صلاح عيسى وجمال محمود

صلاح عيسى وجمال محمود
        

الدولة الديمقراطية العصرية أساس أي مشروع نهضوي عربي جديد

  • علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا تفكك الاتحاد السوفييتي وظلت أمريكا متماسكة؟
  • الإقصاء بين التيارات يعود إلى تقاليدنا القبلية، ومبدأ انصر أخاك ظالما أو مظلوما
  • التيار الديني يضم جزءًا كبيرًا من النخبة وكوادر وطنية ولكن مشكلته أنه لا يقدم اجتهادًا جديدًا

          أصبحت القضية التي تشغل بال المثقف العربي الآن هي محاولة دفع الهمة للنهوض من كبوة التخلف التي طال أمدها، وأصبحت همًا لكل مهتم بالشأن العربي العام الذي أدى إلى تأسيس مشروع نهضوي عربي جديد أو على الأقل تحديث المشروع القديم الذي انطلق في القرن التاسع عشر، على أيدي رجال استشعروا الفرق الشاسع بين ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تقدم آنذاك، وبين حالة الموات والركود والتخلف التي كان الشرق الإسلامي (يرفل) فيها، ومازالت قائمة حتى اليوم.

          والكاتب والمفكر المصري، رئيس تحرير جريدة القاهرة الثقافية الأستاذ صلاح عيسى، أحد أولئك المهمومين بهذا الشأن وأحد المقاتلين الدائمين في معركته وميدانه

          وقد ولد عام 1939 وعمل في الصحافة منذ بداية السبعينيات في جريدة «الجمهورية» ثم انتقل مع ظهور الأحزاب في مصر إلى حزب التجمع حيث شارك في تأسيس وتحرير عدد من مطبوعاته، وقد رأس تحرير عدد منها مثل «الثقافة الوطنية» و«الأهالي» و«اليسار» و«الصحفيون». كما أنه مهتم بكتابة التاريخ وله فيه العديد من المؤلفات مثل «الثورة العرابية» و«مثقفون وعسكر» و«حكايات من مصر» كما أن له كتابًا مهمًا عن «ريا وسكينة» تحول إلى مسلسل تلفزيوني شهير. وقد أدار الحوار معه الصحفي المصري جمال محمود الذي عمل في عدة صحف عربية مثل «القبس»، وهو يرأس الآن القسم الأدبي في جريدة «الوسط» الكويتية.

  • كيف ترى دور الصحافة في الإسهام في مشروع جديد للنهضة، أو استكمال المشروع السابق الذي بدأ في القرن التاسع عشر؟

          - أولا الصحافة العربية نشأت مع غرس البذور الأولى لمشروع النهضة العربية وكانت جزءًا من هذا المشروع، وهو ما عناه رفاعة رافع الطهطاوي بــ (الجرنالات والكازتات)، ويعني بها المجلات كما رآها في فرنسا وبالتالي كان إنشاء الصحف والدوريات الثقافية جزءًا من مشروع النهضة، وقد استقل هذا الجزء بنفسه شأنه شأن بقية الأجزاء، وبدأ يبشر ويفصل مجمله ويعمق رؤيته وأصبح بما يشبه مخزن أفكار الأمة. وفي هذا السياق آثار العديد من القضايا التفصيلية المتعلقة بمشروع النهضة ومازال يثيرها، واعتقد أنه لعب دورا مهمًا جدًا في بلورة التيارات الرئيسة لصوغ تاريخ الأمة في القرن الماضي وهي: التيار الإسلامي الذي يدعو إلى العودة للجذور الإسلامية، والتيار القومي العربي الذي يدعو إلى العودة إلى الأصول العربية، والتيار الليبرالي الذي يدعو إلى الاهتمام بالعقل والفرد والحريات، والتيار الاشتراكي الذي يدعو إلى العدالة الاجتماعية.

          وهذه التيارات الرئيسة التي عبرت عنها الدوريات الثقافية في القرن الماضي، بل نستطيع أن نقول إنها تخلقت من خلالها،أو كانت تدعو للتبشير بها أو بواحد منها.

  • من خلال تجربتك في رئاسة تحرير جريدة «القاهرة»، كيف ترى قدرة المجلات الثقافية على شق طريقها وسط هذا الكم من المطبوعات والتطوير الهائل الذي لحق بوسائل الإعلام؟

          - الحقيقة أن «القاهرة» لها طابع خاص فهي تتوجه للمثقف والقارئ العادي في الوقت نفسه بالشكل التقليدي للصحيفة، بعيدا عن الشكل المتجهم للمجلة الثقافية أو الشكل الذي تتوجه فيه للمتخصص وليس للقارئ العادي.

          ونحن لدينا تجربتان مهمتان لهذا النوع من المجلات هما: مجلة العربي الكويتية التي تستخدم كل أساليب الإبهار الصحفي، مع جديتها وتنوعها وبساطة لغتها، وكذلك جريدة «القاهرة» التي نحاول من خلالها أن نقدم عملا موازيا على مستوى الجريدة الأسبوعية للقارئ العادي ومتوسط الثقافة، نستخدم فيها أدوات العرض الصحفي لتقديم فكرة أو مشروع مهم يصب في مجرى عملية التحديث، ولذا فشعارنا فيها: إن الحرية الحقيقية تحتمل إبداء أي رأي وترويج أي فكر ونشره. كما أننا نسعى من خلالها إلى إدارة حوار بين كل الفرقاء المعنيين، ولذلك تجد فيها أكبر حشد من الكتّاب من كل الاتجاهات، من الإسلاميين إلى العلمانيين إلى التحديثيين...إلخ.

الإقصاء بين التيارات

  • ثمة أنواع عدة من الإقصاء تمارسها التيارات المشتغلة بالشأن العام أو الثقافي في المجتمعات العربية ضد بعضها البعض لكن أخطرها ما يعتمد على النص الديني، فكيف ترى الحل في هذه الإشكالية؟

          - مشكلتنا أنه بسبب تجذر التخلف في المنطقة العربية بشكل عام وبطء التطور الاجتماعي والاقتصادي للتشكيلات الاجتماعية العربية فقد ورثنا جزءًا كبيرًا من التقاليد القبلية والتعصب للشكل أو الكيان والدفاع عنه بطريقة: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، حسب فهمنا المنقوص لهذا القول. وبالطبع مما زاد من تركيز هذه السمة أننا لم نتعرف على الديمقراطية بشكلها الواسع لفترات طويلة، كي ترسخ للاعتراف بالآخر واحترامه ومن ثم نشأت هذه الحالة. وفي تقديري أننا إذا كنا نبحث عـن رؤى جـــــديدة لمشروع نهضــــوي جـــديد لا بد أن نضع في اعتبارنا أنه ليس من حق أحد أن يحتكر لنفسه وحده الحديث باسم مقدسات الأمة، وليس من حق أحد أن يقول إنه يمثل الله عز وجل على الأرض، ولا أن يقول إنه يمثل الوطن، فمثل هذه الأمور باعتبارها مشتركات للأمة كلها، يجب أن تخرج من نطاق الحوارات السياسية، فليس من حق أحد أن يقول إنه هو الذي يتحدث باسمها، وأنه ليس من حق الآخرين فعل ذلك، كما أنه حين يقول إنسان إنه على صواب مطلق وأن الآخرين على خطأ مطلق، فهذا في النهاية سوف يقود إلى الإقصاء والعنف.

  • ولكن.. ثمة اتهام أزلي ودائم يوجه للمثقفين من قبل التيارات المتشددة بأنهم ضد ثوابت الأمة؟

          - هذه التوصيفات لا تؤدي إلى تقدم، وقد قيل هذا الكلام عن الرواد الأوائل للتحديث، وعلى الرغم من ذلك لم يمنع حقائق الواقع أن تفرض نفسها، وهي أن التحديث ليس قرارا من أحد، ولكنه قرار واقعي يخرج من داخل المجتمع، يفرض عليه أن يجدد ويحدث نفسه، لأنه إذا لم يفعل ذلك فسوف ينقرض، ومثل هذه الدعاوى التي توجه للمثقفين لا تستحق التوقف عندها، فهناك فكرة خاطئة مفادها أن علينا أن نكون مختلفين عن بقية البشر، ولكن واقع الأمر يقول إننا جزء من هذا العالم ومن هذه البشرية كما كنا في الماضي القريب أو البعيد، نتأثر بما يجري حولنا من تطورات، وهذا ما حدث ويحدث، فالتطورات التي حدثت في أوربا أثناء فترة الثورة الصناعية وما بعدها أثرت فينا بنظمها الجديدة وأفكارها، ونحن الآن نواجه ثورة جديدة في المعلومات والتقنيات لابد أن يكون لها مردوداتها الفكرية والثقافية، وسواء استمعنا لها أو لم نستمع فلن يتوقف مدها.

          كما إنه من غير الجيد أن تصل إلينا مؤثرات هذه الحضارة ولا نستطيع التعامل معها بالعقلية المناسبة، لأننا إذا لم نتعامل معها فسنجد أنفسنا على هامش الكون.

النصوص ليست عقبة

  • من المثقفين من يرى أن (النصوص) هي العقبة في سبيل التفاعل والتواصل مع الآخر بل والتحديث، وهناك من يرى وبشدة عدم الاقتراب منها؟

          - النصوص المقدسة موجودة منذ أن نزلت على البشرية وليس في ذلك مشكلة، إنما المشكلة في الجهد البشري الذي يقوم بفهمها وتفسيرها، الذي هو الفارق في مراحل التقدم أو التخلف. والسؤال هو: هل علينا أن نفهم هذه النصوص بالعقلية التي كانت تفهم بها قبل عشرة قرون؟ أم بعقلية الوقت الحالي؟ فعندما فهم العرب والمسلمون النصوص وفق روح عصرهم بنوا حضارة عظيمة وواسعة.

          أما الرافضون فقد جاءوا ضمن حركة سياسية وجدت بسبب ظروف معينة، يحكمها فكر ضيق محدود الأفق، وقبل كل شيء التعصب يخلق التعصب، والاعتدال يخلق الاعتدال، والتسامح يجلب التسامح.

          وبالطبع كلنا نعرف أن انتشار مثل هؤلاء هو رد فعل على فشل التيار القومي في مواجهة إسرائيل وإحداث نهضة صناعية، ونشر الديمقراطية، فبدا هذا التيار وكأنه لم يجرب بعد، والسبب الآخر هو أن الغرب وأمريكا أسهما خلال الحرب الباردة بدور كبير في ظهور هذه التيارات وتشجيعها، وتحالفها مع بعض الأنظمة العربية لمحاربة الاتحاد السوفييتي.

          ولكن من الظواهر الإيجابية الآن أن الولايات المتحدة والغرب بدآ الانتباه إلى خطورة اللعب بهذا السلاح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولذا أعتقد أن هذه الظاهرة ستعود إلى حجمها الطبيعي.

  • إذن أين تكمن الإشكالية؟

          - الإشكالية بشكل عام هي أن العالم العربي كله - وليس مصر فقط - مازالت تحكمه التيارات السياسية الأربعة وهي التي تصوغ مشروعه النهضوي وكما ذكرت هي: الإسلامي، القومي، الماركسي ثم الليبرالي. والمشكلة الأساسية هي أن هذه التيارات - خصوصا الثلاثة الأولى منها - لا تزال «محلك سر» وفيها أجنحة غالبة تعمل على ذلك، فلدينا قوميون توقفوا عند أفكار ميشيل عفلق، وناصريون عند جمال عبدالناصر وإسلاميون لا يريدون تجاوز أفكار حسن البنا، بل هناك من تقهقر عن هذه الأفكار إلى الوراء مثل عبدالسلام فرج وبن لادن وغيرهما، وهذا هو جوهر المشكلة.

          ولذا، ندعو كل تيار إلى أن يقوم بتجديد أفكاره، فعلى التيار الإسلامي أن ينقد نفسه وأن يحل مشكلة المواءمة بين فهمه للدين، وضرورات إقامة دولة مدنية ديمقراطية قائمة على التعدد والتنوع أي الدولة العلمانية، التي يشرع الناس فيها بأنفسهم لأنفسهم وفق معطيات زمانهم بعيدا عن الخروج على مقاصد الشريعة، وكذلك الأمر بالنسبة للتيار القومي، خصوصا بعد الطابع الاستبدادي لتجربة صدام حسين، الأمر نفسه بالنسبة للتيار الاشتراكي، أما التيار الليبرالي فقد كان مهمشا ولم يتح له أن يخلق أفكارا حتى الآن. ومن ثم، فإن عملية التجديد والتفاعل بهذا الشكل يمكن أن تلعب الدور الأساس في عملية التحديث.

  • في اعتقادك ما أهم المرتكزات التي يجب أن يقوم عليها أي مشروع نهضوي عربي جديد في هذه المرحلة؟

          - أعتقد أن أساس المشروع النهضوي العربي الذي يجب أن ننطلق منه في هذه المرحلة، أو لتطوير المشروع الذي أنجزنا منه خطوات ثم تعثر، هو أن نسعى إلى بناء دول ديمقراطية عصرية حديثة، وبمقتضى ذلك لابد أن ننهي كل الحواجز التي تحول دون حرية الرأي والضمير والمعتقد والبحث العلمي 00 إلخ. لأنه لا بد للجميع أن يدركوا أننا نعيش في عصر له ضروراته، وفي ضوء ذلك لا مفر من أن تقوم الدول على أساس المواطنة حتى تكون دولا ديمقراطية، بما يعني أن تساوي بين رعاياها وعدم الانحياز إلى فريق منهم في تنظيماتها أو تشريعاتها، بسبب لونه أو جنسه أو دينه أو أصله، وهذا هو المعنى الذي سيخلق مجتمعات حرة وموحدة بشكل حقيقي، وهنا حين أتساءل مثلا: لماذا ظلت أمريكا متحدة بينما تفككت وحدة الجمهوريات السوفييتية، ودول قومية كبيرة أخرى، على الرغم من أن الولايات المتحدة فيها من الأعراق والأديان والمذاهب والتيارات الفكرية ما يمثل «موزاييكا» لا حدود له، يمكن أن يهددها بالتفكك في أية لحظة، والإجابة بسيطة هي أن وحدة الولايات المتحدة قامت على الاختيار والتنوع وضمان حقوق كل الأطراف، بما يعني أنها اكتشفت أساس تحقيق الوحدة من خلال الاعتراف بالتنوع الذي يعني ضمان الحريات العامة للجميع، وأن يكون الشعب مصدر السلطات بشكل حقيقي، وهذا هو الأساس الذي علينا وضعه في اعتبارنا حين نفكر في بناء دول عربية حديثة.

  • في اعتقادك هل ثمة علاقة بين هذا الأساس الذي تحدثت عنه سابقا وتعطل المشروع النهضوي السابق؟

          - نعم هناك أسباب لذلك وقد تطرقت إليها في الورقة التي قدمتها في ندوة «العربي» وهي:

          أولها - التطور اللامتكافئ بين العالم الأول الذي بدأ صياغته لمشروع النهضة متقدما ثلاثة قرون، والعالم الثالث (الذي سمي كذلك لأنه لا يوجد عالم رابع)، الذي بدأ لهاثه لتحقيق هذا المشروع في الوقت الذي كان العالم الأول قد تحول فيه من مشروع نهضوي إلى مشروع استعماري، مما حال دون التفاعل الصحي بين الطرفين.

          ثانيها - إن مشروع النهضة على الرغم مما قطعه من أشواط على طريق تحقيق أهدافه، عجز عن تجديد الفكر الديني وإحياء المدرسة العقلانية في التراث الإسلامي، فلم يخسر فحسب الطاقة الروحية التي كان يمكن أن يوفرها له الدين كمكون حضاري أساسي لدى الشعوب العربية، بل وانتقلت هذه الطاقة إلى الصف المناوئ له.

          ثالثها - إن مشروع النهضة قد أدير في ظل أوضاع استبدادية، لم تحدث، خللا في ترتيب أولوياته فحسب، أو تدفعه إلى مغامرات غير محسوبة دمرت جانبا مهما من إنجازاته، ولكنها حالت أيضا دون ازدهار جماعات منظمة، تستطيع أن تصونه، وأن تحول بينه وبين تدمير نفسه، وأن تستأنفه بالفاعلين الكافين، وفي الوقت الملائم، مما يقلل من حجم الخسارة.

سلوكيات غريبة

  • الآن ثمة تحول غريب يحدث في سلوكيات بعض الشعوب العربية، وهو أن دولا كانت مثالا للانفتاح الثقافي نموذجا، تحولت إلى الضيق بكل من يبدي رأيا دينيا يتماشى مع روح العصر؟

          - مع الأسف الشديد أن مشروع النهضة العربية في تجاربه السابقة في القرنين التاسع عشر والعشرين، لم يبذل الاهتمام الكافي من أجل تجديد الفكر الديني، على الرغم من أن مشاريع النهضة الأوربية اهتمت بهذا الجانب وأسهمت فيه بقدر كبير، ونحن كان لدينا محاولات تمثلت في جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ولكن لأسباب تاريخية كثيرة كانت ترتد على أعقابها، فقد نشأت ظروف عقدت الأمور، فالتيار الديني بعدما كان جزءًا من مشروع النهضة ارتد لكي يكون جزءًا من مشروع العودة إلى الماضي، أو مشروع إعادة بناء الماضي كما كان، اشكاليته هي اشكاليتنا جميعا، ولذا لا بد من الاجتهاد، فهذا التيار الذي يعتبر تيارًا أصيلاً من تيارات الحركة الوطنية العربية منذ أطوارها الأولى لا شك أنه يضم عناصر بشرية كثيرة جدًا تتميز بالخلق والوطنية، وإمكانات بشرية كبيرة ويضم جزءًا كبيرًا من النخبة، ولكن مشكلته الأساسية هو أنه لم يقدم لنا اجتهادًا جديًدا، أو توضيحًا لما يريده بالضبط، وكانت النتيجة أنه يطرح أفكارًا تسيء إليه في ذاتها وتظهره أمام الرأي العام، بل وتظهر الإسلام نفسه للعالم بأنه دين يفتقد للسماحة والاعتراف بالآخر والحرية.. إلخ. وهذا جزء من الإشكاليات التي علينا مواجهتها، ولكن ليس علينا أن نسعى لاستئصاله، بل علينا أن نخوض معه معركة فكرية، وأن نشاركه في محاولة إنهاء الفجوة التي أدت إلى عدم تجديد الخطاب الديني وعدم تحديثه بعدما أغلق باب الاجتهاد منذ القرن الرابع الهجري وترك لنا أحد عشر قرنا خالية من الاجتهاد، تجددت فيها الدنيا، ومعنى أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان هو أنه قابل للتطوير والتفسير والتجديد بما يتواءم مع الزمان والمكان.

          والمشكلة أن هؤلاء بأفكارهم المتزمتة، وبمعاركهم التي قد تكون تافهة أحيانا يشكلون نوعا من المخاوف والعرقلة لمشروع النهضة، ولا ينتبهون طوال الوقت إلى أنهم غير واعين بالدور الذي يجب عليهم أن يقوموا به تجاه أنفسهم وتجاه الدين الذي يؤمنون به ونؤمن به نحن أيضا، وتجاه مصلحة هذه الأمة.

  • ألا تعتقد أن هذه التيارات لا تقدر كثيرًا ماتطالب به من حوار أنت وغيرك، لأنهم يؤمنون بأن مشروعهم مختلف، ولا يلتقي مع مشاريع (علمانية) أخرى؟ فضلا عن أنهم لا يقدمون ما يطمئن الآخرين بما في نفوسهم؟

          - نعم بما يقومون به من أفعال يثيرون مخاوف كثيرة خصوصا في البلاد التي تضم أقليات دينية تنزعج من هذا التفكير، وتعتبر أن هذا مقدمة لهضم حقوقها، كما يزعج الدول التي تسعى للحفاظ على المصلحة العامة للوطن والمواطنين ككل، وعناصر كثيرة تشعر بالتخوف من هذه الأفكار، وهم لا يكسبون من وراء ذلك إلا ربما شرائح من العوام، في الوقت نفسه الذي يخسرون فيه الطبقات المستنيرة، وبشكل عام لا يفيدون ولا يستفيدون من هذا الاتجاه، وبذلك يدعمون استمرار الاستبداد، ومازالوا حتى الآن خصوصا الجناح الذي يعتمد العنف منهم، يقدمون مبررا للتيارات الاستبدادية لكي تواصل الحكم بالاستبداد باعتبارها سد الحماية في وجه هؤلاء.

  • في اعتقادك أيهما الأكثر استعصاء على التغيير: النظم السياسية المتمسكة بالسلطة إلى مالا نهاية أم التيارات الدينية؟

          - ما يحدث من حراك سياسي يؤدي إلى شيء من الحوار الصحي، بالرغم من وجود كم هائل من التشوش والضجيج، كما يؤدي تدريجيا إلى أن كل طرف سوف يعود إلى نوع من الرشد والتفكير العقلاني، وأنه من خلال ذلك يمكن التوصل إلى مشتركات وطنية، فنلاحظ مثلا أنه خلال الأشهر الماضية، في مصر خرجت تصريحات أو اتخذت مواقف ثم اعتذرت عنها قيادات في التيار الإسلامي, ومنها أنه بعد أن أثاروا قضية الحجاب صرح المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر بأن الموضوع لم يكن يستحق كل ما أثير حوله، وكذلك بعد موضوع الاستعراضات العسكرية التي قام بها شبان من الإخوان في جامعة الأزهر، خرجت التصريحات في اليوم التالي بأنهم قد اخطأوا، الأمر نفسه بعد تصريح المرشد العام بأن لديه عشرين ألفا من الميليشيا سوف يرسلهم إلى لبنان، تراجع وقال لقد أخطأنا، وهذا يعني أنه يمكن الاستفادة من التجربة.

تباين المثقفين

  • قضية الحجاب التي أحدثت ضجة في مصر أخيرًا وكان طرفها وزير الثقافة فاروق حسني، أظهرت أن جماعة المثقفين متباينة ومنقسمة في مواقفها حتى في مواقف من المفروض أنها ثوابت لدى أي مثقف؟

          - لم يحدث انقسام بين المثقفين، إنما مصطلح المثقفين هو مصطلح معقد جدًا، فالمثقفون مدارس، ولا يوجد شيء اسمه مثقفون كتلة واحدة، فهناك مثقفون ليبراليون، ومثقفون إسلاميون، ويساريون، ولكن كل التيارات الثقافية المستنيرة والمدنية لم يكن موضوعها الحجاب، إنما موضوعها كان عن إقامة محاكم التفتيش ضد إبداء الرأي بدلا من مناقشة صاحبه، وإساءة استخدام وتطبيق الحق في مساءلة الوزراء في غير ما يدخل في اختصاصهم وما يمارسونه عادة، وكالعادة في مثل هذه الأمور كل تيار يبدي رأيه، فالتيار الممالئ للتيار الإسلامي وإن كان جزء كبير منه حتى الحركيون فيه، اعتبر أن هذه الضجة لامبرر لها، وأنه كان يكفي أن يقال: هذا رأيه، وانتهى الأمر. وكان الإجماع على أن هذا رأي قد يكون صوابًا أو خطأ، ومن حق أي شخص أن يرد عليه.

إصلاح سياسي

  • كيف ترى خطوات الإصلاح التي تسير عليها مصر - باعتبارها محورًا أساسيًا في أي عملية إصلاح تجرى في المنطقة - ويدور حولها لغط كبير من حيث عدم جديتها كما ترى أطراف المعارضة؟

          - أنا لست من المتشائمين بل من المتفائلين، واعتقد أن مصر خطت خطوات مهمة خلال العامين الأخيرين في مساحة الحرية، وهناك قبول بفكرة أنه من غير الممكن أن تظل الأوضاع على ما هي عليه، وبالطبع هناك تباينات في وجهات النظر سواء داخل الحكومة أو حتى في أوساط النخبة المثقفة، أو في الحياة السياسية بشكل عام، حول أيهما نبدأ أولا: الإصلاح السياسي؟ أم الإصلاح الدستوري؟ وكما قلت أنا هنا مع فكرة الإصلاح المتدرج ذي السقف الزمني المعقول، لكي نهيئ الأوضاع لتحسين البيئة السياسية في المجتمع المصري، ونرفع من وعي الناس ونحشدها وننظمها، ومن ثم فإنني مع مجموعة تعديلات دستورية متتالية، حتى نصل إلى تغيير الدستور بالكامل.





 





 





صلاح عيسى لدى حضوره ندوة «العربي» وإلى جانبه د. رشا الصباح ود. جابر عصفور