قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية

الذين ليسوا أبطالاً

يوسف القعيد*

          قد تسمع مثلى من كتاب القصة القصيرة كلامًا معادًا عن تراجعها كتابة ونشراً وقراءة، وأصبح من المعتاد أن نعرف بحجب جوائز مسابقات كثيرة للقصة القصيرة، لأن المقدم قليل، ومستواه ضعيف، فلا حل سوى الحجب، مع أنه دواء مر. هذا هو حال القصة القصيرة عند كتابها المحترفين، وبهذه الروحية بدأت قراءة قصص هذه المسابقة، الغريب أننى اكتشفت عند قراءة قصص مسابقة مجلة العربي الكويتية مع هيئة الإذاعة البريطانية، صعوبة اختيار النصوص المرشحة للفوز، من كثرة الجيد، وزحام الممتاز، بعد الاختيار يراودني الإحساس أن هناك ظلمًا وقع على من لم يتم اختيار قصصهم. ولكن هذا هو حال المسابقات كلها. أبدأ بكلمة عن جغرافيا كتابة القصص المقدمة للمسابقة. كانت من كل الأقطار العربية، وهذا أمر مفرح. حتى القصص التي فازت قصة من العراق. قصة من سورية، قصة من مصر، وقصة من المغرب.

***

«قص»: قصة من الناصرية المحتلة فى العراق المحتل. لجمال كامل مرجان. عجوز يجد نفسه أمامه موعد حب ما كان يتوقعه، ويستعد، ما أسهل العثور على ملابس مناسبة، وما أصعب مطاردة شعيرات رأسه البيضاء. ما إن يقص شعرة حتى يفاجأ بأخرى، افرح يا قلبي. كانت العبارة الأولى في النص، وقص هي الكلمة الأخيرة. ويبدو أنه سيستمر فى القص بلا نهاية. قص تعني الحكي، وتعني التخلص من الشعر الأبيض، وبينهما تداخل جميل. «ما وراء الكواليس» لأحمد دعدوش من سورية. كاتب شاب يدفع ما معه رشوة بحثًا عن فرصة. وعندما تصل إليه الفرصة الحلم. يطلب منه الهجوم على شاعر تجاوز حدوده. يعود لبيته، وقد قرر أن يكتب للأطفال. يطلب منهم عدم شرب الحليب كي لا يكبروا ويلعنوا دنيا الكبار. قدرة على التسلل من الشارع الأمامي إلى الشوارع الخلفية لحياة المثقفين العرب. حكي عما لا نحكي عنه، وكشف للمستور، وقدرة على التعامل مع الواقع بألف عين، ونفاذ إلى أعماق الأشياء.

***

          «حكى لي صديق» لرضا صالح من مصر. يقبض على الابن لحظة خروجه من صلاة الفجر فى المسجد، وعندما يذهب والده للسؤال عنه، يقبض عليه هو الآخر، حتى يجد رجل البوليس حلاً للاثنين صباحًا. هم شائع في بر مصر. يخرج المصلي من المسجد ليجد العسس والبصاصين فى انتظاره. متهم بأنه خرج من بيته فجرًا وذهب ليصلي، ويؤخذ بلا تهمة. حكى هادئ بلا صراخ وبلا أحكام، يتسلل إليك المعنى، وأنت تقرأ تتسلل لك القصة من مسام الجلد ومنابت الشعر.

***

          «في الصدفة بحر». لمنى وفيق من المغرب، غنائية نادرة، لعب بالكلمات، بحر وهواء وصدف، تقلل من كل الإحساس بالكآبة والمأساوية اللتين مررنا بهما فى القصص الثلاث السابقة عليها. ترديد لمقطع شعري يذكرك بالملاحم القديمة. وبالرغم من الغنائية فالنواح كامن وراء هذه الأسطح البراقة. ها هو اللابطل الجديد. الإنسان العربى المسحوق المطارد المحاكم. يعاني  التحقيق معه في ظل ظروف أقسى من التي مر بها بطل كافكا. هذا هو الخيط الممتد من سورية إلى العراق مرورًا بمصر. لا أشير لنمطية البطل، ولكنه العصر الذى يفرز أبطاله، أو الذين ليسوا أبطاله. إن شئنا الدقة. يختلف الواقع الاجتماعى وتنتقل الكلمة من يد إلى يد، ولكنه الهم الواحد. من المؤكد أن الأجيال الطالعة مرشحة لاستمرار كتابة القصة من خلال الأسماء الراسخة فى كتابة القصة القصيرة العربية. على الأقل هذا ما أحلم به وأتمناه.

----------------------------------

تمت إذاعة هذه القصص ضمن برنامج بي. بي. سي إكسترا الذي بثته إذاعة بي. بي. سي العربية ويذاع أسبوعيا كل يوم خميس في الحادية عشرة بتوقيت غرينتش.

قص
جمال كامل فرحان - العراق

          آه، يا قلبي افرح، سأقابلها غدًا بعد طول انتظار، وافقت أخيرًا على موعدي، فانتشي يا روحي وتحملي ثقل ساعات قادمات. الآن عليّ تهيئة  نفسي  وتحضير ملابسي  للقائها، غسل وكي بنطالي وما يحمل من أوساخ، وهذا قميصي السمائي الوحيد الذي أرى ياقته صلبة وقاسية من أثر العرق الغزير الذي راح يتصبب مني وأنا أقف بارتباك أمامها، وأكلمها عن مشاعري التي لا أستطيع البوح بها هنا مع صخب المراجعين وتذمر الموظفين. ثم نشفت عرق رقبتي بالمنديل ورجوتُ منها موعدًا قصيرًا، فرسمت على وجهها ابتسامة خفيفة وهزت رأسها باستحياء.

          نزعت نظارتي ووضعتها فوق الكومدينو، ورحت أغسل القميص وألمّع الحذاء حتى رأيت انطباع فرحة وجهي فيه ثم كويت البنطال وعملت جاهدًا بكل خبرتي القديمة من أجل إظهار كسراته، التي أخفاها ومسحها الإهمال. كنت أعمل بسعادة وهمّة إلى أن توقفت منتبهًا، متذكرًا خصلات شعري، التي لونها البياض. فنفثت حسرة وقلت لنفسي: آه، من السنين كيف مرت.

          جلبت المرآة المشروخة والمقص الصغير ولعنت الأيام والناس، وأخذت أعاين احتشاد الخصلات البيض في رأسي، ثم بدأت أصابعي تمسكها. هنا واحدة أعلى جبهتي، قص. هنا قرب حافة أذني اليسرى أربع، قص. هنا سبع، قص. والشعيرات تنهمر متساقطة مثل مطر رمادي مدرار فوق جبهتي وعيني وخدي. لم أكن أتقن القص، وأصابعي اليابسة الممسكة بالمقص ترتجف، فتلمح مع كل شعرة بيضاء ساقطة ست شعرات سود تتهادى نازلة. فلم أهتم كثيرًا لأن فكري كان محلقًا هناك، في الحديقة التي سنجلس فيها مع الشمس والخضرة وزقزقة الطير. هنا أيضا واحدة، قص. وجلوسي المرتبك جوارها لا يفصلُ جسدي عنها سوى أصابع عدة، وعطرها الندي الذي يفوح وأشمه بخدر عيني وروحي. هنا مع حافة الفرق خمس، قص. وأصابعي تتردد وهي تقدم لها وردة بيضاء أخبرها مدى لهفتي عليها، وعن ترددي الطويل قبل أن أقدم على مقابلتها، وإن قلبها وردة بيضاء. هنا اثنتان، قص. وهي تداري خجلها وتقرب الوردة من وجهها الطري. هنا .. قص. أحدثها بأن مشاعري صادقة وحقيقية. هنا .. قص. وإني لا أحب اللف والدوران، حياتي بسيطة وقلبي طيب اسُتغل مرارًا من قبل أصدقاء. هنا .. قص. أراها تستمع بعينين فرحتين لصدق ما أقول ثم أغير الموضوع لأنه سخيف وممل، وأشير لها وأنا أتنهد لكلب وقط يلهوان مع الخضرة والشمس، يقفزان ويجريان بين الشجر. هنا .. قص. وأقول لها بعد حسرة طويلة، الحياة تستحق ولو شيئا قليلاً من هذه الألفة. بعدها أشرح لها جاهدًا عما يتسرب من إشاعات عني. هنا .. قص. وآه، من الناس، التي لا تترك الواحد منا بحالة. لست مثلهم، ولست معهم دائمًا. فقولي أنتِ الصدق يا روحي، أهذا عيب يدعو للنفور مني وشمري بكلام أنا بريء منه. لا أقول نعم - مثلهم- على كل شيء يفعلونه، فهل هذا جرم وعيب كبيران أستحق من أجلهما كلماتهم الملسونه. هنا .. قص. معقد، كئيب، يعيش في أحلام. آه، يا قلبي هذا ما أسمعه منهم لأني لا أشبههم أو لأنهم لا يريدون أن يشبهوني. هنا .. قص. الحقيقة الوحيدة أو الغلطة الوحيدة ياقلبي، هناك، وهناك فقط سمعت كلامهم بعد أن زرعوا الخوذ فوق رءوسنا، ونمنا مثل الكلاب فوق السواتر، هناك قلت: نعم.

          آوه، اللعنة هنا أكثر من عشر شعيرات، قص. كنت قد تعلمت ألا أرمي بالكلام إلا بعد أن أحبسه وألوكه في جوفي طويلا. لكن الأمر جاء رغما عني أن أطلق، فرميت رصاصاتي نحو الظلمة وأنا مغمض العينين. هنا .. قص. نعم دست على الزناد راجفًا، صارخًا وأطلقت وأطلقت ورحت لا أسمع من حولي سوى رشق بندقيتي، التي أصمّت أذني. لم أكن أستطيع إلا أن أرمي، فلم أجادل أو أمتنع لأني كنت أريد أن أبقى. هنا .. قص. لا عليكِ يا روحي من كل هذا وتأملي لهو القط والكلب واسمعي تغريد الطير السابح في الفضاء. هنا .. قص. وعدت بعد أن يبست الأحلام، وقلبي لم يعد كما كان فانزويت بعيدًا عن الناس، وتلمست من الوحدة صديقًا إلى الأبد. هنا .. قص. هراء في هراء هذه هي الحقيقة التي توصلت لها. هراء ما كنت أسمعه وأقرأه: مهما تعكر الريح وجه البحر، إلا أنها لا تخفي زرقته. هراء وخداع، ما من شيء يعود بعد عطب .. قص.

ما وراء الكواليس
أحمد دعدوش - سورية

          ما إن جلسنا إلى إحدى الطاولات في زاوية المقهى حتى بادرته: لم أترك بابًا إلا وطرقته، راسلت الصحف والمجلات، شاركت في عشرات المنتديات الإلكترونية، ولكن دون جدوى.. تباً  لهؤلاء المثقفين، عن أي أخلاق يتحدثون؟

          أجابني وهو يبتسم بدم بارد: أنا أتفهمك، فكلنا عانينا الرفض في البداية، ولكن الفرصة لابد وأن تأتي. ثم همس: وعليك حينئذ أن تتقن اللعبة.

          لم أكن بحاجة للكثير من الذكاء لأقرأ ما يخفيه لمعان عينيه، فهو لا يبذل أي جهد ليتستر على ماضيه. ما زلت أذكر ملابسه الرثة حين تعرفت إليه، أعجبت يومئذ ببساطته وقناعاته، وحتى ثوريته. لم يمض على ذلك اليوم أكثر من سنتين، وهاهو اليوم يرتدي بذلة فخمة، ويرصّع حديثه التافه بمصطلحات لا يفهمها، كما يلوك بفمه بعض الكلمات الأجنبية.

          قلت: سأفعل أي شيء، ولكن أرجوك.. أريد أن أرى اسمي منشورًا في الصحف ولو لمرة واحدة.

          ضحك بصوت عال ثم عاد للهمس: لابأس.. عزيزي، أعطني بعض «خربشاتك» ودع الباقي علي. ثم أردف: وبما أنك صديقي العزيز، فلن أطلب أكثر من عشرين ألفًا. وغمزت عينه الحمراء وهو يقول: ونصفها يدفع الآن.

          شعرت على الفور برعشة باردة كادت أن تهتز لها أعضائي الداخلية، ولكني آثرت التروّي والتزام الصمت. رفع مرفقيه عن الطاولة وأسند ظهره إلى كرسيه، وأخذ ينزع أزرار معطفه عن بطنه الضخم حتى سمعت للكرسي أزيزًا.

          ظل يرمقني بعينيه الزائغتين كمن ينتظر جوابًا، ودخان سيجارته يتسلل من بين أسنانه المفلّجة كلما ابتسم.

          لم أكثر من التفكير، مددت يدي إلى الحقيبة وأخرجت عشرات القصاصات لأنثرها بين يديه. تناول البعض وأخذ يتفحصها ويلطخها بدخانه، ثم اختار ثلاثًا منها وقال بجدية: اذهب الآن وسأتصل بك في الأسبوع القادم. وقبل أن أنهض رأيته يعدّ الآلاف العشرة بابتسامة عريضة، ويضع مرتبي الشهري في أصغر جيوبه.

          انصرفت مرتبكًا، وظللتُ لخمسة أيام أقلب الفكر بين مرتّبي الذي ضاع في لمح البصر، وبين الفرصة الذهبية التي لا تقدر بثمن. جاءني اتصاله أخيرا: غدًا في المقهى نفسه عند الساعة كذا، ولا تنس أن تحلق لحيتك! سألته بلهفة: هل أنت متأكد؟.. لم يجبني، واكتفى بتأكيد الموعد.

          وصلت في الوقت المحدد، ودخلت بعد التأكد من أن حذائي ما زال يلمع. لمحت إشارة صديقي وهو يهمس في أذن رئيس التحرير. رأيته أخيرًا بشحمه ولحمه، دنوت وجلست حيث أشار بيده، وذهلت لوجود كل هؤلاء المشاهير. شعرت بالغثيان من الدخان والشراب والألفاظ البذيئة، فأومأ لي أخيرًا بالاقتراب. وضع كأسه بعد أن أفرغه من النبيذ وملأه بالصديد، وهمس: أعجبني أسلوبك، وإليك المهمة الأولى: «لقد تجاوز الشاعر فلان حدوده معي في جريدته.. أرِني فيه مواهبك، وسأنشر لك على الفوز»، ثم نفث دخانه في وجهي.

          اختلطت مشاعري فجأة، شيء من تضارب الأمواج وتهاوي الأبراج، هرعت إلى الشارع لأبحث عن هواء نظيف، وضعت يدي في جيوب معطفي وأسلمت رأسي لقرع الأمطار، مشيت الهوينى حتى وصلت متأخرًا إلى شقتي، نفضت الماء عن شعري، وأنا أتحسّر على الآلاف العشرة.  جلست إلى حاسبي الذي لم أنته من دفع أقساطه بعد، ووضعت خطتي القادمة: من الآن فصاعدًا سأكتب للأطفال فقط، سأكتب ما لم يسبقني إليه أحد.. سأنصحهم بألا يشربوا الحليب، كي لا يكبروا ويلعنوا عالمنا نحن الكبار.

حكى لي صديق
رضا صالح - مصر

          حكى لي صديق عن ابنه ، وعنه، فقال: «بعد حصول ابني على الثانوية العامة بمجموع مرتفع، كان تقريبًا لم يعش فترة المراهقة ولم يحس بآدميته، بالرغم من أننا كنا نوفر له كل شىء ، ولكن يبدو  أننا قد ظلمنا هذا الولد بكثرة حبنا له وخوفنا على مستقبله ، فأنت تعرف أن صراع الثانوية العامة فى مصر يدور بصورة ليس لها مثيل فى العالم .

          المهم؛ عندما جاء ميعاد الفحص الطبي لطلبة الكلية التي ينوي الالتحاق بها،  وعرف ابنى أن إدارة الكلية تطلب الاطلاع على بطاقة ولي الأمر، قلت له :

          بسيطة..خذ بطاقتى (وأحضرت له البطاقة ) وصّورها وأعطها إياهم للاطلاع عليها؟ وخذ معك هذا المبلغ احتياطيا لأي ظروف.

          فرح بالمبلغ في يده، وأبدى علامات الامتنان، وقال لي :

          سأذهب با أبي إلى زميلي حسام، لنتفق على السفر سويا فى الغد.

          لم أمانع، وذهب إلى صديقه ومعه حقيبة صغيرة وضع فيها أوراقه،  ليطلع زميله عليها.

          وعند الفجر، خرج ابني للصلاة، بعد الصلاة بأكثر من ساعة، أيقظتني أمه وعلى وجهها علامات القلق.

          -  لم يعد طارق من المسجد، وميعاد سفره أوشك على الاقتراب.

          قمت مذعورًا، ارتديت ملابسي على عجل، وخرجت لأبحث في المسجد المجاور،  لم أجد أحدًا ووجدت الباب مغلقًا، عدت أجرّ أذيال القلق، ولكن أمه قالت لي:

          - كيف عدت دون أن تحضره معك؟ يا لقلبك!!

          سأذهب إلى قسم الشرطة لأسأل عنه.

          تعجّل.. تعجّل... ونظرت إلى السماء سائلة:

          أين ذهب يا ربي؟

          فى قسم الشرطة واجهني أحد الكونستابلات، رأيت فى معالم وجهه خشونة ويأسًا، قال لي:

          -  ماذا تريد؟

          - أردت لو سمحت أن أسأل عن ابني ، فقد غاب ووراءه سفر مهم..

          -  اسمه؟

          -  طارق .. طارق محمود الشاطر.

          أشار إلى شاويش على يمينه قائلاً:

          - هل الولد موجود فى المضيفة؟

          استدار الشاويش، وتحرك خطوات إلى حجرة الحجز المجاورة، وفتح قفل المزلاج الحديدى الضخم بمفتاح فى يده ، ونادى:

          -  طارق محمود الشاطر ...

          سمعته يجيب بصوت خفيض:   - نعم.

          عاد الشاويش خطوات قائلاً للكونستابل:

          - نعم موجود.

          حدق الكونستابل فى الأوراق أمامه وقال:

          -  لا يحمل بطاقة ... تسّول.

          رددت بغضب: ما الذى تقول يا أخانا؟؟

          ظهرت علامات الغيظ على وجه الكونستابل من لهجتي وقال:

          -  أقول الذي قلته، وما علاقتك أنت به؟

          قلت : أنا أبوه ... والده..

          طيب يا سي والده أرني  بطاقتك؟

          تحسست جيوبى في قلق، ولكني لم أجد فيها شيئًا، لم أجد حتى المحفظة، أو أي إثبات شخصية،  فقد خرجت من البيت مضطربًا، وتذكرت أيضًا أن البطاقة قد أعطيتها لابنى في المساء حتى تطلع عليها إدارة الكلية، وقلت للكونستابل مستسمحًا إياه:

          - البطاقة من المؤكد أنها معه.

          -  مع من؟

          -  مع ابني طارق.

          أبدى الكونستابل ابتسامة ساخرة، قائلاً:

          - كيف؟ إذا كان هو لا يملك بطاقته؟ عجيبة والله!

          ونظر بفروغ صبر إلى الشاويش:  نادي على الولد طارق يا سيدي...

          خرج طارق حزينًا ذليلاً، حزنت لمرآه ، كدت أبكي، ولكن قلبي كان فرحًا بالعثور عليه، قلت:

          -  كيف أودعوك هذا المكان يا طارق؟

          -  كنت عائدًا من المسجد، عندما وجدت عربة الشرطة تعترض طريق المشاة وتوقفهم واحدًا واحدًا للاستجواب،  وتضع مَن تضع في البوكس، والقليل مَن يطلق إلى حال سبيله.

          -  أين البطاقة يا طارق ؟

          قال ببراءته المعهودة:

          - لقد تركت الحقيبة عند صديقي حسام حتى لا أنساها فى الصباح، وفيها كل الأوراق.

          وزّع الكونستابل نظراته الحارقة بيني وبين الشاويش، وهو يفتح فمه ويغلق، ويرغي ويزبد، وقد اختفت  شفته العليا تحت شاربه الكث الذي سرح على جوانب فمه معبرًا عن قوة لا تضاهى قائلاً:

          - ضع الأستاذ فى التخشيبة حتى نجد للإثنين صاحبًا!».

في الصدفة بحر
منى وفيق - المغرب

          من قلبي جررتني جرّا أيّها الصموت كحجر الصوان. لم أقاومك. مراقبة الحسناوات على الشاطئ أو تمييز ماركات مايوهات البحر أمور لا تشغلني إلا حين أحس بالقرف من جسدي.

          هكذا دون سبب أحسست بالقرف منك أيضا. صغارا رميناك بالأبله، السّلبي والضعيف. طفلا في نضجك الأول كنتَ تشهر أصدافك وحفنة رمل في أعيننا مدّعيا: «لمَ تهابون البحر؟ اقتربوا.. من ذا الذي أخبركم أن هناك غدرًا بملحه؟!»

          ثمّ تغنّي أنت:

          عينُ الصّدفة بحرٌ وتوبة ..

          دمعةُ الصّدفة نوحٌ يواسي سفينةً ضالّة ..

          صرخةُ الصّدفة تفّاحة تقلّم ظفر طفلة..

          ثغرُ الصّدفة مهدُ قبلةٍ ونحلة..

          وخزةُ الصّدفة صلاةٌ ورقصة ..!

          كنا نسخر منك بكل حقد، وأتساءل كنتُ دوما: هل للبحر عمى ألوان؟! كيف لا يختار إلا قصورنا الرملية ليطيح بها؟ ما كان الماء يقترب من أكواخك الرملية، قلبك الرملي، سلة فواكهك الرملية، قيثارتك الرملية، طيفك الرملي هو الآخر.

          لاحقتُك يومها. جمعتَ أصدافا كثيرة ورسمتَ بها موجة بحر كبيرة.

          بغيرة متّقدة وطرف العين كنتُ أتابعك. على حين غرّة تقدّمتَ نحوي وأعطيتني صدفة بعدما أشرت عليّ أن أضعها فوق أذني وأنصت. لم أقاومك مجددا. كانت الصّدفة تصدر هواء وريحا تضحك ..

          وتغنّي أنت:

          عينُ الصّدفة بحرٌ وتوبة ..

          دمعةُ الصّدفة نوحٌ يواسي سفينةً ضالّة ..

          صرخةُ الصّدفة تفّاحة تقلّم ظُفر طفلة ..

          ثغرُ الصّدفة مهدُ قبلةٍ ونحلة ..

          وخزةُ الصـّدفة صلاةٌ ورقصة ..!

          صغارا كنّا نغيظك والبحرَ معا. لم نكن نخرج لساننا للبحر غاضبين منه لأنه اصطفى مدنك الرمليّة دون غيرها. لا. لم نفعل ذلك. كنّا نجري إلى طيفك الرمليّ مستفزّين البحر. ندور حولك كما يدور الهنود الحمر حول نارهم.

          نتقدّم دفعة واحدة. نهدم لك أكواخك الرملية، نهدم قلبك الرملي، نهدم سلة فواكهك الرملية، نهدم قيثارتك الرملية..!

          يومها أيّها الصموت لم أهدم صدفات موجك. بل كنتُ أحشو الصّدفةَ التي أعطيتنيها بالرمل حتّى تصمت عن ضحكها.. أحشوها بالرمل والرمل. في حين كنتَ بدأتَ بالغناء:

          عينُ الصّدفة بحرٌ وتوبة..

          دمعةُ الصّدفة نوحٌ يواسي سفينةً ضالّة..

          صرخةُ الصّدفة تفّاحة تقلّم ظُفر طفلة..

          ثغرُ الصّدفة مهدُ قبلةٍ ونحلة..

          وخزةُ الصّدفة صلاةٌ ورقصة..!

مِن عاشِقٍ صَبٍّ يُسِرُّ الهَوى قَد شَفَّهُ الوَجدُ إِلى كُلثُمِ
رَأَتك عَيني فَدَعاني الهَوى إِلَيك لِلحَين وَلَم أَعلَـمِ
قَتَلتِنا يا حَبَّذا أَنتُـمُ في غَير ما جُرمٍ وَلا مَأثَمِ
وَاللَهُ قَد أَنزَلَ في وَحيِهِ مُبَيِّنا في آيِه المُحكَمِ
مَن يَقتُل النَفس كَذا ظالِما وَلَم يُقِدها نَفسَه يَظلِمِ


عمر بن أبي ربيعة

---------------------
* كاتب وروائي من مصر