أورهان باموق.. إطلالة عربية.. تركي يعلم أوربا كتابة الرواية

  أورهان باموق.. إطلالة عربية.. تركي يعلم أوربا كتابة الرواية
        

أورهان باموق الروائي التركي الفائز بجائزة نوبل في الآداب لعام 2006 دشن أول حضور عربي له حين قام بزيارة معرض القاهرة للكتاب في شهر فبراير الماضي والتقى بالجمهور والنقاد وقدم صورة مباشرة حول الأدب التركي المعاصر. وهذه بعض من أصداء الزيارة.

تركي يعلم أوربا كتابة الرواية

«أورهان باموق روائي تركي شاب يُعلّم أوربا كيف تكتب الرواية».. هكذا علقت صحيفة «فرانكفورتر ألجمايني» الألمانية على الكاتب التركي الشهير قبل سنوات عدة من حصوله على جائزة نوبل

          لم يتجاوز باموق الخامسة والخمسين، على عكس الشائع في تاريخ هذه الجائزة. وبغض النظر عن مدى دقة تعليق الصحيفة الألمانية - ضمن مظاهر اهتمام واسعة أخرى- فإن أعمال باموق الأدبية استطاعت أن تلفت انتباه أوربا مبكرًا.

          وبعيدا عن «الشبهة» السياسية لحصول باموق على جائزة نوبل، كما يشيع كثيرًا في الحديث عن هذه الجائزة المرموقة بشكل عام، فالثابت أن باموق قد استطاع أن يؤكد مكانته الأدبية منذ عمله الأول «جودت بك وأولاده»، بالرغم من أنها اكتست زيًا سرديًا كلاسيكيًا يكسو مضمونا اجتماعيًا لسيرة أكثر من جيل. إلا أنه بعد أن أصدر روايته الثانية «البيت الصامت» بدأت تترجم للغات أجنبية عدة.

          مع روايته الثالثة «القلعة البيضاء» احتل باموق مكانة رفيعة بين الكتاب العالميين إذ شكلت هذه الرواية منعطفًا بارزًا في مسيرته الأدبية باستخدامه الرواية التاريخية كشكل روائي حاول فيه أن يبدأ مسارًا تجريبيًا مختلفا.

          في روايتيه اللاحقتين: «الكتاب الأسود» و«الحياة الجديدة» استطاع باموق تأكيد مكانته الأدبية التي أسهمت في زيادة شهرته بشكل لافت في أرجاء أوربا، وهنا فقط بدأ العرب يلتفتون إليه، متأخرين كالعادة، خاصة بعد صدور ترجمة كتابه السادس «اسمي أحمر» الذي عاد فيه إلى الرواية التاريخية متناولا موضوعًا له جاذبيته؛ وهو موضوع الفن الإسلامي ومنمنماته متكئًا على اللون الأحمر؛ الأكثر استخدامًا في فنون التصوير الإسلامية.

          فور صدور هذه الرواية بالتركية عام 1998 بدأت ترجمتها إلى تسع عشرة لغة، واحتلت صدارة قوائم الكتب الأكثر مبيعًا، وباعت، قي تركيا وحدها 200 ألف نسخة.

تأثيرات عربية تركية

          ومن المؤكد أن قارئ أعمال باموق، لن يبذل جهدًا كبيرًا ليتبين الكثير من أوجه التشابه بين الثقافتين العربية والتركية التي ينتمي لها الكاتب. وربما أن القارئ المصري الذي يعرف التأثير التركي جيدا، عبر ما يزيد على ثلاثة قرون كاملة امتدت آثارها في مناح عدة في أرجاء القاهرة على نحو خاص، سيكون أكثر ائتلافًا مع عناصر العوالم التي يقدمها باموق: المقاهي، أسواق أسطنبول العتيقة التي تحيل عادة للقاهرة القديمة، الدراويش، سور القرآن الكريم، والتداخل الثقافي للإسلام في الحياة اليومية للأفراد، والروائح والنكهات المختلفة، وغيرها.

          وربما أن هذا الإحساس الذي استقبل به جمهور القراء من المصريين الكاتب التركي الذي حل ضيفًا، لأول مرة، على القاهرة محاضرًا في إحدى فعاليات معرض القاهرة للكتاب في دورته الأخيرة، هو أيضًا الانطباع نفسه الذي تولد لدى باموق الذي أكد أنه بالرغم من زيارته الأولى للقاهرة فإنه لا يدهشه شيء مما يراه، بسبب التقارب الكبير في مظاهر الحياة والعمارة بين مصر وتركيا، لكنه، وللسبب نفسه عبر عن استهجانه البالغ أن إدارة المعرض تقاعست عن توفير مترجم يجيد التركية، واضطرته للتحدث بالإنجليزية ما دعاه للتعليق قائلا: «يؤسفني أن نضطر للحديث بلغة ثالثة وسيطة بينما ننتمي إلى ثقافة واحدة».

          نشأ باموق في مدينة أسطنبول وعاش بها حياته كلها. وشأنه شأن الكثير من الشباب في ثقافتنا الشرقية عندما التحق بالجامعة قرر أن يدرس الهندسة، ليس عن رغبة حقيقية، وإنما لأن والده كان مهندسًا. وإلى جانب تحصيله الدراسي كان قد أظهر شغفًا بالفن التشكيلي، لكنه عندما بلغ الثانية والعشرين من عمره اجتاحه شعور غامض بضرورة اتخاذ قرار مصيري في حياته، لم يتردد في اتخاذه وتحمل عواقبه، وكان ذلك القرار هو التوقف عن دراسة الهندسة، التي كاد أن ينتهي من إتمام فصولها، وعن الفن التشكيلي، وأن يتحول إلى كتابة الرواية.

          لم يكن ذلك سهلاً على أي حال، فتركيا شأنها شأن مصر وباقي المنطقة العربية لا يمكن للكاتب فيها أن يتعيش من الكتابة وحدها، وهو ما تسبب في قلق بالغ لدى أسرته إزاء القرار الذي اتخذه.

          هل كان ذلك نوعًا من الإلهام؟ أي هل كان ذلك القرار امتثالاً من الكاتب لقوة خفية توجهه إلى حيث ينتصر لنزعة الكتابة الماثلة عميقا في نفسه؟

          «ليس من السهل الإجابة عن السؤال» يقول باموق:  بعد 15 عامًا من اتخاذي لهذا القرار، وبعد أن بدأت أعمالي تحقق الشهرة، سئلت هذا السؤال، ولم تكن لدي إجابة، وحتى الآن لا أعتقد أن لدي إجابة مقنعة، لكن هناك بعض الشواهد والدلالات التي جعلتني، بشكل غير مباشر، أتجه إلى ذلك القرار، وهي ما ضمنته في كتابي الصادر بعنوان «أسطنبول».

          لم يكن الطريق الذي اختاره باموق سهلاً، على أي حال، فقد بدأ يكتب القصة والرواية منذ عام 1974، لكنه لم يستطع أن ينشر أول كتبه إلا في عام 1982، ويعلق على ذلك قائلا: «الآن أعمالي مترجمة إلى أكثر من 50 لغة، لكن ذلك يبدو لي أسهل بكثير من أن ينشر لي كتاب واحد في تركيا». «أنا أسمعكم تقولون: ماذا تعني الكينونة لونًا؟ اللون هو لمس النظر، وموسيقى الطرشان، وكلمة الظلام، لأنني أسمع كلام الأرواح مثل صفير الرياح من كتاب إلى كتاب، ومن شيء إلى شيء. على مدى عشرات آلاف السنين أستطيع القول إن ملامستي تشبه ملامسة الملائكة. جانب مني هنا يخاطب أعينكم، وهذا جانبي الثقيل، وجانب آخر في الهواء يخفق بجناحيه مع نظراتكم،وذلك هو جانبي الخفيف».

          هكذا استنطق باموق اللون الأحمر في روايته الشهيرة «اسمي أحمر»، في إطار استلهامه تقنية تجريبية حاول فيها أن يمزج الحديث بالتراثي، على مستويي السرد واللغة معا. وهي التقنية التي بدأ الالتفات إليها بعد أن تجاوز طرائق السرد الكلاسيكية في عمليه الأولين. يقول باموق: «بدأت أجد صوتي في «القلعة البيضاء»، وفي عام 1995 سافرت إلى الولايات المتحدة، وتزوجت، وفي تلك الفترة كتبت «الكتاب الأسود» وهذا هو الكتاب الذي وجدت فيه نبرة تخصني تماما، واعتمدت فيه على المزج بين كتابة تجريبية ما بعد حداثية مع الكتابة المعتمدة على اللغة التقليدية الفارسية».

          «يذكر جلال مولانا كأنه يتحدث عن نفسه، ويستفيد من تبادل أمكنة سحرية ما بين الكلمات والجمل. يظهر من أول نظرة واضعًا نفسه مكان مولانا. وحين رأى غالب أن جلالاً استخدم الجمل والمقاطع نفسها وحتى الأسلوب المحبوك بالقدر نفسه في المقالات التي تحدث فيها عن نفسه، وفي المقالات التاريخية التي تحدث فيها عن مولانا، تأكد تبادل الأمكنة هذا».هذا المقطع من رواية «الكتاب الأسود» يوضح، - على نحو ما -، التقنية التي اتخذها باموق في هذا الكتاب، والتزم بها لاحقًا في أغلب أعماله، والتي لم يكن يتعجل في كتابة أي منها وإنما على العكس تماما؛ فهو يصف نفسه بالتروي. «أنا كاتب بطيء، لكني أعمل بجدية، وبشكل يقتضي نوعًا من المثابرة؛ إذ أكتب يوميا، وأستخدم القلم لا الكمبيوتر، على طاولة صغيرة في غرفة مكتبي. الطاولة جزء من جسدي، والقلم جزء من يدي. أعتقد أن فكرة الإلهام تناسب الشعراء، أما الكاتب الروائي فلا بد أن يجلس ليعمل».

          بهذا الدأب أيضا كان باموق يعمل على تطوير تقنيات الكتابة التي يستخدمها، إذ يقول: «النص الروائي عندي ليس مجرد حكاية، وإنما محاولة لإيجاد الشكل السردي المناسب، والبحث عن تقنية جديدة وتجريها بالشكل الذي يناسب الشخصيات والموضوع».

          بالإضافة للتجريب والبحث عن التقنية، يبذل باموق جهدًا كبيرًا أيضا في البحث، وهي سمة من سمات الرواية الأوربية المعاصرة على أي حال، تقتضي منه بذل وقت كبير في قراءة التاريخ، والبحث عن المعلومة التي تناسب الموضوع الذي يكتب عنه، وهو ما يتجلى في شكل لافت في «اسمي أحمر» وكما يقول: «في هذه الرواية بذلت جهدًا كبيرًا في البحث في تاريخ الفنون الإسلامية، بالإضافة للموسوعات المتخصصة في الإسلام والتصوف».

          ومن هذا الدأب، والعمل اليومي يكتب باموق، كما يقول، ما يناهز 180 صفحة كل عام. ولعل الكتابة بهذه المثابرة تستدعي سؤالاً من قبيل: لماذا تكتب من الأساس؟ ما هي دوافعك للكتابة؟

          يقول باموق: «عندما تعرفت على رغبتي في الكتابة لأول مرة، لم تكن لديّ دوافع لها صبغة اجتماعية، وإنما كنت أستجيب لرغبة خاصة في التعرف على ذاتي، وأن أكتشف نفسي أولاً. ولكن، عندما تشرع في تأمل ذاتك، وتتحدث عن نفسك، تدرك لاحقًا أنك تتحدث عن الآخرين أيضًا، لذلك أعتقد أن الكتابة هي محاولة لتناول الآخر والكتابة عنه في إطار تناول الذات بالتأمل، وهذا ما يجعل القارئ يجد ما يعبر عنه هو بشكل من الأشكال».

 

إبراهيم فرغلي   





باموق وسط مدينته التي يعشقها «اسطنبول» والتي ستعيد أكتشافه بعد حصوله على جائزة نوبل