أورهان باموق: بين الأدب والسياسة... خيط أحمر رفيع

أورهان باموق: بين الأدب والسياسة... خيط أحمر رفيع
        

ملامح أوربية دقيقة، أناقة فرنسية، وترفع عثماني لا تخطئه عين. منذ ثلاثين عامًا ينقب في الروح الحزينة لمدينته اسطنبول، واضعًا يده في معرض هذا البحث على رموز روحية جديدة للصراع والتشابك بين الثقافات كما, جاء في براءة منحه جائزة نوبل عام 2006.

          «نجم جديد يبرز في الشرق» هكذا وصفته جريدة «نيويورك تايمز» العريقة، فالروائي التركي «أروهان باموق»، كان معروفًا على نطاق واسع في أوربا وأمريكا والشرق الأدنى، وكذلك البلدان الناطقة بالإسبانية، إنه الابن المتمرد، ليس فقط للرواية التركية ولكن للثقافة التركية عمومًا، يصور الحاضرة بكل إرهاصاتها بما فيها من إثنيات ومذهبيات في صراع يعكس التاريخ العثماني، ترجم لأكثر من خمسين لغة متصدرًا أفضل الكتب مبيعًا على مستوى العالم. «الخائن لوطنه، العميل للغرب»، هكذا أطلق عليه بعض مواطنيه وهم يحرقون رواياته في الساحات العامة بعد تصريحاته للصحافة السويسرية عن محرقة الأرمن، يكرمه الرئيس التركي سليمان ديميريل ويحاكمه القضاء التركي.

من الهروب إلى المواجهة

  • «أريد أن أكون الكاتب التركي الوحيد الذي لم يدخل السجن» صرحت بذلك مرات عدة بالرغم من أن السجن ليس هو الشيء الوحيد الذي يهددك، فأنت مهدد بالقتل أيضًا، هل ستختار أن تصبح مثل «كار» بطل روايتك «ثلج» عندما فضل الهروب على المواجهة؟

          - «كار» شخصية تعسة، أما أنا فشخص أكثر سعادة أتحمل المسئولية التي ألقيت على عاتقي وسوف أواصل للنهاية، فلم أقل إنني متشبث بكلماتي وآرائي فحسب، ولكنني متشبث بحقي في أن أقولها أيضًا، فالتابوهات آخذة بالتخلخل، هذا من ناحية، ولكني أود أن أشير إلى شيء آخر مهم، فبالرغم من أنني لا أمارس الرقابة الذاتية في رواياتي، فإنني أعرف حدودي تمامًا وأنا أكتب المقالات الصحفية، وأستطيع أن أعطيك قائمة بكامل الموضوعات، التي أحاول تفاديها لأن 99% من الكتّاب في السجون التركية هم صحفيون.

  • تفصل إذن بين الأدب والصحافة، بالرغم من أنك عملت صحافيًا تحت التمرين فترة لابأس بها؟

          - مع احترامي للصحفيين والصحافة، إلا أنني وجدت أن الأجيال السابقة أفسدت الأدب بإدخال السياسة فيه، السياسة بالنسبة إليّ مجرد حجة لأتكلم عن أشياء أكثر إنسانية من السياسة اليومية.

  • يرفضك قطاع عريض في المجتمع التركي، ويرون جرأتك في معالجة الموضوعات الإثنية داخل المجتمع التركي، ومناصرتك لحقوق الإنسان إهانة لهم على طريق مغازلة الغرب؟

          - الفرق كبير جدًا بين أن ينتقد المرء نقائص الدولة التركية على مستوى الديمقراطية، أو يرصد عيوبًا في نظامها الاقتصادي، وبين أن يهين الثقافة التركية بأكملها، ولسنوات عدة انتقدت هذا المجتمع لطريقة معالجته للقضية الكردية، ولفشله في التحرك باتجاه الديمقراطية، وعصفه بحقوق الإنسان، ومنع الكتب، إنه وقت أفصل فيه نفسي عن هذه الجمهورية السعيدة، التي تفتقر إلى الحس النقدي الذاتي، وتغمس نفسها في جنون القومية.

  • لكنك في روايتك «الحياة الجديدة» سخرت من الزعيم «كمال أتاتورك» مؤسس الجمهورية التركية التي يفخر بها بنو وطنك؟

          - لا أكره أتاتورك ولكني لست واحدًا من هؤلاء الذين يقولون أحب هذه الشجرة فقط لأن أتاتورك اعتاد أن يحبها، وأعرف أن ذلك من الأشياء التي تغضب رفاقي كثيرًا في تركيا، ولكن عندما تم تغريب تركيا وقف الفقراء والمحافظون والطبقات الأدنى بشكل عام ضد هذا التحديث التغريبي، وأرادوا أن يصونوا الحياة التقليدية، ولكن الدولة التركية أرادت أن تفجّر هؤلاء الناس، تتخلص منهم بدلاً من أن تفهم أسفهم وحزنهم على ماضيهم المفقود، لقد مضى أتاتورك قدمًا في  التغريب بشكل مؤلم.

  • ألا ترى معي أنك بهذا تنصب نفسك كاتبًا سياسيًا بالرغم من إصرارك الشديد على التأكيد على عكس ذلك؟

          - أبدًا لا أرغب في أن يراني أحد باعتباري كاتبًا سياسيًا، ففي رواياتي أتحدث عن التغييرات الميتافيزيقية وردود الأفعال الإنسانية تجاه ما اعتدنا أن نسمّيه هويتنا، وعندما تتغير كل الأشياء من حولك لا يهم أن تأخذ هذه الأشياء بعدًا شرقيًا أم غربيًا، حديثًا أو تقليديًا، فأنت لديك حياة وتقاليد، وقد تغيرت هذه التقاليد لسبب أو لآخر، هذا هو ما أهتم به، أهتم بما تم فقده، لقد سعيت إلى اكتشاف عالمين والكتابة عنهما كما هما، رؤية المثقف المتأثر بالغرب وهو يتصالح مع الجزء المنسي الأكثر فقرًا والأكثر إهمالاً وغضبًا مقدمًا رؤية درامية لهذا التصادم في الطرق المختلفة للتعايش مع العالم، بعيدًا عن شرقية الشرق، وغربية الغرب على طريقتي الخاصة، لعل الفجوة تكمن بين وجداني والواقع السياسي والاجتماعي للبلاد، وإن ذلك هو قوام التوتر في رواياتي.

كاتب يشبه البوسفور

  • بهذا المعنى يعتبرك الكثيرون في الشرق والغرب جسرًا بينهما؟

          - دعيني أقل لك شيئًا قد يدهشك، أشبّه نفسي كثيرًا بمضيق البوسفور التركي الشهير، ذلك لأنه ينتمي إلى هنا، ولكنه يضع قدميه بين قارتين، يعرف الغرب والشرق جيدًا، أريد أن أكون جسرًا بمعنى أن الجسر لا ينتمي ولا يخص أي قارة أو أي حضارة على حدة، وله في الوقت ذاته فرصة فريدة في رؤية الحضارات جميعها، إنه امتياز رائع.

  • أجدك كما الكثيرين من القراء كاتبًا صعبًا تتوارى واقعيته خلف عالم الفانتازيا أثناء تنقيبه داخل المنمنمات التركية المتشابكة مستثمرًا خبراته التشكيلية.. مرة أخرى يضعنا هذا أمام معادلة القراء - النقاد هل ترى نفسك كاتبًا نخبويًا معزولاً وأنت محاط بجوائزك الأدبية الدولية ومقالات النقاد؟

          - عندما أكتب رواية ما تكون «عوليس» في عقلي دائمًا ولكني أرى أن طبعتي ينبغي أن تكون أكثر غموضًا، إنه إحساس من ينقب عن المعلومات في الظلام، بناء القصص داخل القصص، ولقد حصلت بالفعل وحتى قبل جائزة نوبل على جوائز دولية مهمة عدة منها جائزة اتحاد الناشرين الألمان، جائزة بوكر مان البريطانية ذائعة الصيت، ولكنني أيضًا ترجمت إلى أكثر من خمسين لغة واستطعت في دولة تفتقد عادة القراءة كتركيا أن أوزع مائتي ألف نسخة من روايتي «الحياة الجديدة» التي أصبحت أسرع الكتب مبيعًا في التاريخ التركي، لقد قرأني المثقفون وقرأني القراء العاديون الذين أرادوا أن يعرفوا ما هذا الكتاب، متوقعين أن هناك حياة جديدة سوف تفصح فيه عن نفسها ولا أخفي عليك أنني أحيانًا ما أشعر بالذنب لكوني كاتبًا «ما بعد حداثي» غامضًا لا أريح قرائي بالطريقة التي يريدون أن يرتاحوا بها، فكتبي ليست خريطة ترشد العالم ولكنها تجربة في حد ذاتها لأن البلاد التي لا تملك الكثير من التاريخ الحزين أكثر بساطة ولكنها في بساطتها واقعية تستطيع أن ترى مشاكلها بسهولة أما نحن فعندنا الكثير من التاريخ، الكثير من الحزن الذي يضبب رؤيتنا ويوهن طاقتنا على الخلق والإبداع.

  • «ذات مرة قرأت كتابًا فتغيرت حياتي للأبد» هكذا قمت بتصدير روايتك «الحياة الجديدة» تقول إنك كاتب غامض فماذا عنك كقارئ؟

          - أصنف نفسي ككاتب راديكالي وكقارئ أتوقع من الكتب أن تفتح أمامي عالمًا جديدًا، أنا قارئ حذر وساخر، وبهذا المعنى فأنا لا أمتلك توقعات مسبقة، أحب «ألف ليلة وليلة» ومنذ طفولتي ولأنني كنت ماركسيًا قرأت كثيرًا في النظرية الماركسية جنبًا إلى جنب مع روايات فوكنر، كونراد، ديستويفسكي، سارتر.. هؤلاء هم أبطالي، وما توقفت عنده هو كيفية هندسة العالم سياسيًا وفنيًا وكثيرًا ما التقيت بورخيس وبروست في زمنه الضائع.

  • ثلاثون عامًا مضت من الكتابة، سنوات البداية الثمانية لم تكسبك أي مال، وأورثتك شعورًا بمشقة ما أنت مقبل عليه، تبخرت تفاصيل كثيرة وبقيت طقوس تمارسها كلما هممت بالكتابة... ما هي؟

          - إنني كاتب دءوب أعمل من ثماني إلى عشر ساعات يوميًا، 320 يومًا في السنة وعلى الرغم من أنني أصنف نفسي ككاتب «ما بعد حداثي» فإنني مازلت أكتب بالطريقة القديمة, الورقة والقلم, أصبح القلم جزءًا من إصبعي والمنضدة بعضًا من جسمي، ويتهمني أصدقائي أنني مثل «الكتبة».

 

أجرت الحوار: ولاء فتحي   





عند استضافة اورهان باموق في معرض الكتاب بالقاهرة وبجواره الكاتب محمد سلماوي ود. ناصر الانصاري