الكويت تنهض: لؤلؤة الخليج تنسى همومها وتعاود الابتسام زكريا عبدالجواد
ينظر الكويتيون خلفهم في غضب، لكنهم ينطلقون إلى الأمام قفزا، فإعادة بناء الوطن الخارج لتوه من محرقة شديدة البشاعة استمرت لشهور سبعة، ليست تمتلك رفاهة التوقف عند ما مضى بذكرياته الدميمة، وترك القادم الواعد برحابة أفقه، لأجيال أخرى تشيده، هكذا، يواجه أبناء الكويت تحدياتهم، واحدا وراء الآخر، من الاحتلال الغاشم، إلى الكارثة البيئية، إلى إعادة إعمار الوطن، والانطلاق لإكمال مسيرة المنجزات الحضارية تلك التي كانت الكويت - في الفترة التي سبقت الاحتلال - تتقدم نحوها.
لقد ترك الغزو الذميم بصماته على كل ما يحتويه هذا البلد العربي الصغير، حزنا على الوجوه، وغصة في الحلوق، في الوقت الذي تظل هداياه الدموية تتفجر في أجساد أطفال يلهون، وبشر مسالمين، ألغام من مختلف الأحجام والأنواع لا تزال تطارد الحياة وتحاول منع البشر من الابتسام، بعد أن فشلت مغامرة الاجتياح البذيئة في إلغاء الوطن وساكنيه بجرة قلم حمقاء
... أيام مذهلة تلك التي تعيشها الكويت هذه الآونة، بعد مرور ما يزيد عن العامين على ذلك اليوم الذي اختاره الطاغية لشق الصف العربي وذبح آمال إنسان هذه المنطقة وأحلامه التي انتظر تحققها لأعوام عديدة، بإدخال جحافله إلى الكويت لتحتل الأرض وتسرق ما بها ثم تناضل في سبيل محو ما عليها من بشر عزل يؤمنون بالعروبة ويبذلون الغالي لإعلاء شأنها، وتحقيق أحلامها.
في هذه الأيام يلملم الإنسان الكويتي، جراحاته، وينهض لبناء وطنه من جديد، مؤكدا قدرة بشر تحملوا المحنة وانطلقوا للبناء.
محرقة الطاغية
كانت أياما مأساوية، لكن تكافل أبناء الكويت وتعاضدهم، جعلها تمر دون أن يخسر الإنسان الكويتي نفسه، ودون أن تضطره الحاجة والخوف وحجم البطش الفائق القسوة إلى الخضوع لرغبات المعتدي والقبول باحتلاله.
حقائق كثيرة ظهرت الآن لتدين الديكتاتورية والأنظمة القمعية، تلك التي تدفع بالبشر إلى أتون محرقة لعينة كتلك التي أراد بها الطاغية أن يحقق أحلامه المريضة، حتى لو كانت ضد شعب شقيق وقف إلى جانبه أيام محنته. بل وضد كل القيم التي ورثها الإنسان، حين انطلق وراء أوهام التوسع بمثل تلك المغامرة الدموية، التي أراد بها إحراق الزرع والنسل وتدمير البيئة.
مأساة الأسرى
... والآن بعد مرور ما يزيد عن العامين على ذلك الحدث الجلل، تنطلق الكويت بخطى. مسرعة لتعويض ما فاتها وإعادة نبض الحياة فوقها فوارا ودافئا.
.. وبعد مرور تلك الأشهر الصعبة التي اقتطعت من زمن الانطلاق الكويتي سبعة أشهر كاملة، فإن المرارة لا يزال طعمها عالقا، لوجود هذا العدد من الأسرى والمختطفين في سجون النظام العراقي، بعد أن قامت قواته في اليوم الثاني والعشرين من فبراير - 1991 واليومين اللذين تلياه بأكبر حملة اعتقالات منذ وطئت أقدام الغزاة الأرض الكويتية، بهدف احتجاز أكبر عدد ممكن من أبناء هذا البلد، للمساومة عليهم فيما بعد،.. في هذا الوقت كانت عملية تحرير الكويت برا قد بدأت فعلا، وشعر الجنود الغزاة أن ساعات احتلالهم قد بدأت بالتناقص، وأن الكويت المحررة عائدة حتما إلى صفوف الأسرة الدولية، لتمارس دورها الكبير، فانتشروا في معظم المناطق السكنية الكويتية واقتحموا عددا ضخما من المنازل واقتادوا الرجال فيها إلى حيث تكون معتقلات البصرة.
... هؤلاء الأسرى يشكلون سببا رئيسيا لهذا المذاق المرير الذي يشعر به كل كويتي، فبلد صغير كالكويت يختطف من بين أبنائه كل هذا العدد الكبير، يعني أنه لا توجد أسرة كويتية دون أن يكون من بين أفرادها من سيق إلى الاحتجاز العراقي عنوة، فيما تطل علامات الفخار شامخة لدى كل أسن دفع أحد أفرادها حياته في مقاومة الاحتلال، وانتشرت دماؤه الذكية مع دماء رفقائه لتغطى الأرض الكويتية وتقدم الدليل على انتصار إرادة شعب وقف ضد جحافل ضخمة بأياد عزلاء وأنفس ترفض الخضوع لقوة غاشمة.
تآخ رائع
.. أيام حافلة بالمرارة وبالذكريات، وعامرة بحكايات تصلح لكتابة عدد من أكثر الروايات مأساوية، لكنها أيضا تكشف بجلاء عن جوهر الإنسان الكويتي الذي عاش تلك المأساة وعاناها، ويشارك الآن في إعادة وطنه جميلا وزاهيا.
... يقول "إبراهيم" وهو أحد الذين ظلوا بالكويت طيلة فترة الاحتلال: حين انقطع التيار الكهربائي في أواخر شهر يناير 1991 لأول مرة، كنا نستخدم الشمع والسراج "الفانوس"، بالإضافة إلى المولدات الكهربائية، حيث كان كل مولد يقوم بضخ التيار لأربعة بيوت في المنطقة نفسها.
ويكمل إبراهيم: لقد ظهر التآخي بين الكويتيين كأروع ما يكون خلال تلك المحنة، كان أهل الكويت الذين ظلوا بالداخل يؤثرون على أنفسهم حقا، من أجل سد حاجة أبناء المنطقة الآخرين، إذ إن كل شيء صار مشتركا ابتداء من الأموال إلى السلع، إلى مشاعر الكراهية للاحتلال وتبادل أخبار المقاومة، وأحاديث بث الأمل في عودة الكويت واندحار الغزاة.
ولكن "نوال" تضيف إنه مع انقطاع الغاز في بداية الحرب الجوية، لجأت النساء إلى الحطب والأخشاب لطهي الطعام، وصناعة الخبز بالمنازل، ولم يكن هناك مفر إزاء هذه المحنة إلا التسلح بإرادة التحدي، ونسيان أيام الرفاهة السابقة على الغزو، وهكذا كنا نجلس لعمل متطلبات تسيير الحياة بأنفسنا، فالوقت لم يكن يترك مجالا إلا للذين يستطيعون البقاء بصلابة برغم المصائب التي جلبها الاحتلال علينا.
وقائع عصيبة
ويقول "سعود" مضيفا إلى ما قاله إبراهيم ونوال: مع قيام جيش الاحتلال بتفجير محطة الدوحة، في بداية أول يوم من أيام الحرب البرية (24 فبراير)، بدأ الكويتيون يرددون اللاءات الست (لا ماء، لا كهرباء، لا غاز، لا بنزين، لا كيروسين، لا مواد غذائية). وأضاف أن البنزين توقف طوال أيام الهجوم البري، فاستغنى الموجودون بالداخل عن السيارات وهي وسيلة النقل الوحيدة المتوافرة خلال الشهور الأخيرة من الاحتلال، بعد أن قام الغزاة بالسطو على حافلات شركة المواصلات الكويتية وتدمير ما لم يتم نقله إلى بغداد.
وتدخل "نجيب" مستعيدا بعض وقائع تلك الأيام العصيبة: لم يكن أمامنا وقد انقطع الماء، سوى اللجوء إلى "خزانات المياه" الموجودة فوق أسطح منازل الأقارب أو الجيران المسافرين، علنا نجد بعض ما يمكن به ري ظمأ أطفالنا العطشى أو شيوخنا المقعدين، لقد قمنا بعمل كل ما يمكننا من البقاء أحياء، رغم محاولات المعتدي لإدخال اليأس إلى نفوسنا، إن إرادة الحياة حينما يكون الموت مجتاحا ومجانيا، تدفعنا للبحث حتى عن قشة الغريق، وهو ما فعلناه ونحن نفتش عما يرد الظمأ القاتل فقمنا بصنع مواتير لشفط المياه من بعض البيوت، ثم أعقبنا ذلك بتوزيعها "سرا" على البيوت المجاورة، في الوقت الذي لجأنا فيه إلى مستودعات الماء التابعة للإدارة العامة للإطفاء والمدفونة تحت الأرض بمعظم المناطق، لقد أنقذتنا تلك المستودعات لعدة أيام، قبل أن نلجأ بعدها لمياه الأمطار التي هطلت قبل أن يحرق الغازي آبار النفط وتعبر فوق بلدنا تلك المظلات السوداء القاتلة.
أما "ابتسام" فتتذكر تلك الطوابير الطويلة الممتدة أمام الجمعيات التعاونية في الأشهر الأولى للاحتلال، وكيف استطاع الشباب الكويتي فيما بعد تنظيم أمور تلك الجمعيات، عن طريق توزيع بطاقات الدخول التي تحدد الذهاب لشراء المواد الغذائية والحاجيات الأخرى بثلاثة أيام في الأسبوع، وتتذكر ابتسام كيف كانت الأسر التي عزمت على البقاء داخل الكويت، تقوم بتخزين ما يمكن به سد بعض تلك الحاجات.
بطولات حقيقية
وعقب "حمود": لم يقم رجال الكويت بتنظيم أمور الجمعيات التعاونية الاستهلاكية فقط، أو المخابز وأماكن توزيع الغاز قبل توقفها عن العمل، بل إن هناك فرقا خصصت لتجميع "القمامة" واحراقها بعيدا عن الأماكن السكنية، مما منع كارثة وبائية من اجتياح الكويت، فيما لو تم ترك تلك النفايات دون التخلص منها.
.. أما "حنان" فتعود بالذاكرة إلى تلك الأيام التي شهدت بطولات حقيقية للمرأة الكويتية، سواء بحمل السلاح وقيادة السيارات المفخخة ضد تجمعات الجيش الغازي، أو بنقل الذخيرة، والنشرات السرية للمقاومة، إلى جانب التطوع في المستوصفات والمستشفيات العلاجية، إضافة إلى المشاركة في العصيان المدني، ورفع الروح المعنوية لدى الأسر التي ينالها جانب من شراسة المحتل وهمجيته.
... في ظل هذه الأيام المأساوية، تبدو بعض الصور الإنسانية لامعة، إذ إن "إبراهيم" يعيد التذكر ببعض الأسى، كيف كانت علامات الفرح تجتاح كل من على أرض الكويت، حين صدر بيان عن "مجلس قيادة الثورة العراقي" يعلن فيه الانسحاب فقبل أن ينتهي البيان كانت رصاصات قوات الاحتلال تزغرد في سماء الكويت، في حين ترك البشر منازلهم وخرجوا إلى الشوارع يتعانقون، بينما انطلق كثير من الجنود العراقيين يتراقصون ويقدمون التهاني للكويتيين، كل ذلك قبل أن يكمل البيان شروط انسحابه، والتي أعاد فيه تكرار عباراته السابقة. مما أفقد الفرح بهجته، وأعاد الحزن والأسى لدى أبناء الكويت، ولدى الجنود الذين وضعهم الطاغية في محرقة مغامراته التوسعية سيئة السمعة. هكذا يتذكر أبناء الكويت أيام الأسى المريرة، في الوقت الذي ينطلقون فيه لإعادة إعمار ما خلفته تلك الأيام على المستوى النفسي والمادي. إنجازات مدهشة.. أيام الغزو التي بلغت 208 أيام ما زالت تعبر بذاكرة كل الذين اكتووا بنيرانها، ويمكن للزائر أن يلاحظ ذلك في كل موقف يواجهه، فلا يزال أبناء الكويت يشعرون بمرارة فائقة كلما مر ما يعيد إلى الأذهان أحداث تلك الأيام. في هذا الوقت تنطلق عجلة إعادة الإعمار بتسارع مذهل، وتعود الكويت رويدا رويدا إلى سابق عهدها الذي كانت تتميز فيه بتلك الأبنية الضخمة ذات التناسق الحسن.
ولعل الذين غادروا الكويت بعد أشهر قليلة من بداية الغزو، ثم عادوا إليها بعد سنة أو يزيد من التحرير، سوف يصابون بدهشة بالغة في اللحظة ذاتها التي يندفعون فيها للمقارنة، خاصة أن نسيان تلك الصورة القديمة التي رأوا فيها "لؤلؤة الخليج" وقد بقر الغزاة بطنها وأعملوا هواية التدمير والخراب في كل جزء فيها، يبدو أمرا شديد الصعوبة ولعل هذا الدمار الذي لم يترك شارعا ولا حيا سكنيا أو مجمعا تجاريا، ولا فندقا أو مكتبة أو معهدا للدراسة، أو مسرحا أو ناديا، أو مظهرا لحياة صنعها البشر وعاشوا بها، لعل كل هذا الحريق، إضافة إلى الجحيم الكبير الذي أشعله الغزاة في آبار النفط، كان كفيلا بان يجعل الحياة في كويت ما بعد التحرير مغامرة لا تطاق، لكن الإرادة المذهلة لذلك الشعب الذي رفض أبناؤه الخضوع للغازي أو التعاون معه، والذي خرجت فصائله لمقاومة الجيش المحتل وآلته الجهنمية الضخمة، هذه الإرادة الكويتية انطلقت أيضا لتعيد الحياة خافقة فوق هذه الأرض، ثم تنطلق منها إلى أفق ملاحقة التطورات الحضارية المتعاقبة والمدهشة ولعل الأرقام في هذا الصدد تصبح نموذجا جيدا على تلك القفزة التي تنطلق بها الكويت الجديدة، لتلحق ما فاتها، وتقدم بها دليلا على المدى الذي وصل إليه تصميم هذا الشعب الصغير على بناء وطنه، وتجاوز محنة الغزو، وغدر الشقيق.
القضاء على الكارثة
ففي القطاع النفطي وهو القطاع الذي شهد تدميرا واسع النطاق لدرجة أن خسائره الفعلية قدرت بخمسة وسبعين مليار دولار شاملة الخسائر الناجمة عن تدمير المنشآت النفطية وكميات النفط المهدور والمفقود، فإن هذا القطاع يشهد هذه الأيام نموا مطردا باتجاه العودة إلى حجم الإنتاج الفعلي في فترة ما قبل الغزو.
فعلى الرغم من أن الاحتلال قام فعلا بتدمير وتخريب 752 بئرا نفطية منتجة منها 696 بئرا اشتعلت فيها النيران واستنزفت، وعلى الرغم من أن هذا النزف قد نتج عنه تكوين ما يزيد على المائتي بحيرة نفطية موزعة ما بين حقول الشمال والجنوب، وتحتوي تلك البحيرات على ما يتراوح ما بين 60 إلى 70 مليون برميل من النفط. إضافة إلى قيام القوات الغازية بتدمير كل ما يتعلق بالصناعة النفطية من معامل تكرير ومنشآت النفط الخام والشحن ومراكز التجميع ومرافق تصدير النفط ومحطات تقوية الغاز وأنابيب البترول وغيرها من المرافق النفطية.
على الرغم من تلك الخسارة التي تعرضت لها الكويت من جراء الهدر الكبير الناتج عن احتراق النفط في الآبار المشتعلة من ناحية والدخل المفقود نتيجة عدم التمكن من تصدير النفط من ناحية أخرى إلى جانب تلوث البيئة برا وبحرا وجوا. فإن العمل جار على قدم وساق لاستعادة مستويات الإنتاج التي كان معمولا بها قبل الثاني من أغسطس.
1.5 مليون برميل
وقد استطاعت الكويت أن تحقق الكثير من الإنجازات في هذا المجال النفطي خلال فترة قياسية، حيث بدأت في تعويض طاقتها الإنتاجية والتكريرية حتى بلغ إنتاجها حاليا مليون برميل يوميا بعد أن كان لا يتعدى 25 ألف برميل يوميا عقب التحرير مباشرة ولكن بعد أن أذهلت الإرادة الكويتية العالم بالسيطرة على كارثة الحرائق في آبارها النفطية خلال فترة قياسية لم تزد على شهور عشرة في حين كان الخبراء يتوقعون أن تستغرق تلك العملية ما لا يقل عن العامين، فإن وزير النفط الدكتور حمود عبدالله الرقبة قد أعلن في تصريحاته الأخيرة أن إنتاج الكويت النفطي سيصل إلى مليون ونصف المليون برميل يوميا في نهاية العام الحالي وهو ما يعادل حصة الكويت ضمن سقف إنتاج منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" في عام 1990. وقد استأنفت بالفعل كل من مصفاتي الأحمدي وميناء عبد الله نشاطهما بطاقة بلغت حوالي 320 ألف برميل يوميا بعد أن تم إصلاح أجزاء منهما كانت قد تعرضت للتخريب والتدمير، أما مصفاة "الشعيبة" فقد توقفت عن العمل بشكل تام بعد إتلافها تماما ولا يتوقع استئناف العمل بها إلا في أواخر عام 1993. وقد قدرت نفقات عملية إطفاء الحرائق النفطية وإعادة تشغيل بعض المنشآت النفطية في الشمال بحوالي 1.1 مليار دولار.
الحياة تدب ثانية
وليس القطاع النفطي وحده هو الذي استعاد عافيته بشكل تدريجي، ولكن معظم مظاهر الحياة في الكويت قد بدأت تدب فيها الحركة وأخذت تعود إلى سابق عهدها، حين كانت الكويت واحة جميلة تضج بالنشاط والهدوء والأمان والسكينة معا.
حين تسير على الطرقات بسيارتك، تكتشف الزمن القياسي الذي عادت فيه الطرق السريعة والداخلية من جديد لتصبح كما كانت عليه قبل أن تطأها دبابات الاحتلال وآلاته الحديدية الحاملة للدمار.
وحين تنطلق إلى الأسواق، تصيبك الدهشة إزاء هذا الكم الكبير من البضائع الغذائية والكهربائية والكسائية، كل ما تريد متوافر، ومن أقصى بلاد الدنيا إلى أدناها تتناثر المعروضات أمام المشترين وتتنوع بتنوع اختياراتهم.
أسواق مركزية وبنوك وصفوف طويلة من محلات إصلاح السيارات والمطاعم والأجهزة وألعاب الأطفال وأثاث المنازل وقطع الغيار والذهب والصرافة والصيدليات والمرطبات حتى المصانع الصغيرة والمتوسطة الحجم، كل شيء يتوافر من جديد على تلك الأرض التي كانت قد فقدت كل شيء وتعرضت لأبشع وأكبر حملة لصوصية في التاريخ الحديث. وفيما دبت الحياة في الأنشطة التجارية، فإن مؤسسات الدولة هي الأخرى عادت من جديد لتبدأ من الصفر، بعد أن مدتها الدولة بميزانية للطوارئ استطاعت بها إعمار ما تم تخريبه وإعادة التجهيز بالمعدات والأجهزة والأثاث واستكمال الجهاز الوظيفي وبدء النشاط من جديد.
والجامعة تعود
حتى أن جامعة الكويت التي كان قد نالها من همجية الغازي الكثير، حين أغلق كلياتها وحول إدارة الجامعة إلى مقر لقيادة قواته، ثم استولى على المختبرات والمكتبات والأثاث والمخازن والمطابخ والتجهيزات وقام بسرقة شبكات الكهرباء والماء والهاتف والكمبيوتر، حتى بلغت الخسائر المادية المباشرة وغير المباشرة حوالي 305 ملايين دينار أي ما يعادل مليارا وسبعين مليون دولار أمريكي.
هذه الجامعة بعد أن تم اعتماد ميزانية طارئة لها بلغت 40 مليون دينار كويتي أي ما يعادل 133 مليون دولار أمريكي، استطاعت إعادة النشاط مرة أخرى إلى معظم مرافقها التعليمية، فقفز عدد الطلبة المقيدين بها من (10048) طالبا قبل الغزو إلى (13266) طالبا وطالبة حاليا.
أما في التعليم التطبيقي الذي كان قد أصيب بالشلل التام بعد إصابة مباني الهيئة العامة للتعليم التطبيقي بالدمار وإتلاف محطات الكهرباء والماء والتكييف. وبعد سرقة جميع المختبرات والورش والمكتبات والصالات والفصول ومرافق الخدمات، حتى بلغ مجموع التعويضات المطلوبة للهيئة ما يزيد على 202.500.000 دينار.
استطاعت هذه الهيئة التي تعنى بخلق الكادر الفني والحرفي الذي تحتاجه عملية إعادة التعمير، أن تسابق الزمن لإعداد تلك الكوادر بسرعة فائقة، وانطلاقا من هذا الهدف قامت الهيئة بإعمار منشآتها وتجهيزها للعمل مع بداية العام الدراسي السابق 91/ 92 ثم تم قبول 300 طالب متدرب في الفصل الدراسي الأول، بينما جرى قبول 3200 طالب في الفصل الدراسي الثاني من العام نفسه، ليصبح العدد الإجمالي للطلبة (13353) طالبا وطالبة، بينما كان العدد قبل الغزو (11845).
التحدي الكبير
وفي وزارة التربية، كانت إعادة الحياة لمدارسها قبل بداية العام الدراسي 92/91 تمثل تحديا كبيرا، استطاعت الوزارة اجتيازه بنجاح. على الرغم من أن الاحتلال كان قد حول مدارس الوزارة المتعددة إلى مستودعات لتخزين الأسلحة والذخائر وإلى معسكرات لما يسمى بالجيش الشعبي، ليتم تعطيل أكثر من (373) ألف طالب عن تلقي العلم، كانت تضمهم (667) مدرسة خلال العام الدراسي 89/ 90 والذي كان قد انتهى قبل أسابيع قليلة من الغزو الغاشم، وعمل خلاله أكثر من (29) ألف مدرس شكل العرب بينهم نسبة 56.2 في المائة. وقد استطاعت وزارة التربية خلال الفترة التي تلت إعلان تحرير الكويت في 26 فبراير (شباط) حتى استئناف الدراسة في 24 أغسطس (آب) من العام نفسه (1991) إعادة تعمير 640 مدرسة انتظم فيها (248) ألف طالب وطالبة و (19) ألف مدرس ومدرسة.
هذه السرعة القياسية التي أعيد بها النشاط لمدارس الكويت، أتت بالرغم من أن حجم السرقات التي تعرضت لها منشآت الوزارة قد فاقت في بند واحد فقط وهو الكتب والمراجع والدوريات (التي سرقت أو أحرقت أو ديست بالنعال) أربعة ملايين دينار وهي قيمة الكتب المصنفة وقصص الأطفال والدوريات، كما بلغت خسائر المكتبات العامة ما يزيد على (665) ألف دينار، وبذلك يكون إجمالي الخسائر في هذا الحقل الإنساني ما يربو على الستة عشر مليونا ونصف المليون دولار أمريكي.
والزراعة تحتل مكانتها
أما قطاع الزراعة الذي كان قد شهد نموا كبير خلال سنوات ما قبل الغزو والذي ساهم في سد جانب كبير من احتياجات السكان من الخضراوات الطازجة، فقد أصابه ما يشبه الدمار الكامل منذ أن وطأت أقدام الجيش المحتل الأرض الكويتية، فمزارع العبدلي والوفرة التي كانت تشكل جانبا مهما من جوانب تحقيق الأمن الغذائي بالكويت، تحولت بقدوم الغزاة إلى مخازن للأسلحة وخنادق وملاجئ عسكرية، تحيطها شبكة هائلة من الألغام المضادة للأفراد والمدرعات.
بالإضافة إلى تحويل مقر الهيئة المشرفة على الزراعة بالكويت وهي الهيئة العامة لشئون الزراعة والثروة السمكية إلى مقر رئيسي للمخابرات العراقية مما جعل من غرف هذا المبنى أماكن لممارسة أبشع أنواع التعذيب ضد رجال ونساء المقاومة.
وقد استطاعت الهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية برغم الدمار الذي أصاب مرافقها سواء في منشآت الإدارة أو في الأراضي الزراعية التي لم يكتف الغزاة بتحويلها إلى خنادق بل وإغراقها بالنفط، أن تعاود مرة أخرى نشاطها، وأن تنجح خلال هذه الفترة القصيرة في تنظيف منطقتي العبدلي والوفرة الزراعيتين من بقايا الاحتلال المدمرة، بل وتعيد تجهيزهما للزراعة مرة أخرى.
وما يقال عن الزراعة يقال عن الثروة الحيوانية التي نفقت خلال الغزو أو سرقت، ويقال أيضا عن الثروة السمكية التي أصابها ضرر بالغ ليس بسكب المحتل للنفط في مياه الخليج فقط، ولكن بتدمير سفن الصيد والرقابة والأبحاث وتلغيم المياه وشواطئ البحار أيضا. ومن جديد عادت مياه الخليج رائقة، وامتلأت أسواق بيع السمك بمختلف الأنواع، كما بدأت مزارع تربية الإنتاج الحيواني في العمل، إضافة إلى مصانع الألبان وتصنيع اللحوم والمواد الغذائية.
خطوات رائدة
.. أما في مجال الصحة، الذي شهد عملية سلب كبيرة لجميع الأجهزة المتقدمة به، ونقلها مع المخزون الدوائي إلى بغداد، فقد عادت هي الأخرى من جديد إلى تقديم الرعاية الصحية الشاملة لكل من يقيم على أرض الكويت، وبشكل مجاني، تماما كما كان عليه الحال قبل الغزو الغاشم، وفي سبيل ذلك تخطت وزارة الصحة الصعوبات التي واجهت عقب التحرير مباشرة إعادة هذه الخدمات والتي كان منها انقطاع التيار الكهربائي وندرة المياه والنقص الشديد في الكوادر الطبية والمستلزمات الصحية الأخرى كالأدوية والأجهزة.
وقد استطاعت الوزارة أن تتقدم بخطوات رائدة في مجال إعادة الإعمار مرت عبر ثلاث مراحل تم في الأولى التي أعقبت التحرير مباشرة إعادة تشغيل المستشفيات والمراكز الصحية بعد تجهيزها بطاقة إنتاجية تكفي لسد حاجة السكان في تلك المرحلة.
وفي المرحلة الثانية تم تعويض جزء كبير من الاحتياجات ومستلزمات المستشفيات والمراكز الصحية من أجهزة ومعدات وأدوية بما يتناسب والتركيبة السكانية. أما المرحلة الثالثة فتم فيها توفير الخدمات الصحية المتكاملة للمواطنين والمقيمين والاهتمام بدور الصحة الوقائية وبخاصة التوعية الصحية بما يكفل تقديم مثل هذه الخدمات لجميع مناطق الكويت.
وقد تم وفقا لذلك إعادة تشغيل المستوصفات التي يبلغ عددها 68 مستوصفا، كما بلغت الطاقة التشغيلية حاليا للمستشفيات الحكومية ما يزيد على 90 في المائة.
خدمات حيوية
أما في وزارة المواصلات، فعلى الرغم من الحجم الكبير للخسائر التي تعرضت لها أجهزة ومنشآت الوزارة والتي تتراوح بين 350 إلى 400 مليون دولار وتشمل الدمار الواقع على المحطات الأرضية للأقمار الصناعية والمقسمات التي هدمت أو دمرت والتي تحتوي على ما يقارب (70) ألف خط. إلى جانب الدمار الذي شهده الجهاز البريدي الذي تم تدميره حيث تعرضت أجهزة الفرز الآلي والأجهزة المرتبطة به لدمار شامل وكلها أجهزة حديثة وذات تقنية عالية.
إلى جانب النهب والتخريب الذي تعرضت له المؤسسة العامة للموانئ ومطار الكويت الدولي والإدارة العامة لشئون النقل، فإن وزارة المواصلات قد استطاعت تخطي جميع العقبات في سبيل إعادة هذه الخدمات الحيوية للبلاد، فكان أن عادت الخدمات الهاتفية بعد أن تم إصلاح الخلل الذي أصاب أماكن الربط بين مناطق الكويت المختلفة، واستعادت إدارة البريد نشاطها بإصدار مجموعة جديدة من الطوابع البريدية التذكارية، كما قامت بشراء أجهزة فرز آلي حديثة ومتطورة. وافتتحت الإدارة ما يقارب عشرين مكتبا للبريد، وأصبح بإمكان المواطن الآن إرسال الطرود والرسائل والبرقيات وكذلك استقبالها.
كما استطاعت الموانئ الكويتية إعادة النشاط بشكل كامل، بحيث أصبحت تستقبل البواخر بدرجة الاستعداد التي كانت عليها قبل الغزو.
وبالنسبة لمطار الكويت الدولي تم افتتاح أربعة مخارج له حتى الآن ومن المتوقع أن يكون المطار صالحا لاستقبال الطائرات بكامل طاقته السابقة مع نهاية نوفمبر (تشرين ثان) المقبل.
الانطلاق إلى الأمام
أما في مجال الإسكان، فبالرغم مما أحدثه الجيش الغازي من خراب ودمار في المشاريع الإسكانية التي تشرف عليها الهيئة العامة للإسكان وخاصة في منطقة القرين، فإن الاهتمام بتوفير السكن المناسب لأبناء الشعب الكويتي قد عاد مرة أخرى ليصبح أحد أهم قضايا ما بعد التحرير، وقد بدأت بالفعل الهيئة العامة للإسكان في إتمام المشاريع التي عطل الاحتلال إنجازها في الوقت الذي تعيد فيه ترميم ما ناله التخريب.
.. لقد انطلقت الكويت بسرعة باتجاه تجاوز ما خلفه العدوان، فحرصت أولا على التئام الجروح التي تسببت فيها همجية الاحتلال، ثم راحت تعوض ما فاتها، وتنجح في التحدي المصيري الذي واجهته بالغزو، وبمصاعب ما بعد التحرير.
وهكذا يدخل الزائر إلى الكويت ويتجول فيها فيندهش، إذ تتلألأ البنايات الزجاجية جنبا إلى جنب مع المجمعات الضخمة والفنادق الشامخة والتي كانت قبل عدة أشهر شاهدا على مدى ما أحدثه جيش الاحتلال من خراب متعمد.
ولم تكتف الكويت بالانطلاق في المجال العمراني أو التجاري أو حتى الإعلامي حيث عادت مطابع الصحف لتدور بعد أن أضيفت للعقد صحيفتان جديدتان هما "صوت الكويت" و "الفجر الجديد" إلى جانب الخمس الأخريات "الوطن" و "القبس" و "الأنباء" و "السياسة" و "الرأي العام" إضافة إلى المجلات المتعددة ووكالة الأنباء الكويتية "كونا".
فيما واصل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب نشاطه الثقافي المميز بإصدار سلسلة "عالم المعرفة".
هكذا تعود الكويت ثانية للسير في ركب التطور الحضاري، مستعيدة مكانتها السابقة، ومساهمة كما كانت في مسيرة الحضارة الإنسانية، بدور رائد وخير. فيما يقبع أصحاب المغامرات العسكرية اللعينة في زاوية تثير السخط كلما عبرت بالذاكرة مشاهد الرعب ضد البشر وضد البيئة بل وضد المستقبل، تسبب فيها نظام مغامر منبوذ، على المستوى الحضاري والأخلاقي. وهكذا أيضا يظل التاريخ شاهدا على أن الحضارة هي التي تبقى، بينما يذهب الطغاة والمغامرون الدمويون إلى صناديق الذكريات سيئة الصيت.