مساحة ود

   مساحة ود
        

إلى أمي

          لم أكن أدري أن مجرد الإشارة لعيد الأم الذي مرَّ عليّ منذ شهور قلائل سيشعرني بصاعقة مباغتة خرساء من الألم، ويشرع أمامي مدى من الخواطر، ويستثير داخلي فيضًا من المشاعر، ويضيء عندي عالمًا قاتمًا من الحزن الدفين والفقد الكبير الذي كان يتربّص في أعماقي منتظرًا تلك اللحظة ليعلن عن وجوده. يكثف إحساسي بالخواء واليتم والعطش إليك يا (ست الحبايب)، لملمس صوتك وحديث عينيك ودفء كلماتك وأنفاسك وحضن وجهك، لحضورك في حياتي الذي لا يعادله إلا حضورك! لم أكن أعي حجم الخسارة التي أتكبّدها برحيلك.

          لماذا الرجفة والحزن أمام عيد الأم الذي يطرق الأبواب؟ العيد الأول بعد رحيلك يلوح في خاطري كئيبًا مظللاً بسحابة من الألم، ومثيرًا زوبعة من الذكريات، من أين تأتي كل هذه المرارة وتتدفق الدموع، وتنبت أجنحة الخيبات؟

          مجيء العيد، يستثير مشاعر مَن يكابد الفقد ولما يزل يجمع نثار نزيفه، ويقص أجنحة الحنين واللوعة، بتّ أعي إحساسي البالغ بالفقد، فها أجنحة الغياب ترف معلنة رحيلك، وها عيد الأمهات يصرّ أن يذكرني بأني فقدت أمي!

          لم أكن أعنى بالتفاصيل الصغيرة، لم أفهم ملامح الجرح إلا بعد أن تجرّعت مرارته، وذقت لوعته، وكابدت أوجاعه برحيلك يا أمي!

          حسبت الرحيل حدثًا يمرّ وينتهي أمره، لكنّ تفاصيله المتجددة بألف شكل باتت هاجسي، أتتبعه بفضول ومرارة من يكنس أحزانه وجراحه آخر النهار، ويحصي خساراته وانكساراته، بتّ أشبه بمن يتسكع على ضفاف جرح موغل في الاتساع ليعي فداحة الخسارة وعمق الألم، ويحاول إيصالها لآخرين لا يعون ثراءهم المعنوي والروحي، وغناهم الوجداني، مازالت أنفاس الأم تضيء الحياة، وترفد العمر بدفء الحنان الخالص، ودفق العاطفة والتفهم.

          أدري أنه لا  يعي الجرح إلا من يكابده، ولن يتوقف ليسمع الصوت إلا من انغرست بخاصرته سكين الغياب، وأجبرته على التوقف، ولا أقول الوقوف لمراجعة حساباته، ومراجعة نفسه، وتفقّد مدى الحضور الدافئ والظل الحنون، والسند الحصين، والأمان الذي لا يحققه إلا حضور الأم والذي لا يعترف بزمن أو مسافة أو ظروف...!

ويا أمي!

          ها عيد الأمهات وقد قرع أجراس فرحه، ونثر زهور ذكريات ومواجع لمن اكتووا بالفقد والغياب، هل على من امتلك الفرح أن يتذكر للحظة من تحترق أصابعه بجمر الألم؟! لم أكن لأعي حجم المرارة، التي تباغتني حين تجبرني هذه المناسبة على تأمل ملامح عمري دونك، وحجم الافتقاد ومدى المرارة والحنين الذي أشرعه غيابك.

          كان العيد مناسبة اعتيادية، غدا بغيابك استحضارًا لملامحك ولحضورك، يا غاليتي وحضني وملاذي... أمي!! أمي أفتقدك بالتياع وبعطش وبحرقة، يالحضورك الشاسع الممتدّ في عمري والذي يعجز الموت أن يغيّبه، ومازال ينبض في أعماقي، يدفعني لإعلان الفرح وتعليق قناديل التقدير والودّ على شرفة العيد، لك ولكل الأمهات!.

 

حنان بيروتي