عبدالله الأنصاري في ذكراه الأولى: أديب مسكون بالحلم والحرية

 عبدالله الأنصاري في ذكراه الأولى: أديب مسكون بالحلم والحرية
        

في ذكراه الأولى جلست أستعيد ذكرياتي منذ فترة الأربعينيات، في المدرسة الشرقية، حيث كنت أجلس في مقاعد الدراسة أنصت بشغف إلى معلمي الأستاذ عبدالله الأنصاري، وهو يقدم لنا إلى جانب الدروس المقررة باقة من باقات الأدب والشعر وهذا ما فَجَّر في أعماقي عشق الأدب والاتجاه للشعر والقراءة.

          كانت هناك مزايا كثيرة يتحلى بها الأستاذ منها هدوؤه الذي تميز به ورحل وهو على تلك السجية المباركة وخلقه الحميد وتصرفاته المتزنة، فكنا نحن الطلبة نجله لكل تلك السجايا الحميدة والتي يتحلى بها، ونتلقف ما يأتينا منه من علم وأدب وفكر وأخلاق. وكان سروره كبيرًا عندما يجد عندي أحيانًا كتبًا غير مقررة في المنهج ويشجعني على القراءة المستمرة.

          لم يكن في تلك الفترة مجرد معلم لمادة علمية أو كتاب مقرر، ولكنه نموذج لرجل العلم والثقافة الذي تكاملت فيه المعاني الجميلة. فهو يحلق بنا في فضاءات الأدب كاشفًا عن القيم الجمالية في قصيدة كتبها علي محمود طه، ومفسرًا لأهمية كتاب من كتب عميد الأدب العربي طه حسين، ويقف متمهلاً أمام إحدى قصائد المتنبي معبرًا عن سر البطولة وملامح العصر.

          وأذكر أنه إلى جانب أستاذنا الأنصاري كان هناك نخبة من المعلمين الذين شقوا مجال الأدب أيضا ومنهم أحمد البشر الرومي الذي يعد من كبار الباحثين في التراث، وكذلك عيسى المطر الذي عرفناه شاعرًا أصيلاً، وعبدالرزاق العدواني وهو أيضًا كاتب ومفكر قد ساهم في الحياة الفكرية من خلال مقالاته التي كانت تنشر في مجلة البعثة بالقاهرة، حيث كان يصدرها بيت طلبة الكويت وكذلك شقيقه الشاعر أحمد مشاري العدواني، الذي ساهم أيضا بقصائد وطنية ومقالات أدبية نشرها في مجلة البعثة.

          لاشك أنها كانت مرحلة ثرية بالثقافة والأفكار والطموحات الوطنية الكبيرة فهؤلاء جميعًا كانوا رواد التنوير في الكويت ومن خلال إنجازاتهم وأفكارهم ساهموا في مواكبة الحركة الثقافية والفكرية في العالم العربي وبرزوا واشتهروا من خلال إبداعاتهم في الفكر والشعر والتراث واللغة والسياسة.

          فكان الأنصاري معلمًا للفكر، وأستاذًا لجيل جديد مسكون بالحلم ورائدًا من رواد الأدب ورجل الحكمة والفلسفة والنظرة العميقة للكون والحياة والإنسان.

          وهذا ليس بغريب على أستاذنا الكبير الذي نهل من المعارف وتأثر بالشعر العربي وتابع كتابات طه حسين والعقاد والرافعي والمازني والزيات ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل من خلال ما كان يرد إلى الكويت من مجلات أدبية متخصصة مثل مجلة الرسالة والهلال والثقافة والأديب والمقتطف، هذا بالإضافة إلى كتب التراث العربي التي اطّلع عليها في مكتبة والده.

الينابيع الأولى

          ويجب أن أشير إلى واحد من أهم المصادر والينابيع التي ساهمت في تشكيل وجدانه الشعري ورؤيته الإنسانية وإيمانه بالعروبة ونزعته الإسلامية العميقة ونظرته الفلسفية في قصائده للحياة والكون.

          فقد كان والده رجل علم ودين يدير مدرسة لتدريس علوم القرآن والكتابة والحساب، ودرَس الأنصاري في مدرسة والده وحفظ القرآن الكريم وأتقن الخط العربي ومبادئ العلوم. وعرف عنه الذكاء والحماسة والإقبال على قاعة الدرس والتحصيل الجاد والتفوق بين زملائه.

          وقد قام على تدريسه بعض المعلمين الذين تميزوا بحب القراءة والاطلاع، ومنهم الشيخ عبدالعزيز الرشيد الذي زرع في وجدان طلابه معنى الانتماء للوطن وعشق القراءة والشعر والاهتمام بالمجلات والكتب.

          ومن هنا اتجه الأنصاري إلى قراءة كتب السيرة والتاريخ وأبطال الفتوحات الإسلامية، وشغف بالشعر العربي وأحب قصائد المتنبي وأبي تمام والشريف الرضي وحسان بن ثابت وبعض شعراء العصر الجاهلي.

          وحينما اتجه إلى المدرسة المباركية 1928 ليدرس هناك لمدة ثماني سنوات استطاع أن يعمق اتجاهاته الأدبية بالقراءة واقتناء المجلات المتخصصة مثل مجلة الرسالة التي كان يصدرها من مصر الأديب أحمد حسن الزيات، ومن هنا لمست كتابات الزيات والرافعي وهيكل والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وزكي مبارك والمازني وعبدالوهاب عزام مشاعر الأنصاري وتأثر فكره بهم إلى حد كبير.

          لم يتوقف الأمر عند تلك المرحلة بل إن الأنصاري حينما شغل وظيفة محاسب في بيت الكويت بالقاهرة اقترب كثيرًا من نبض الحركة الثقافية والسياسية في مصر، واستوعب ما يدور حوله من أحداث خلال بداية فترة الخمسينيات، لاسيما عندما تولى تحرير مجلة البعثة التي كان يصدرها بيت الكويت بالقاهرة التقى بالعقاد وطه حسين وأحمد زكي أبو شادي، وشاهد هؤلاء الأدباء الذين عاش معهم منذ دراستهم يقرأ لهم ويتابعهم وها هو يلتقي بهم ويدعوهم لندوات ثقافية وأمسيات شعرية ومطارحات فكرية في بيت الكويت.

          وفي العدد الثاني عشر من السنة الثانية الموافق يناير 1949 ينشر الأنصاري قصيدته الوطنية، التي يدين فيها سياسات المستعمر والأنظمة التي تهاونت في الدفاع عن فلسطين، ويرفض الكلمات الجوفاء والشعارات الكاذبة ويدعو إلى تحرير فلسطين من أيدي الطغاة.

الوجدان القومي

          ولاشك أن القصيدة تعبر عن تلك المرحلة التي امتزج فيها الأنصاري بفكره وحسه ووجدانه القومي والعروبي خلال حياته بالقاهرة فيقول:

قد سئمنا القول من كان وكنا ومللنا النظم ألفاظًا ووزنا
خطب تُلقى فلا نسمعها غير أقوال حوت دانوا ودنا
وقصيد زوقت أوزانه قد خلت أبياته من كل معنى
ليس يجدي زخرف من كلم لا ولا يدرك شيئًا من تمنى
نتمنى والأماني كذب يا لها من أمنيات ليست تغنى
كم ملأنا كل نفس حسرة وسكبنا الدمع آلاما وحزنا


          وقصيدة الأنصاري تعتــبر من القصائد القومية الصادحة بالحرية والثـــــائرة ضــــد الظـــــلم والهوان والعبودية، فهو يحث العرب على تحرير فلسطين وينتقد مجلس الأمن في موقفه السلبي ويقول:

مجلس الأمن وكم أسمعتنا من دروب الزُّورِ في التحكيم فَنّا
مجلس الأمن وما الدنيا سوى لعب هلا جعلت الخوف أمنا
لا أرى قصرك هذا أبدا غير بيت شِيد للأحرار سجنا
يا ليافا أنراها هُوِّدَت؟ بعد ما كانت لآلِ العرب كِنّا
ولحيفا أتراها أقفرت وخلت أربعها مغنًى فمغنَى
ليتني والدهر في سكرته لا أرى عينًا ولا أسمع أذنًا


          وقد حفلت مجلة البعثة بكوكبة من الكتّاب والأدباء من الكويت ومصر والشام والعراق ساهموا في نشر المقالات الأدبية والسياسية والاجتماعية والمسرحيات القصيرة المترجمة عن الأدبين الإنجليزي والفرنسي، وفي مقدمة هؤلاء عبدالعزيز حسين والأنصاري وأحمد الشرباصي ويعقوب الحمد وأحمد زكي أبو شادي ومحمد عبدالمنعم خفاجي وعبدالعزيز الصرعاوي ومحمد مساعد الصالح وعبدالعزيز الغربللي ومحمد الفوزان وأحمد العدواني وعبدالرزاق العدواني وأحمد السقاف وأحمد عنبر وفهد الدويري وخالد الخرافي وجاسم القطامي وحمد الرجيب وعبدالمحسن الرشيد ويوسف الشايجي وعبدالله أحمد حسين وعبدالله محمد العجيري وخالد الفرج وخالد خلف وغيرهم الكثير مما لا أستطيع أن أذكرهم، ولكنهم هم الذين قادوا الكويت إلى نهضتها الثقافية والأدبية.

          عاش الأنصاري حياته رجل الموقف، إذا تحدث صدَق، وإذا وعد التزم، وإذا شعر عبّر في شعر أو مقال، ومن أدباء الحرية ودعاة الحق والخير والجمال، يؤمن بطموحات الإنسان من أجل تغيير واقعه وتحرير وطنه من القيود والأغلال، يسكنه حس مرهف ونزعات إنسانية تشفق لكل إنسان، وتخفق روحه لعذاب الحيارى والضائعين والمشرّدين في هذا الكون، يبحث عن العدل والحرية والسلام للعالم دون تفرقة أو تعصب أو نزعات إقليمية، يمتد وطنه ليشمل الوطن العربي دون حدود أو أسوار. وناقش في كتبه قضايا الحرب في كل مكان وقضايا العنصرية، ودعا إلى عالم خال من العنف والاستبداد والاضطهاد.

          كشف عن كنوز الشعر العربي بالكويت بمتابعة وإصدار كتب لشعراء مبدعين، وأعتقد أنه بفضل جهده هذا قرأنا عن فهد العسكر وصقر الشبيب وشوقي الأيوبي وغيرهم. وحفلت مقالاته على صفحات الجرائد والمجلات الأدبية وافتتاحية مجلة البعثة أو البيان بتحليل للواقع الأدبي وقضايا الفكر السائدة، وهو حريص على اللغة العربية والتراث والشعر، ويدعو الجيل الجديد إلى القراءة والتزود من نهر الأدب وفنونه.

ديوان الثقافة

          وعندما تفرغ للأدب تمامًا بعد عمله في الخارجية سفيرًا، كان ديوانه بالشامية يمثل المدرسة الكبرى، التي احتشد فيها المفكرون والشعراء والأدباء لمناقشة أعمق القضايا الثقافية والسياسية.

          وأعتقد أنه من الضروري أن نكتب عن تلك المرحلة الأخيرة في حياة الأنصاري وديوانه الثقافي الذي زاره عدد كبير من الشخصيات العربية، التي تأتي للكويت. وكنت أحرص على حضور ديوانه هذا، وأجلس كما كنت أجلس في مقاعد الدراسة، أنصت بشغف إلى حديثه العذب وروحه المرحة، وهو يعود بنا إلى الأربعينيات 4491في تلك الحادثة الشهيرة، ويقول: حينما حاول مدير المعارف إلغاء مناهج التعليم في المدرسة المباركية ويستبدل بها مقررات يومية توزع على المدرسين الذين يدرّسونها في الصفوف. هذا الأمر لم يغضب الطلاب أمثالنا فقط، بل إن بعض المدرسين غضبوا واعترضوا. المهم فوجئنا بنسف مناهج اللغة العربية والتاريخ العربي وسواها فكان رد الفعل عنيفًا وحصل ما حصل.

          ويقول لنا الأستاذ فيصل محمد الحجي عن دور ديوان الأنصاري وأثره الثقافي:

          - في إحدى الأمسيات بديوانه بالشامية حملت إليه بيتين لشاعر أندلسي لم أوفق في معرفة اسمه وهما:

مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضدٍ فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد


          وما أن أنشدته إياهما حتى قال: هذان لابن رشيق القيرواني. هكذا هو الأستاذ الذي تقرأ كتبه فينالك العجب من موسوعيته، وهي صفة أضحت نادرة في أيامنا هذه، وتستمع إلى حديثه، فيعود بك إلى الزمن الجميل، وتصغى إلى شعره، فتحس أنه أطيب من نفس الربيع.

          تُرى كيف كان ينظر الأنصاري للموت؟ أعني كيف فلسفَ موقف الموت في شعره ورؤاه؟ إن الحياة يراها مجرد قشور وعناء وحيرة وضباب واليقين الحقيقي هو الموت الضجعة الأخيرة للمرء، حيث يواجه الحقيقة دون زيف أو ادّعاء.

دعها بمعترك الحياة تدورُ فالعيش زيف والأنام قشورُ
دعها تدور تدور حتى تنتهي ويلفها في صمته الديجور


          واذكر كلماته عن الموت «إنه غاية كل حي». ولا سبيل لخلود أو بقاء، وإنما يفنى المرء وتخلّد مواقفه وأعماله العظيمة وتاريخه شاخص يشهد له بدوره وإنجازه الكبير للوطن والإنسان:

إنه الموت في رقاب العبادِ كلنا نحو ساحة الموت غادِ
إنه الموت كم مضى برفيق وطوى طيه بلا أبعاد


          وترتجف الكلمات على شفتيه،  وينظر إلى نافذة يطل منها الضوء يفترش سريره ويقول:

وعجبت للإنسان نزعتُه نحو البقاء فهل لديه رَشَدْ
تُزرى به الدنيا فيتبعها أيريد أن يحيا حياة لبد؟
وعظ الزمان فيالها عظة وعظ الزمان بها فَلاتَ أحد
أم أن في الإنسان عارفَةً أو قالةً فيها بغير سند؟
تبا لهذا المرء قالته أبدا غثاء كلها وزبد


وتترقرق عيني بالدموع... ويستبد الحزن والهلع بروحي، وأكاد لا أصدق أن شمسا من شموس العلم والمعرفة تغرب إلى الأبد.
وينسكب الضوء على وجه أستاذي ومعلمي.
وتشهق العصافير فوق أشجارها, وينتحب الناي,
وترتسم بسمة صافية ملائكية على قسمات وجهه
وترحل روحه في سكون.

          وأردد في صمت قول شوقي في حافظ:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء


 

فاضل خلف   






 





صورة تذكارية تجمع طلبة بيت الكويت في القاهرة مع الشيخ عبد الله الجابر ويبدو الاستاذ الانصاري في يسار الصورة