السلطان.. عاشق الذهب

السلطان.. عاشق الذهب
        

لم يكن بيبرس الثاني يشبه بالتأكيد سميه الأول، كان كلاهما مملوكًا يباع ويشترى، وأصبح كلاهما سلطانًا على مصر يبيع ويشتري في خلق الله، ولكن فيما عدا ذلك كانت الشقة بعيدة بينهما.

          بينما كانت تتلى مراسيم تولي السلطان المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير بوصفه السلطان الثاني عشر من سلاطين المماليك كان هو جالسًا على العرش غارقًا في التفكير، كان يتأمل الأمراء والقادة والشيوخ وهم يلقون عليه قسم الطاعة والولاء، وشيوخ المذاهب الأربعة وهم منهمكون في تدوين وثيقة توليه السلطنة، انتهت الحروب الكبرى، ولم يبق من صراع إلا مع هؤلاء الرفاق القدامي، عاجلا أو آجلا سوف يشعرون بأنه قد ابتلع لقمة أكبر من طاقته، كان هو الحلقة الأضعف بين المماليك المتصارعين، كانوا من القوة بحيث لم يستطع أحد أن يفرض إرادته على الآخر، لذلك اختاروه هو على أمل أن يركبوه جميعًا، ولكن حتى يأتي هذا اليوم عليه أن يؤمن نفسه ويحمي ظهره، كان الملك الظاهر بيبرس الذي سبقه على عرش هذه البلاد قد أنفق كل الذهب على محاربة الصليبيين والتتار، ولكنه لن يكرر هذا الخطأ.

          في اليوم الأول من سلطنته استولى على كل ما وجده في الخزائن من ذهب وفضة، ولكن مافيها لم يكن كافيا، استدعى الامير سلار نائب السلطنة، قال له متوترًا: الخزائن فارغة، افرغتها الخلع والبيع وشراء الولاءات، لابد من جمع ضرائب جديدة.

          كان الأمير سلار عجوزًا محنكًا، بقي طويلاً في منصب نائب السلطنة لانه لم يكن يوما طامعا في العرش، كما كان حريصا على كبح جماح السلاطين دون أن يغضبهم، قال له: يامولاي هذه بلاد روحها النيل، إذا وفى امتلأت البلاد بالغلال، وامتلأت الخزائن بالأموال، وإذ لم يف قل علينا السلام.

          سار السلطان ملهوفا إلى شاطئ النهر.

النيل

          كانت بوادر وفاء النيل قد بدت ظاهرة للعيان، تغيرت المياه واكتسبت اللون الإفريقي الداكن، وتدافعت الموجات وهي مثقلة بالغرين ونثار البراكين، وعلى طول الضفاف كان الفلاحون قد استعدوا للولادة الجديدة للنهر مثل كل عام، شقوا الارض وقلبوا تربتها وقسموها إلى أحواض ووضعوا البذور في أرحامها وانتظروا حتى تغمرها المياه.

          ولكن النيل لم يف بوعده، توقف ارتفاع المياه قبل ان يصل إلى قياسه المحدد، خمس عشرة ذراعًا وسبع أصابع، لو زادت على ذلك كان الفيضان، ولو قلت كان الشح والغلاء، ولكن النيل لم يرتفع بمقدار الأصابع المرجوة، وكان من المفروض أن يهبط السلطان من القلعة ليفتح السد ويضمخ مقياس النيل بالطيب والزعفران، ولكنه لم يفعل، ظلت الأرض عطشى والبذور جافة والنيل عاصيًا.

          كان رد الفعل سريعًا في كل المدن، شحت الغلال وارتفعت الأسعار وخبأ التجار الأقوات، بدت ملامح المجاعة، وتشاءم الناس من وجه السلطان الجديد، ولكنه وجد في تلك المصيبة فرصة سانحة، كانت مخازن القلعة مليئة بالغلال، وبدلا من أن يوزعها على الجوعى والمحتاجين كما جرت العادة، أخذ يبيعها بأعلى الأسعار، وضجت الناس من الغلاء، ولم يكن أمامهم إلا السخرية يقاومون بها حنقهم وجوعهم، ساروا في الشوارع وهم يغنون:

          ياسلطان ياركين.. من وشك غاض النيل

          وانتشرت الأغنية، عبرت الشوارع والأزقة وصعدت إلى القلعة، إلى مسامع السلطان، كانوا يسخرون من اسمه ويحورونه من ركن الدين إلى ركين، صاح في جنده: هؤلاء الحرافيش قد أساءوا الأدب، ويجب أن يعاقبوا.

          هجم الحرس على الأسواق والمقاهي وأماكن السمر، ضربوا من فيها بالمقارع وجروا قسمًا كبيرًا منهم إلى سجن العرقانة، ساد الرعب المدينة، وتوقف الغناء، هرع أهالي السجناء باكين إلى ساحة القلعة، يتوسلون للسلطان حتى يفرج عن أبنائهم، ولكن غضبه كان شديدا، لم يخف إلا بعد أن فرض على كل واحد من السجناء عشرين قطعة ذهبية ليفرج عنه، ودفع الأهالي صاغرين، ومن لم يقدر أهله على الدفع، ظل ملقى في غياهب السجن لا يعرف مصيره سوى الله، وظفر السلطان بمبلغ جيد من الذهب.

العرش

          ثم جاءت مشاكل أخرى ولكن من الخارج هذه المرة، من الشام، حيث كان يوجد السلطان السابق الناصر قلاوون، كان هذا السلطان قد عزل نفسه بنفسه حين رأى تحكم كبار المماليك به، حتى انه لم يكن قادرا على إقامة وليمة او شراء جارية إلا بعد أخذ الإذن من نائب السلطنة، لذلك فضل أن يخلع نفسه عن العرش ويلجا إلى قلعة الكرك في الشام ليقيم فيها، ولكن عندما ضاق الحال بقادة المماليك في مصر، وعانوا جشع السلطان، بدءوا يراسلون السلطان قلاوون، لعله يأتي ويأتي الخير على يديه، كتبوا يقولون له:

          «تعال وامتلك هذا البلد المنكوب، وخلصنا من هذا السلطان الشحيح».

          ووقعت واحدة من الرسائل في يد السلطان الناصر بيبرس، جن من الغضب، أخذ يعدو في أروقة القلعة وهو يصرخ متوعدًا الخونة، وأمر بالقبض على كل من راسل، وكل من عرف وتواطأ، وكل من يفكر في المراسلة، كانت فتنة هائلة لم يشهد المماليك مثلها منذ ان قامت دولتهم، قبض على أكثر من ثلاثمائة من القادة ومقدمي الجند، قتلوا وضربوا وحلقت لحاهم وشواربهم وسيقوا إلى سجن الإسكندرية، ولم يكن هذا السجن إلا قبوًا هائلاً قل أن يخرج منه أحد وهو حي.

          وبينما كان السلطان ينعم بالذهب الذي صادره من بيوت الأمراء المغضوب عليهم، كانت المدينة تعيش جوًا من الرعب من بطش السلطان، لم يعد أحد يجرؤ على الغناء، ولم يعد أحد يجأر بالشكوى، ولم يعد هناك أمل في الخلاص.

          ولابد أن الأخبار السيئة قد وصلت إلى الشام، فقد تقوى عزم السلطان قلاوون الابن، استيقظت شهيته للعرش مرة أخرى، أيقن أن السلطة مرض لا براء منه، بدأ يقوم بزيارات لكل الولاة الذين يحكمون المدن الشامية، كانوا جميعًا من تلامذة أبيه قلاوون الأكبر، هو الذي اشتراهم وأعتقهم وحولهم حكامًا وقادة، طلب منهم أن يناصروه وأن يسيروا معه إلى مصر، حيث الذهب والنساء والسلطة المطلقة، كان إغراء لا يستطيع أحد مقاومته، انضم إليه والي دمشق ثم ولاة حلب، وحمص وصفد، جمعوا جيوشهم في جيش واحد وبدأوا في المسير.

          وصلت الأنباء إلى السلطان المظفر، أدرك أن الخطر هذه المرة أكبر من أن يعالجه بالسجن أو القيام بضربة مباغتة، اجتمع مع نائب السلطنة الأمير سلار ليتدبرا في ما يعملان، قال سلار:  لا مفر من أن نعد جيشا نسيره إليهم قبل أن يباغتونا في ديارنا، لابد من أن نجهز الأموال والنفقات والمؤن، لا شيء يصنع النصر مثل الذهب.

          صاح السلطان مفزوعًا: ماذا؟.. أضحي بالأموال، التي جمعتها بشق الأنفس، ألا يوجد حل آخر غير مكلف؟

          ولم يدر سلار ماذا يجيبه، تركه ليتدبر أمره.

          قضى السلطان ليلة معذبة، كان الذهب الذي حلم به، والذي فعل المستحيل من أجل جمعه يوشك أن يتبدد من يده، نظر إلى المدينة الهاجعة تحت أعتاب القلعة، خائفة ومظلمة، كان واثقا من أن سكانها يكرهونه ويتمنون هزيمته، وكان الرد الوحيد عليهم هو أن ينتصر، يؤكد لهم مدى قوته وسطوته، ثم يجعلهم بعد ذلك يدفعون الثمن، كل درهم سينفقه على الجيش سيسترده منهم مرة أخرى.

          في الصباح المبكر جاء سلار وهو مربد الوجه، قال له السلطان: سنعد الجيش، وقد جهزت ما يلزم من ذهب، ولكننا سنزيد من ضرائب العام القادم.

          ولكن سلار رد في اقتضاب: لافائدة من ذلك، تسلل معظم الأمراء والقادة، وهربوا إلى الشام.

          أصيب السلطان بالذهول، لم يتصور أن يتخلى عنه الجميع وأن يغدو فجاة بلا جيش، لم يحدث  لسلطان من قبله أن تخلى عنه الجميع، تطلع حوله، إلى أسوار القلعة الهشة التي لا تستطيع حمايته، والمدينة الضيقة التي لا يمكن أن تؤويه، هتف في حيرة: وما العمل؟

          قال سلار: ليس هناك من حل إلا ان تتنازل عن العرش وأن ترسل للناصر قلاوون تطلب منه العفو حتى يحفظ عليك حياتك ويتركك تذهب إلى حيث تريد.حضر شيوخ المذاهب الاربعة، انهمكوا على الفور في إعداد وثيقة التنازل، دون أن يأبه أحد بالنظر إلى السلطان المذهول، وما أن فرغوا حتى انصرفوا سريعا ليستعدوا لاستقبال السلطان الجديد، لم يكن هناك وقت للرثاء او لتطييب الخواطر، حتى سلار نفسه حرص على أن يحمل وثيقة التنازل ويسير بها في اعتزاز، كانت هي التي ستضمن له أن يحتفظ بمنصبه مع السلطان الجديد.

الذهب

          كان الليل ثقيلا، ووجد الناصر بيبرس أنه غير قادر على انتظار رد السلطان القادم، كان يجب ان ينجو مبكرا قبل ان تتحول القلعة فخًا يقتنصه، هبط إلى الحظائر وأخذ أجود ما فيها من خيول، ووضع عليها كل ما جمعه من ذهب، الصديق الباقي بعد أن تخلى عنه كل الأصدقاء، حمل كل شيء ثم اتجه إلى الباب الخلفي للقلعة المطل على قرافة المقطم.

          كان الفجر يبزغ، والسماء يشقها ضوء رمادي خافت، الحرس نائمون، والمشاعل مطفأة بعد أن نفد منها الزيت، وسار السلطان المخلوع يجر جواديه، اغلقت خلفه بوابة القلعة للمرة الأخيرة، سوف يواصل السير إلى أقصى بلاد الصعيد حيث لا يستطيع أحد أن يلحق به.

          ولكنهم كانوا في انتظاره، العوام والحرافيش الذين ضربهم بالمقارع وسجن أبناءهم وسلب أموالهم وباعهم القوت بأثمان فاحشة، الذين أهانهم وألقى الرعب في قلوبهم، كانوا يسدون طريقه بوجوههم الجائعة المغبرة، تطلع إلى الخلف حيث القلعة الصامتة المغلقة الأبواب، لا يوجد ما يحميه من هذا الغضب المستعر في كل العيون، كانوا يصيحون من بين أسنانهم: لن تفلت منا يانحيس..

          تردد صدى أصواتهم فوق تلال المقطم المتجهمة، أدرك انها النهاية، كانوا قريبين منه لدرجة ان شم رائحة عرقهم، ورأى الرذاذ المتناثر من أفواههم، مد يده إلى الخرج الموجود على ظهر الجواد، لم يخرج غدارة او سيفًا، أمسك قبضة من قطع الذهب التي كانت تملأ الخرج ونثرها فوق رؤوسهم، في أول الأمر لم يفطنوا لما حدث، ظلوا يواصلون الاقتراب والتهديد، ألقى عليهم بالقبضة الثانية والثالثة حتى بدأ بريق الذهب يخطف بريق الصباح، تخلخلت حلقة الحصار من حوله، تركوه وأخذوا يدورون حول أنفسهم باحثين عن مكان الذهب المتساقط، وظل هو يواصل نثر الذهب وقد انتابته حمى الحفاظ على حياته، انشغلوا عنه جميعا، تدافعوا ونثروا في عيون بعضهم بعضًا الحصى والتراب، تصاعد غضبهم وبدأوا في العراك، واستطاع بيبرس ان يلوي عنان جواده وان يعدو مبتعدا، كان قد اصبح مفلسا ولكنه كان مازال حيا، وهكذا اختفى عن أبصارهم ولم يسمع احد عنه منذ ذلك الحين.

ماذا يريدُ المرء ما يشفيه يحسو روا الدنيا ولا يرويه
ويسير في نورِ الحياةِ وقلْبُه ينسابُ بين ضلاله والتيه
والمرءُ لا تشقيه إلا نفسه حاشى الحياةَ بأنها تشقيه
ما أجهلَ الإنسان يضني بعضه بعضًا ويشكو كل ما يضنيه
ويظنّ أن عدوّه في غيره وعدوّه يضحي ويمسي فيه


البردوني

 

محمد المنسي قنديل