اللغة حياة

 اللغة حياة
        

نطق الساسة والإعلاميين الوصل والقطع والوقف

          تختار بعض المعاهد الأجنبيّة التي تعلّم اللغات خطب رؤساء الدول بوصفها نماذج للّغة الجيّدة واللفظ المتقن. لكنّ المؤسف أنّ هذه الطريقة لا تصحّ إلاّ قليلاً، في البلاد العربيّة؛ بل إنّ سماع بعض الزعماء والساسة العرب قد يؤدّي إلى فساد لغة المستمع، نحوًا وتجويدًا لفظيًّا. ولا تفسير لهذه الظاهرة إلاّ في أمر أو غير أمر من ثلاثة، هي: تواضع مستوى الذكاء، وضعف الانتماء القوميّ (أو التنكّر لذلك الانتماء والالتحاق بحضارة أخرى)، والكسل. والأمران الأوّلان يصعب علاجهما؛ أمّا الأمر الأخير  فسهل المعالجة شرط توافر الإرادة واستحثاث النشاط والقدر الضروريّ من الفطنة؛ ويمكن التوكيد أنّ بوسع أستاذ لغة بارع، ضمن الشروط المذكورة، أن يضع السياسيّ، من خلال القراءة والإنشاء، بما يتضمّنانه من نحو وصرف وإلقاء، على سكة لغويّة مقبولة في خلال شهر واحد، بمقدار ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم. إنّه يجنّبه، على الأقل، أن يكون محل تفكّه المستمعين، وهو يبعثر حركات الإعراب على أوائل الكلمات وأواسطها وأواخرها، ويحذف ما يشاء ويزيد ما يشاء، بحيث لا يقع شيء موقعه، ولا يبين شيء ولو تحت المجهر. واللافت أنّ بعض الساسة يكون مقبول اللغة ابتداء، لكنّه مع تقدّم الزمن والسنّ، يتراجع شيئًا فشيئًا، وكأنّه أصيب بالألزهايمر، وهو ليس كذلك، بل قد استغرقته السياسة واطمأنّ إلى مستقبله، فأهمل اللغة وهمومها، وجعل ذلك عقوبة للمستمعين.

          ورجال الإعلام ليسوا أفضل حظًّا من رجال السياسة إلاّ قليلاً، ولاسيّما مراسلو التلفاز الذين يُختارون، أحيانًا كثيرة، بلا تدقيق ولا تشدّد، لكونهم حاجة عارضة في النشرات الإخباريّة.

          ولا يمكن إحصاء الأخطاء النحويّة والصرفيّة التي يقع فيها هؤلاء وأولئك، لكنّنا نتوقف عند مشكلتين اثنتين هما: مشكلة همزة الوصل والقطع، ومشكلة الوقف:

          1 - فبعضهم لا يلتزم، في حديثه أو خطابه، اللفظ الصحيح لهمزة الوصل فيقطعها؛ وصحيح أنّ الوصل عبء على غير الاختصاصيّين، وأحيانًا على الاختصاصيّين أنفسهم، ولاسيّما في كلام مرتجل، لكنّه لا يجوز أبدًا قطع ما حقّه الوصل في نصّ قرآنيّ، كما لا يجمل ذلك في حديث شريف، ولاسيّما إذا كان المتحدّث أو القارئ من ذوي العمائم، ولا عذر له في كونه سياسيًّا أو حزبيًّا.

          والأمر غير عسير؛ فهمزات الأفعال ومصادرها كلّها همزات وصل باستثناء همزة المضارعة، نحو: أَعملُ، أَستعمِلُ، وهمزة الماضي الثلاثيّ المجرّد والمزيد بالهمزة ومصدره، نحو: أخَذَ أخْذًا، وأَقْبَلَ إقبالاً. أمّا سائر الهمزات فكلّها همزات قطع، وهي همزات الأحرف والأسماء، في المفرد والمثنى والجمع، باستثناء همزة «ال» التعريف، وهمزة المصادر من غير ما سبق، وهمزة: اسم، ابن، امرؤ، اثنين، وايمن، وايم (كلاهما في القسَم) واست؛ وكذلك مؤنّث ومثنى ما يقبل التأنيث والتثنية من هذه.

          والواقع أنّ أكثر ما يقع الخطأ في الوصل الاستثنائيّ: الوصل بـ«ال» التعريف، والوصل بهمزة اسم وابن ونحوهما؛ وهو استثنائيّ في القاعدة لكنّه كثير جدًّا في الاستعمال، بحيث إنّ الخطأ فيه يعني خطأ في أكثر الكلام؛ وسبب الخطأ، في الأغلب، تسكين بعضهم الكلمات قبل همزة الوصل؛ ولامتناع التقاء الساكنين يحركّون الهمزة، كأن يقول أحدهم: المعاناةْ أَلتي نعانيها (بقطع همزة التي)، بدل المعاناةُ التي (= المعاناةُ لْلَتي) وكأن يقول: أنا إبن قرية بعيدة، بدل أنا ابن (=أنا بْنُ)، وأتحدّث بإسم زملائي، بدل: باسم (= بِسْم) زملائي؛ ويصحب هذه الهنة عندهم كسر باء «ابن» وتسكين نونها، غالبًا، بدلاً من تسكين بائها وتحريك نونها بالحركة المناسبة، فيقولون مثلا: سعيد بِنْ فلان، بدلاً من : بْنُ أو بْنَ أو بْنِ فلان، وفق محلها من الإعراب. والطامّة الكبرى إذا وقعت الهمزة في بيت شعر موزون، فهناك لا يُترك لعَروض الخليل عظمة سليمة.

          2 - ويحاول بعض المذيعين أن يُظهروا آخر الكلمة الموقوف عليها، فيضعِّفون (يشدّدون) آخر حرف منها؛ وهي طريقة عربيّة صحيحة لكنّ لها شروطًا، هي ألاّ يكون الموقوف عليه همزة أو حرف علّة، وأن يكون ما قبله متحركًا؛ لأنّ الهمزة الساكنة تظهر من غير حاجة إلى تضعيف، ولأنّ حرف العلّة يوقف عليه ممدودًا، أي يُلفظ ضمّة طويلة أو فتحة طويلة أو كسرة طويلة، ولو كان في الأصل مضعّفًا، ولأنّ من المحال لفظ الشدّة بعد حرف ساكن. لكنّ بعض المذيعين يستعملون التضعيف على الإطلاق، ويزيدون على الشدّة حركة خفيفة هي الفتحة، غالبًا، مصحوبة بهاء مختلسة؛ فيلفظون كلمة «الوطني» مثلاً ، عند الوقف، هكذا: الوطنيَّهْ؛ فيشدّدون الياء خلافًا للقاعدة، ويزيدون ما أشرنا إليه؛ وهو غير عربيّ ولا تجيزه قواعد التجويد اللفظيّ.  والعرب، ولاسيّما القرّاء، قد ابتكروا قواعد لإظهار الحروف الموقوف عليها فلا تخفى على السمع؛ منها التضعيف، وقد مضى؛ ومنها الهمس، وهو أن يجري النَفَس مع الحرف عند الوقف عليه جريًا خفيفًا، وذلك في عشرة حروف هي: ت ث ح خ س ش ص ف ك هـ؛ ومنها القلقلة، وهي نبرة يخرج بها الحرف في ما يشبه الحركة المختلسة القصيرة جدًا مع شبه همزة ساكنة، وذلك في خمسة أحرف هي: ب ج د ط ق، فيوقف على كلمة باب، مثلاً، هكذا تقريبًا: بابَأْ؛ ومنها الرَوْم، وهو اختلاس حركة آخر الكلمة اختلاسًا من غير نبر، وكأنّ ذلك تذكير لطيف بها. هذا فضلاً عن قواعد متعدّدة ليس هنا موضع عرضها.

          غير أنّ المذيعين يجهلون هذه القواعد، أو لنقلْ إنّ أكثرهم لا يتقنها، أو لا يجهد نفسه في تطبيقها، فيفسد اللفظ ويؤذي السمع والذائقة، ويضرّ بطلبة العلم. والحديث إلى الناس في وسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة مسئوليّة تقتضي القدرة على الإمتاع، أو على تجنّب الإيذاء والتنفير، على الأقلّ؛ فالمتصدّي لتلك المسئوليّة كالمغنّي، إن لم يكن مطربًا، فلا أقلّ من أن يكون مقبول الصوت حسن الأداء والغناء.

 

مصطفى الجوزو