مسألة فلسطين.. رءوف سالم

مسألة فلسطين.. رءوف سالم
        

المجلد الأول 1798 - 1914

يقدم «هنري لورنس» أستاذ التاريخ العربي المعاصر بـ«الكوليج دو فرانس»، والذي كان قد تولى، قبل ذلك، إدارة مركز دراسات وبحوث الشرق الأوسط المعاصر ببيروت، تأريخًا لليهود في أوربا، الشرقية والغربية، والتجمعات الاستيطانية الأولى في فلسطين.

          عشية الحملة الفرنسية على مصر 1798، طرح كتّاب فرنسيون أفكارًا تروّج لإنشاء دولة لليهود، أن هناك إمكانًا لتكوين (قوام أمة لهم في فلسطين) يقومون بتنميتها واستثمارها، وتشكّل دعامة سياسية لإمبراطورية فرنسية في شرق المتوسط.

          ومع تجذّر أفكار (التنوير) اعتبارًا من منتصف القرن الثامن عشر، والتي تؤسس الاستحقاقات على المواهب الفردية، فعلى مدار القرن تماهت قضية تحرير اليهود - في أوربا - مع الحركة الليبرالية، والتي تسعى إلى تخليص الفرد - المواطن من القيود، التي يفرضها نظام اجتماعي قديم يستلهم الدين، ويستند إلى أسس تتميز بانعدام المساواة في الحقوق المدنية والسياسية. ومن الناحية الاقتصادية كان ذلك يعني أن يهجر اليهود تلك المهن، التي مارسوها تاريخيًا (البائع الجوال، صاحب النزل، السمسار الوسيط بين الإقطاعي وأحلاس الأرض، كما في روسيا القيصرية، أن يهجروها - أي هذه المهن - لمصلحة الانتشار في مجمل الحقل الاقتصادي الآخذ في الاتساع. وظهرت عائلات مالية دولية كبرى، يهودية، كحالة رأس المال المصرفي اليهودي الكبير، وكان مهده التاريخي: ألمانيا، مثل آل أوبنهايم، وآل واربورج، وآل روتشيلد. حتى أنه في الأعوام الممتدة من 1830 إلى 1850 (منتصف القرن التاسع عشر) أصبح اليهودي الأوربي رمزًا لسيطرة رأس المال. هذا الاتهام الذي تبناه - بخاصة - الاشتراكيون الأوائل: فورييه، برودون، وماركس.

          لقد اتخذ (تحرير اليهود)، أي الخروج من جيتو الطائفة المنغلق والزواج المختلط، وتسنم الوظائف السياسية العليا.. إلخ، أشكالاً مختلفة من الدمج والاستيعاب باختلاف العوالم الثقافية في البلدان الأوربية، وبما لها من خصائص ديموغرافية متباينة.

الاستيطان الصهيوني

          يقول المؤلف إن أمرًا صريحًا صدر عن السلطان «عبدالحميد» بحظر كل هجرة دائمة إلى سورية وفلسطين، حتى لا تتكرر الدراما المقدونية. ويتم التحايل، وتحرر عقود امتلاك لأراضي «الميري»، وهي الأراضي التي تحتفظ فيها الحكومة التركية بنوع من حق الملكية الأعلى، يتم تحرير العقود بأسماء آخرين كـ(الوكيل القنصلي البريطاني في يافا). وتنشأ مستوطنة في يوليو 1882، وأخرى في الجليل أواخر العام نفسه. ويتوالى إنشاء المستوطنات اليهودية، بالرغم من كل أشكال الاحتجاجات والصدامات المبكرة من (وسط محلي) رافض (وسكان محليين) رافضين. يواصل البارون روتشيلد - إذن - عمله في مجال التوسع العقاري لأجل مهاجرين يهود جدد إلى فلسطين. لقد كان الإطار العام للهجرة هو الإطار نفسه الذي نجده في «كتالوجات» الخبرة الاستعمارية لمشروعات الاستيطان الأوربي في العالم القديم. لقد كانت الدولة العثمانية منهكة، عاجزة، وقليلة الحيلة، فاعتبارًا من الشطر الأول للقرن التاسع عشر، خضعت بالفعل لوصاية جماعية حقيقية من جانب الدول الغربية. «وما كان يمكن للاستيطان الروتشيلدي أن يتم إلا بفضل النفوذ الأجنبي، مستندًا في المقام الأخير إلى البوارج الأوربية».

          منذ اللحظات الأولى، تحدث الصدامات بين المستوطنين اليهود وسكان القرى العربية المجاورة. في عام 1891 يوجه أعيان مسلمون ومسيحيون احتجاجات إلى الباب العالي حيال وصول أجانب يهود جدد. في يناير 1893 يشرح متصرف القدس موقفه لقنصل فرنسا: «إن عمليات الشراء الواسعة للأراضي، والتي تمت لمصلحة «أصدقاء صهيون» من جانب البارونات: «أوليفانت» و«هيرش» و«إيرلانجر» و«روتشيلد» قد أدت إلى طرد السكان العرب من عشرين قرية، وهناك خطر حقيقي في أن يجد سكان القدس أنفسهم، وقد حاصرتهم ضواحٍ يهودية لا تكف عن التوسع السافر».

دولة.. لصناعة أمة

          في عام 1895، يجد «هرتسل»، الصحفي والأديب البرجوازي العلماني، حلاً بسيطًا يريح الجميع للمشكلة اليهودية في أوربا قوامه إقامة دولة يمكن ليهود العالم أن يهاجروا إليها بشكل جماعي، دولة ليست قائمة على الدين والثقافة اليهوديتين، بل هي ببساطة دولة لكل اليهود يحيون فيها حياة طبيعية على غرار الأوربيين الآخرين، ولإنجاح المشروع يتوجب الحصول أولاً على سيادة حقيقية تضمنها الدول الأوربية. أما فيما يتعلق بأولئك الذين يتمتعون بالسيادة على الأرض (يقصد أصحابها الشرعيين)، فإنه بالإمكان منحهم تعويضات اقتصادية. وقد تصور منطقتين: فلسطين والأرجنتين، حيث تمثل أولاهما نقطة احتشاد ذات قوة غير عادية، بوصفها (الوطن التاريخي للأسلاف)!

          ينجح «هرتسل» في عقد أول اجتماع عام للصهيونيين (المؤتمر الصهيوني الأول أغسطس 1897)، ليزوّد الحركة بمنظمة كجهاز أعلى لها. وعلى الفور يبدأ في دق أبواب العواصم الأوربية، لتتبنى حلم إنشاء الدولة، مشددًا على أن الصهيونية سوف يكون بوسعها صرف اليهود عن مذهب الاشتراكية الخطير.

إمبراطورية تموت

          «إن ظاهرتين... متعارضتين، هما يقظة الأمة العربية، وسعي اليهود الكامن إلى إعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق جد واسع، مآلهما أن تتحاربا فيما بينهما بشكل متواصل، وذلك إلى أن تتغلب إحداهما على الأخرى. وعلى النتيجة النهائية لهذا الصراع، سوف يتوقف مصير العالم بأسره».

          هذا النص النبوئي الكاشف بما فيه من قطع وتأكيد كان في سنة 1905 لـ«نجيب عازوري» المسيحي الماروني صاحب كتاب (يقظة الأمة العربية). وفي أروقة المؤتمر الصهيوني السابع (بال. يوليو)، من العام نفسه، يعلن «نوردو» أحد خلفاء «هرتزل» أنه يتوجب على الصهيونيين، وبما أن العرب على حافة التمرّد على تركيا، أن يقترحوا على العثمانيين جماعة سكانية موالية قادرة على صون وحدة الدولة العثمانية. «نوردو» هذا نفسه هو الذي سوف يشدد على أهمية انتماء الصهيونية للحضارة الغربية: «إننا نريد من حدود أوربا إلى نهر الفرات». (المؤتمر الصهيوني الثامن - لاهاي. أغسطس 1907. ولم يكن موقف (الصهيونيين الاشتراكيين) غير استعادة شكلية للخطاب الاشتراكي، ضمن إطار استعماري.

          وتأتي الشهور الأخيرة من عام 1908 والأولى من عام 1909، ليستأنف النزاع حول البطريركية الأرثوذكسية بين رجال الدين العرب، وذوي الأصل اليوناني، وتشهد مجمل الأراضي الفلسطينية تظاهرات واسعة، مشيرة إلى مرحلة جديدة نحو تضامن عربي فاعل بين المسلمين والمسيحيين، لتبرز، بجلاء، هوية فلسطينية عربية. وتشهد الوثائق الرسمية، من بعث الأحداث، استخدام كلمة «فلسطين» بدلاً من (الأراضي المقدسة)، القديمة.

          في منتصف عام 1909، تنبعث فكرة الخلافة العربية، والتي كانت قد طرحت بالفعل في القرن التاسع عشر، خاصة خلال حملات «إبراهيم باشا» باعتبارها مظهرًا من مظاهر تباعد الولايات العربية عن السلطة المركزية، فالقوميون العرب الأوائل في مستهل القرن العشرين كـ«الكواكبي» المسلم و«عازوري» المسيحي، إنما كانوا يستعيدون أطروحة الخلافة العربية في وجه الخلافة التركية. وعندما كانت الدولة العثمانية تحتضر، وجدت الصهيونية نفسها في مواجهة صعود النزعة القومية العربية.

          فمع الهجرة الكبرى ليهود أوربا الشرقية إلى الغرب، نشأت (المسألة اليهودية) لتزعم الصهيونية أنها الحل الجذري والإيجابي الوحيد لها، وكانت أوربا تصوغ العالم، وتهيئ المسرح الدولي لشن حربها الكبرى، لتعيد اقتسام المغانم. في هذه (اللعبة الكبرى)، ظهرت الصهيونية، كمنتج غربي، بوصفها رهانًا محليًا وعالميًا في آن واحد.

          ينهار النظام الحميدي، وتظهر جمعية الاتحاد والترقي (جماعة تركيا الفتاة) كلاعب رئيسي في العاصمة التركية، وهي حركة علمانية قوامها الرئيسي عسكريون شبان، نشأت وتطورت مستخدمة «الماسونية» المحلية كغطاء لنشاطها. «إن التقارب الظاهر بينها وبين المنظمة الصهيونية يؤكد - للمتابع من الخارج -  وجود أواصر خفية بين الحركتين، ويشير بجلاء للتواطؤ، والتعاون بين اليهود والماسونيين». وحين تنجح «الجمعية» في الاستيلاء، نهائيًا على الدولة في يناير 1913، تجري على الفور المفاوضات حول المساعدات المالية، التي يمكن لليهود تقديمها للدولة التركية الجديدة.

          وتدعو صحيفتا «الكرمل» و«فلسطين» في 1913، إلى عقد مؤتمر عربي في «نابلس»، تكون مهمته الوحيدة مناقشة الخطر الصهيوني الداهم، وقبلها يحذر «رشيد رضا» في جريدته «المنار» من إنشاء دولة يهودية مزمعة في فلسطين.. سوف يكون من شأنها تمزيق الوحدة الترابية للبلدان العربية». وكان شعار «بلاد العرب للعرب، والكره للأجنبي» قد ساد وانتشر في مجمل الأرض السورية، بعد أن ارتفع لأول مرة في يوليو 1912.

          يقول المؤلف: «إن رواد (العالياه) الثانية، «بن جوريون» وزملاءه، قد جاءوا إلى «فلسطين»، بدافع التمسك بالكبرياء والكرامة (القومية)! حيال أعمال الاضطهاد، التي كانوا قد تعرضوا لها. إن هذه النخبة، (المناضلة) الصغيرة، إنما ترى أن العنف (مشروع!) إذا ما استخدم لأجل غايات العدل! والأخلاق السامية»؟!

          هذا... ولكن العدل الحقيقي، والتاريخ الحقيقي هو ما يكتبه الفلسطينيون على الأرض، بالدم. «ولولا أن الكلام يعاد، لنفد».

 

هنري لورنس