء والكل شيء واحد ولا مكان للثنائيات في هذه المنظومة
الكونية. يقول العالم الإنجليزي هوكينج «كل شيء مخلوق من غبار الانفجار الأول»،
وتقول كتب الفيدا: «الكون مخلوق من طاقة مقدسة تسمى الشاكتي»، وعند البعض الآخر
تسمى بالروح القدس. وهذه الطاقة ذكية إلى حد لا يتصوره العقل البشري ومنه ينشأ كل
شيء، الفراغ، الزمن، المادة، والمعرفة. فالأديان السماوية لا تذكر بشكل مباشر بأن
إيذاء الطبيعة جريمة، ولكن إذا اختل التوازن البيئي في أي شكل من الأشكال، زالت
مقومات الحياة من على الأرض. فالفلسفة الهندوسية والشنتو وكذلك قبائل الهنود الحمر
وآخرون يعتبرون الطبيعة مقدسة منذ آلاف السنين.
وفي جزيرة بالي في بداية كل عام جديد، ينشد الأهالي بقرب الماء لتمجيد
هذه القوة التي لا استمراية للحياة من دونها. فالتعامل مع الطبيعة بوقار واجب مقدس
فمن يولد على أرضه ويستنشق هواءه ويشرب من مائه ولا يحترم هذا الكوكب فلا يستحق
الاستمرار في الحياة عليه.
ونجاح أي شيء يعتمد على تكامل المنظومة. فالمنزل والمدينة إمتداد لجسد
الإنسان ولابد للمصمم أن يأخذ بالاعتبار كل الاحتياجات وألاينسى التوازن مع البيئة
المحيطة، فالعلاقة السليمة مع البيئة تنتج حياة سليمة.
فأي خطأ في التصميم حتى لو كان مكان صندوق القمامة سوف ينتج عنه عواقب
أليمة.
ولهذا، لو حدث خلل في تصميم أي مبنى، يرفض الناس السكن فيه خوفًا على
حياتهم فيتحول إلى خرابة نهايتها الزوال. وهذا ينطبق على المدينة، فالعناية بتوازن
متطلبات الحياة والبيئة من جهة، والتراث من جهة أخرى لابد منه لاستمرارية الحياة
فيها.
فكل شيء مهم، الجزئيات في تفاصيلها، والعموميات في نسبها. وهذا ما
شاهدته في هذا الميناء الصغير. التفاصيل مدروسة بعناية، جميلة في الشكل ومتكاملة في
المعنى. فهو ليس ميناء ليحتضن السفن فقط، ولكن ليحتضن الإنسان أيضًا في حياته
اليومية بين البر والبحر. وإن كان هذا الميناء قد بني حديثًا، فروحه المعماري
وتفاصيله ينتمي لكل العصور البشرية وأما تخطيطه الهيكلي فيلائم كل الأزمنة.
هويته مدهشة فلا تستطيع أن تقول إنه عربي أو إسلامي أو مملوكي، ولكن
يطغى عليه روح البساطة ووضوح الفكرة، ويتلاءم مع تراث أرض الحضارات، مصر. ففيه
الفرعوني والإغريقي والروماني والقبطي والإسلامي وحتى التأثير الفرنسي.
كل ما جاء إلى مصر، وكل الجذور موجودة في هذا المكان وكأنها معزوفة
معمارية من كل الأزمنة تغرد أنشودة الإنسانية. فهذا المشروع هويته مبنية على
المعمار العضوي الإنساني.
ليست هناك أبراج عالية، ومبانٍ رأسية تخنق المحيط وتمنع حركة النسيم
أو تخيف الإنسان بنسبها وحجمها اللامحدود.
فالمباني تتفاعل مع الماء والصحراء والشمس، وتندمج في وحدة متكاملة
وتوازن تام مع البيئة.
وفي كل مكان يمتد الماء كذراع يعانق الساحات المواجهه للمباني، وكأنه
عناق حبيبين بعد فراق طويل، مثل العناق المقدس لجزيئي الهيدروجين مع جزيئ الأوكجسين
مكونًا عنصر الماء.
فالمنازل قريبة من الماء، وألوانها الأصفر والطوبي ينسجم مع لون
الصحراء والبحر. أما الساحات الواسعة فترحب بالدفء وأشعة الشمس، وزقاقها يحتضن الظل
والبرودة، بالإضافة إلى التنظيم الهيكلي الذي يلتقي فيه المكان الخاص بالمكان العام
بشكل طبيعي؛ فالمباني السياحية تتداخل مع المنازل الخاصة، والساحات بينهما، تحفظ
ميزة الخصوصية لكل على حدة. ولا وجود لضواحٍ مزدحمة وإنما مساكن وحوارٍ تشجع على
التفاعل الاجتماعي وعلاقات الجيرة للكبار والصغار والتنقل مترجلاً بأمان.
إنك أمام سيمفونية معمارية، الأقواس والألوان والتفاصيل تتحول إلى
مقامات وكأنها معزوفة متكاملة واحدة. والواجهات تتداخل وتتباعد ليخلق تلقائيًا
العمق والظلال بشكل مثير عند سقوط الضوء عليه.
لا شك أن هذا التوازن المميّز يعبّر عن احترام المصمم للمحيط البيئي
وتكريم لعناصر الطبيعة والإنسان معًا.
ونجاح هذا المشروع لا يحتاج إلى إثبات، فهذا الكم من أهل مصر ومن خارج
مصر لم يأتوا من أجل البحر والشمس فقط، فقد كان بإمكانهم اختيار الإسكندرية أو إحدى
جزر البحر المتوسط. ولكن الاختيار هو عن مكان يحس الإنسان فيه بالترحيب وبالاطمئنان
والراحة. فالمعمار والتخطيط الإنساني يحتضن الفرد ويعيد البهجة إلى القلب ويحيي
الروح الذي ضاع في ضوضاء المدنية. وللحفاظ على جماليات المكان على مر الزمن وضعت
شروط صارمة تقيد الملاك والمقيمين بعدم تغيير الواجهات والالوان واحترام أنظمة
المشروع.وبالمقارنة فإن الحال في بعض مدن الخليج لايسر، وقد امتلأ واحتدّ فيها
التنافس لبناء المعمار «اللاإنساني» أو «الغبي» كما يسميه الأمير تشارلز ولي عهد
بريطانيا، وكأننا في العصور الوسطى، التنافس فيه لإثبات الوجود بالإبهار الشكلي
وإهمال الجوهر. مع أن المدينة المثالية مازالت موضوعًا يحيّر كبار المعماريين
ومخططي المدن، فإن علماء الاجتماع وصلوا إلى قناعة تامة أن المدن السكنية الرأسية
لها تأثيرات سلبية على سلوك الإنسان وتصرفاته وتؤدي إلى الغربة في حياته
اليومية.
فإن كان هذا إنجازًا لشركة خاصة وليست دولة، فإنه يدلّ على ذوق رفيع
وثقافة عالية، ورؤية اقتصادية واضحة. فاختيار المهندس العالمي المميز والمكان
المناسب على البحر والتصميم الملائم، لاتعني شيئا سوى الكرم في التنفيذ، وتسخير كل
الإمكانات لتحقيق بيئة سكنية سليمة.
فالطبيعة ملك لله وأمانة في أعناقنا وللعيش في سلام معها ومع أنفسنا
لابد ألا ننسى مسئوليتنا تجاه هذا الكوكب الجميل.
وأخيرًا أحيي إنجاز هذا الحلم الرائع وأتمنى أن يصبح نموذجًا لمدن
المستقبل على امتداد أوطاننا ولكل البشر في كل مكان.