فيصل السمره ويحيى سويلم

فيصل السمره ويحيى سويلم
        

الحروفية العربية فشلت في مهدها!

          كانت إطلالة الفنان التشكيلي السعودي فيصل السمره في معرضه بجاليري سلطان بالكويت، فرصة للمحاورة معه كفنان يتميز بتفرّده في الحركة التشكيلية العربية المعاصرة.

          وفيصل السمره المولود في الدمام بالمملكة العربية السعودية عام 1955، تخرج في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة - البوزار - في باريس.

          وشهد له الفنان خليل المرابط مبكرًا بقوله: «يرفض الرسام السعودي الشاب فيصل سمره أفق المحاكاة المسدود، ويعمل على تجديد مصادره وينابيعه.

          يعشق جَلْو الحقائق الأولية، ويدعو إلى العودة إلى الأشكال الجذرية، ويعلن عن انتمائه إلى جذور بيئوية، تلك هي جذور الصحراء، والسرايات، والبحر ورمل الجزيرة العربية المقدّس».

          ظل فيصل محافظا على لوحته المؤطرة حتى عام 1987، لينتقل بعد ذلك إلى اللوحة الحرة أو تعبيرات نحتية طالما أمتعتنا وأدهشتنا أو صدمتنا في أحيان أخرى، زخرت بها معارضه، وجاءت تلك الأعمال التشكيلية في شكل مجموعات تحمل عناوين محددة لتطرح أفكارًا وتجارب بصرية مبتكرة متنوعة ومدروسة، وفق خاماته المستخدمة لمحيطها، بحس مرهف ودون أي حذق ساعده في ذلك ثقافته العالية واطلاعه الواسع المستمر على فنون العالم.

          للفنان الكثير من المعارض الشخصية، والأخرى المشتركة، التي أقامها في فرنسا والمملكة العربية السعودية ولبنان والكويت والمملكة المتحدة وكوريا والبحرين، وتقتني أعماله متاحف ومؤسسات عدة مثل متحف العالم العربي في باريس والمتحف الوطني بالكويت، ووزارة التجارة والاقتصاد، بالمكسيك بخلاف المجموعات الخاصة لدى الأفراد والهيئات الأهلية.

          يلتقيه محاورًا الفنان والناقد التشكيلي يحيى سويلم المستشار السابق للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت.

  • يحسب لك ارتباطك بالمنطقة، تعمل وتعرض دائمًا في الكويت والسعودية والبحرين وبيروت والقاهرة، فمنذ زمن بعيد، ونحن نشاهد هجرة الكثير من فنانينا، مفضلين هذه الغربة لتوافر المناخ الفني الحافل بتجارب التشكيل الحديثة، وخاصة ذلك الجيل من الشباب الذين توافرت لهم الدراسة في أكاديميات الغرب، وتمكنهم من لغة التواصل مع تلك المجتمعات، ليحققوا تقدمًا ونجاحًا، ويصبحوا بالفعل مع الوقت - حيث صالات العرض الحقيقية، التي تحتضن التجارب الحديثة وتتعهدها بالدعم والرعاية - ضمن المنظومة الثقافية العالمية.

          فبالرغم من دراستك بأرقى معاهد الفن في باريس، وإقامتك الطويلة الناجحة، هناك فضلت العودة إلى وطنك، ونحن بالفعل نحتاج إلى أمثالك، وهم ندر لتثقيف وجداننا التشكيلي، وتنوير الجانب الأغلب ضبابية وظلامًا في مجتمع مازال يجهل قيمة الفنون التشكيلية، هل هي رسالة أخذتها على نفسك؟

          - بعد التخرج في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس 1980 عدت إلى الوطن (السعودية - المنطقة الشرقية)، وعملت أولاً مع الحكومة في مجال الفنون التشكيلية، وتسلمت هذا القسم الذي كان يتبع رعاية الشباب، وعملت على إعادة تنظيمه وإرساء قواعد جديدة للمعرض السنوي الذي كان يقام لفناني المنطقة بعد أن وسعت المشاركة لتشمل الفنانين المقيمين أيضًا، ووضعت مواصفات مختلفة لقبول المشاركين من حيث رفع مستوى الأعمال المقبولة للمشاركة، وبالفعل أقمت معرضين سنويين، بالإضافة إلى ذلك فتحت علاقة حوار مع الفنانين في المنطقة، وخصصنا لقاء أسبوعيًا للحوار في الفن ونقد الأعمال الفنية للمشاركين من الناحية التقنية وبموضوعية، ما أدى إلى كسر الجليد بين الفنانين، وقد وفرت في هذا «الصالون» الفني كل ما كان بحوزتي من كتب وتجارب فنية عالمية، وقد أدى ذلك اللقاء الأسبوعي لتحرر هؤلاء الفنانين من كثير من القيود، التي كانت تحد من خروج أعمالهم من القوقعة المحلية، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار محددوية المعارف ووصولها إلينا في ذلك الوقت، استمر هذا العمل لمدة ثلاث سنوات تقريبًا، وبعدها وجدت نفسي قد استنفدت، ويجب عليّ أن أعود إلى باريس للاستزادة والعمل على تطوير ذاتي الفنية والثقافية، وفعلاً قررت العودة في العام 1986 بعد أن سلمت قسم الفنون التشكيلية بهيكله وتنظيمه الجديد لأحد الزملاء الفنانين العائدين من الدراسة في أمريكا، وعدت إلى باريس لأعمل مع «معهد العالم العربي» الذي فتح أبوابه في المبنى الجديد لمقره، وبدأت رحلة العمل في باريس من منظور مختلف عن فترة الدراسة، وقد كنت أتابع عن كثب ما يحدث في الوطن العربي، ولكني لم أنقطع عن عرض تجاربي في أماكن مختلفة من الوطن العربي، بجانب نشاطي في أوربا، وأماكن أخرى من العالم، في 1994، وجدت أن هجرة الطاقات والمواهب من عالمنا العربي هي أحد الأسباب الرئيسية في تخلف الوطن على جميع الأصعدة، ووجدت أن المعادلة الأمثل هي أن يكون لأمثالنا ممن تعلموا في الغرب حضور مزدوج، قدم هنا وأخرى هناك، و«هناك» الآن أصبح العالم بأسره، لذلك عدت لأستقر في  البحرين مع الإبقاء على تواصلي الدائم مع باريس وغيرها من المدن المهمة في الغرب.

عمق الجذور

  • كثيرون يصفونك - والحق معهم - بأنك متجذّر بأصولك العربية، وغائص بعمق في أحاسيس وأحداث الشارع العربي؟

          - لأنني عشت في الشارع العربي دائمًا، منذ طفولتي، سواء في البحرين أو السعودية، وفي كل مكان أذهب إليه من بقاع الدنيا، لا أهدأ في أي مدينة أزورها حتى أكتشف قاعها، ولأن همومنا العربية الكبيرة، تقريبًا واحدة، أضف إليها هموم الإنسانية الكبرى، عندها يصبح الحمل ثقيلاً جدًا على أي صاحب وسيلة إبداعية تتعامل مع الآخر في أي زمان ومكان، وبالتالي فإني أتفاعل مع ما سبق بتلقائية إنسانية، أولاً، ثم بتحليلية تفكيكية، ثانيًا، واستنباطية استدلالية، ثالثًا، لتأتي المرحلة الأخيرة، والتي قد تطول، وهي صياغة العمل الفني، والتي تتطلب كثيرًا من الحسابات الذهنية لدراسة منطق الشكل العام للعمل (بصرف النظر عن وسائله المستخدمة في تنفيذه)  وضبط ذلك مع مضمون العمل ليتحد ذلك كله في مفهوم واحد لا يمكن فصله، حتى ننتج ما يسمى «عملاً فنيًا مفاهيميًا».

في النهاية أنا فرد عربي إنساني.

  • ذاكرتك الإبداعية تشكّلت منذ مشاهداتك الطفولية في البحرين والجزيرة العربية والدراسة الأكاديمية ثم العمل في باريس، مشاهداتك العصرية اليومية من الميديا وقراءتك، البعد التراثي وتقاليد مجتمعاتنا الإسلامية والعربية وقراءاتك.

          - العمل الفني بالنسبة لي، كان دائمًا ومازال، سببًا من أسباب الحياة وامتدادًا لها في الزمن المطلق.

          إذن فإن هذا الفعل «الحياتي» متمدد على  ذاكرة بصرية، حسية وذهنية مركبة ومعقدة جدًا، بمنزلة نسيج يحتويني وأحتويه في الوقت نفسه، انتخب منه ما يلزم عند تنفيذ العمل حسب الضرورة الداخلية لي وللعمل الفني.

          كل ما ذكرت في سؤالك له تأثير بشكل واعٍ أو لا واعٍ في عملي الفني.

معهد العالم العربي

  • عملك في وقت مبكر في معهد العالم العربي، هل يمكنك وضع النقاط على الحروف لهذه المؤسسة رائعة الهدف والمضمون، وهل هي على الطريق القويم، وإلى أي مدى يمكن التوسع في تعميم فائدتها؟

          كثير من فناني المشرق يشتكون من اختلال التوازن في العطاء التشكيلي بينهم وبين إخوانهم في المغرب العربي.

          -- نعم، عملت في المعهد من العام 1987 إلى العام 1992، مشكلة معهد العالم العربي، نفهمها من تسميته «العالم العربي» منذ البداية كانت هناك القضية الاقتصادية التمويلية، فحسب علمي أن الميزانية التشغيلية من اختصاص فرنسا، الميزانية التمويلية للنشاطات الأخرى، التي يقدمها المعهد، ومن ضمنها المعارض الكبيرة...إلخ هي من اختصاص دول العالم العربي المشاركة، والتي تتأخر أو تمتنع عن دفع مخصصاتها، وهذا له تأثير كبير على الإنتاج الثقافي الفني للمعهد.

          المشكلة الأخرى هي تنظيمية إدارية، حيث يصطدم اتخاذ القرار، غالبًا، بعوائق إدارية ذات بعد سياسي، وهذا ربما ما يعيق النقلة النوعية في أداء المعهد على جميع المستويات (الفرنسي، الأوربي، العربي والعالمي). إذا لم تعالج المشاكل السابق ذكرها، فإن الحال سوف يبقى على ما هو عليه.

          وبالنسبة لاختلال التوازن بين المشرق والمغرب العربي في العطاء التشكيلي، فأنا لا أعتقد بذلك، وإنما هناك معطيات وظروف مختلفة، وبالتالي فإن ذلك يؤثر إما سلبًا أو إيجابًا، تارة هنا وأخرى هناك.

  • في الآونة الأخيرة كانت هناك في العالم العربي ظواهر حضارية عدة تولي حركة الفن التشكيلي بعضًا مما يجب أن يكون عليه الحال من جاليرهات أكثر احترافًا تنتشر في لبنان ومصر والإمارات (دبي) والكويت والبحرين، كما وجدت مؤسسات (فونديشن) مثل كندة والمنصورية في السعودية، بيناليات ومهرجانات تشكيلية كبينالي القاهرة والإسكندرية والكويت والشارقة سابقًا، وملتقيات دولية للنحت أشهرها سمبوزيوم أسوان، وانتشرت الفكرة لتكون في الإسكندرية وعُمان والكويت أخيرًا.

          تقييمك... وأفكار يمكن طرحها أو نصائح تقدم؟.

          - شيء جيد جدًا، ونحتاج أكثر، ولكن البقاء سيكون للأصلح، دائمًا.

          ما أريد أن أضيفه في هذا الصدد، بتواضع، هو إعطاء الدعم اللازم لأي مشروع ليخرج ببعد عالمي، وليس محليًا، والدعم يأتي بوضع دراسة الجدوى من قبل متخصصين على مستوى المواصفات العالمية في هذا المجال ومن ثم وضع استراتيجية من أجل تحقيق أهداف معينة في منظور زمني محدد.

          وكسياسة تشغيلية لهذه المشاريع، أدعو، لاستقطاب، أولا، (فيما يخص عالمنا العربي) الطاقات الإبداعية العربية المنتشرة في العالم لسبب أو آخر، والموجودة في داخل الوطن، ولكنها معاقة لأسباب نعرفها أو نجهلها، والتي تسعى بدورها للهجرة لعدم توافر من يحتضنها لتثمر في أرضها.

          إن هجرة الطاقات البشرية من العالم الثالث، حسب التصنيف الغربي (ونحن منه مع الأسف) إلى العالم الأول، والثاني له عواقب خطيرة علينا جميعًا (في العوالم الثلاثة)، ومن أهمها ازدياد التخلف والفقر في  المجتمعات المتخلفة والفقيرة أصلاً، فضلاً عن العواقب الأخرى، الديموجرافية والاقتصادية والسياسية.

          أضف إلى ذلك، أن التهجير القسري (في العالم الثالث) بسبب الحروب هو قنابل مؤقتة لحروب شنيعة قادمة. هكذا علّمنا التاريخ فهل نتعظ؟ (وهو موضوع عمل فني بعنوان «مواطن عالم ثالث» أنجزته في 2003 وعرض في بيروت، عمان والدنمارك). 

التوحد بصدق

  • طبيعة ألوانك المستخدمة، ونوعيتها والبحث التقني، يتضح تسيّدها في تأسيسك لأشكال فنية هي ظاهر إنتاجك، كما لا يمكن إنكار طغيان الفكرة أحيانًا، خاصة عندما تصبح الشاشة أو التجهيز في الفراغ - وأفضّل أن أسمّيه الفضاء - بديلاً عن الفرشاة والقماش والألوان.

          - هناك مفهوم أساسي متجذّر في عملي منذ أن بدأت، بوعي، في الإنتاج الفني، وهذا المفهوم بكل تبسيط هو التوحد بصدق، ودون مباشرة مجانية، مع العمل الفني المنتج، لكي يأتي مكثفًا ومختزلاً للوجود الإنساني في زمانه ومكان.

          كل الوسائل للوصول إلى ما سبق مباحة، ففي سبيل تحقيق الهدف النبيل كل شيء ممكن (إذا كان فعلاً نبيلاً؟)، وهدف الفن، من وجهة نظري، هو إظهار الحقيقة وتعرية الواقع دون محاباة أو مكياج للتضليل.

          لذلك فإن الوسائل التي استخدمها يفرضها العمل وليس العكس، بمعنى إذا استبدلنا الوسيلة يسقط العمل.

          هناك من يقول إن استخدام الوسائل المتعددة المعاصرة في العمل الفني هي تبعية للصرعات والموضات الغربية ليس إلا، ربما يكون هذا حال البعض، وهنا التقليد سيظهر لذوي الاختصاص، وحتى لمن لديهم قليل من الاطلاع في مجال الفن، فالإناء بما فيه ينضح.

          كنت أعرف عن استخدام الوسائل المتعددة في الفن منذ منتصف السبعينيات بعد التحاقي بالبوزار - باريس، ومن دراسة تاريخ «الدادائية» يتبين لنا أن جذور الفن المعاصر في تجاربها الأولى، بدأت هناك، ولتتواصل البحوث لتكتشف كنوز الفنون الأساسية (وكانت تسمى بدائية) ومن ضمنها فنون الأداء (PerformanceArt)، المتجذّرة في فنون الشعوب، والتي أثرت، إلى حد كبير، في الفنون المعاصرة.

          ولكني لم أستخدمها في ذلك الوقت لأن عملي لم يتطلب ذلك، وكنت مشغولاً بتعلّم قوانين اللعبة، لكي أتمكن من التمرّد عليها فيما بعد، وجاء أول عمل إنشائي فراغي لي في 1989 - باريس (جذور - موضوع العمل) وذلك لأن التحوّل والتغيير الداخلي في عملي الفني فرض ذلك.

          إن موضوع الحداثة، وما بعد بعد الحداثة، لا يعني لي شيئًا أبدًا، إنما المهم هو الصدق في الطرح والمعاصرة في الشكل والمضمون (كوحدة واحدة لا تتجزأ).

  • الحركة التشكيلية العربية إلى أين، وقبل هذا هل يوجد ما يمكن أن نسمّيه حركة تشكيلية عربية، أم أنها جهود لفنانين وممارسات تشكيلية متراكمة كوّنت مشهدًا عامًا تجاوزًا يمكننا أن نطلق عليه مصطلح الحركة التشكيلية العربية.

          وأضيف: نود الاستفادة برأيكم، وخاصة أنك مطلع عن كثب على أغلب المحترفات العربية والخليجية على وجه الخصوص، وأهم منجزاتها؟

          - أعتقد أن زمن الحركات الفنية قد انتهى وآخرها POP ART، التي نشأت في بريطانيا في بداية الستينيات، وانتنقلت إلى أمريكا الشمالية، وأصبح هناك فنانون ينجذبون إلى إحساس ومفهوم معين في الطرح كل حسب رؤيته الخاصة، والتي تستفيد من جميع التراكمات الإنسانية على جميع الأصعدة، أي فنانين بتوجه خاص في الطرح والهدف.

          لذلك ليست هناك حركة تشكيلية عربية (حسب المفهوم المتعارف عليه في تاريخ الفن)، وإنما اتفق على تسميتها بذلك لتحديدها جغرافيًا ومحاولة «الحروفيين»، في الستينيات، وما أطلق عليه بالمدرسة الحروفية، الاستحواذ على هوية المنتج الفني التشكيلي في العالم العربي وتحديدها له في إطارها فقط ومهاجمة الطروحات الأخرى واتهامها لها بالتبعية الغربية، قد فشلت في مهدها فلم تستطع أن تكون سمة مميزة لحركة تشكيلية معينة كما حدث مع الحركات العالمية الأخرى السابقة لها والمواكبة، إضافة إلى قوة وتميّز وأصالة الطروحات العربية الأخرى سواء داخل الوطن أو خارجه.

          لذلك فإني أعتقد أن التسمية يجب أن تكون «حركة التشكيليين العرب».

          إن هناك تسميات ومصطلحات  تطلق على عواهنها (ومن نقاد عرب، مع الأسف)، دون فحص موضوعي فتجانب الحقيقة وتغالطها، ولدينا كثير منها في حياتنا الاجتماعية والثقافية إلخ... جاء الوقت لتصحيحها من قبل المختصين في كل مجال وليس من قبل «المسطحين» للثقافة خصوصًا في الجرائد العربية والمجلات وحتى مواقع الإنترنت.

          نعم، أنا مطلع، إلى حد ما، وأعتقد أنه، مازال، من المبكر الحديث عن «إنجازات»، ولكن من المؤكد أنه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بدأت ديناميكية نشطة من الغرب تجاه الشرق والشرق الأوسط، وهذا ما أعطى ويعطي الفنان هنا الحافز على الإبداع، وترسيخ الثقة في النفس (مثل ما حدث مع الفنانين الصينيين والروس بعد أحداث بكين، وسقوط الاتحاد السوفييتي)، كنا نحتاج اهتمام المؤسسة الثقافية والفنية في الغرب أي في العالم بسبب سيطرتهم على الإعلام العالمي، وهذا حدث، وكنا نحتاج إلى منصات انطلاق لتقديم ما لدينا بالمقارنة مع المستوى التقني الذي لديهم، وهذا أيضًا بدأ بالحدوث (بيروت، القاهرة، وأخيرًا دبي وأبوظبي وقطر). كل هذا إيجابي حتى الآن، ويعتمد نجاحه على الكيفية التي ستوضع بها  الاستراتيجيات المستقبلية لمثل هذه «المنصات والصروح» خصوصًا أنها سوف تستهلك مبالغ هائلة من أموال أبنائنا وأحفادنا، وبالتالي يجب أن يعي القائمون على هذه المشاريع أن الخطأ غير مغفور، وتبعاته سوف تكون خطيرة علينا مستقبليًا، ولا أعتقد أننا سوف نحظى في المستقبل بطفرات اقتصادية، كالتي نعيشها الآن، والتي عشناها في الستينيات والسبعينيات، ولم نستفد منها لأسباب كثيرة نعرفها جميعًا.

          نحن في مفترق طرق تاريخي، علينا التدقيق والدراسة العلمية الموضوعية قبل اختيار الطريق.

  • في نظام حياة الإنسان، المجتمع البشري عرضة للتغيير والتحول دائمًا، حيث تحل ظواهر جديدة محل الظواهر السابقة أو القديمة. تخوض بتجاربك التشكيلية المتلاحقة ومعالجاتك البصرية شتى مجالات الفن من رسم ونحت وكولاج واستخدام خامات متعددة وفن التجهيز الفراغي والفيديو، نود التعرف عن قرب على تحولاتك الإبداعية، التي لم تهدأ، ومتابعاتك لما يجري من تحوّلات على الفنون العالمية إلى أين سوف تصل بنا ما بعد الحداثة، وما بعد بعد الحداثة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تفرض سيطرتها على حياتنا؟

          - كما ذكرت سابقًا، فإن اختيار وسيلة تنفيذ العمل يأتي حسب ما تتطلبه الضرورة الداخلية في العمل، شكلاً ومضمونًا، وفي نفسي بالمقام الأول، أي أنني أسعى دائمًا للوصول بالعمل الفني (بقدر إمكاناتي) إلى الحد الأقصى باستخدام الحد الأدنى، من الوسائل، كما أراه مناسبًا لشحن ذلك العمل بما أريد من طاقة (بصرية حسية، شعورية، عاطفية... إلخ).

          ولكن هناك وسائل تؤثر فيّ أكثر من غيرها حسب الزمان والمكان، وهما متغيران متحولان، وعليه فإن عملي لابد إلا أن يتغير ويتحول في الوسيلة والهيئة، بمعنى أن الوسائل المعاصرة لزمن ومكان معين، خصوصًا إذا دخلت في نسيج حياتنا اليومية، تدعوني لأن أصنع لها امتدادًا في العمل الفني مغايرًا أو محرفًا عن وظائفها التقليدية في حياتنا المعيشة (كاستخدام الشبك المعدني، المستخدم في البناء والسياج، مساحيق الألوان المستخدمة أساسًا في تلوين وصباغة الأقمشة والدباغة، الحناء لتزيين أيدي وأرجل النساء في الشرق بجانب استعمالاتها الحياتية الأخرى، الصلصال كمكوّن أساسي في خلق الإنسان، ومن ثم أدواته الأولية الفخارية حتى وصلت حاليًا إلى التصوير الرقمي والحاسب الإلكتروني  لما لها من تأثير خطير في زمننا المعاصر، على، أولاً، قراءتنا واستيعابنا للصورة الإلكترونية (مثل التلفزيون، السينما، الهواتف النقالة، الكمبيوتر، المطبوعات الدعائية في المدن... إلخ) التي تستعمر مساحة شاسعة من حقل مجالنا البصري، وبالتالي الذهني السلوكي، دون أن ندرك بشكل واعٍ، في نسبة كبيرة من العامة، وثانيًا التأثير العميق لذلك في شخصيتنا وطباعنا وحتى ضمائرنا.

          هذا هو هاجس مشروعي الذي بدأته في 2005 (واقع محرف) (Distorted Reality) وعرضت نموذجًا منه في دبي في معرض شخصي بشهر مارس 2007، على هامش فعاليات أول مهرجان عالمي لسوق الفن في الخليج والشرق الأوسط (Gulf Art Fair)، والحمد لله، لقي اهتمامًا كبيرًا ممن حضروا للمشاركة أو الاطلاع، من العالم، على المهرجان مثل مديري المتاحف، نقاد، منظمي معارض وأصحاب قاعات عرض فنية وفنانين ووسائل إعلام عالمية... إلخ.

          مشروع دقيق وخطير، أعتقد، جازمًا، أنه سوف يستحوذ على عملي الفني القادم لفترة غير محددة.

          وعليه، فإني أعتقد أن التحولات الثورية في الطرح للفنون العالمية المعاصرة لا تأبه كثيرًا بالتصنيفات النقدية مثل الحداثة، وما بعد بعد الحداثة، بقدر ما تهتم بالدخول في صميم الهم الإنساني وتعريته وتشخيصه ليتسنى بالتالي معالجته، الآن أو في المستقبل القريب أو البعيد البعيد، وحتى إذا لم يعالج، فإنه يبقى شاهدًا ودليلاً، للأجيال القادمة، على أن الفن في ذلك الزمان كان يعي حقيقة الأمر، وأشار إليها ووثقها، كما هو الحال مع الإرث الفني الذي وصل إلينا منذ إنسان الكهف، وحتى حضارتناالمعاصرة، فاستطعنا بفضل الفن أن نكتشف التركيبة النفسية الحقيقية لذلك الإنسان وهمومه الوجودية، وكيف تعامل معها في زمنه، وبالتالي كيف نستطيع نحن والآن الاستفادة من ذلك بعد فك شيفرة تلك الأعمال الفنية (إذا كانت مشفّرة) وإسقاطها على زمننا المعاصر، بتصرف، في ضوء ما لدينا من تراكم تجربي ومعرفي.

          كما حدث مع الغرب عندما أعاد اكتشاف الشرق (في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر وإرساله لبعثات الاستكشاف ثم الاستعمار)، وآثار حضاراته القديمة، وفنونه الشعوبية حتى فنونه الأساسية (البدائية) وما تبع ذلك من ثورة في مفهوم الفن في الغرب مع بداية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.

          الفن والعلم هما إحدى الركائز الأساسية لتواصل الإرث الحضاري، فنحن نبني على ما سبق أو نفككه ثم نعيد بناءه ليتماشى مع منطقنا المعاصر، أو حتى هدمه وإزالته تمامًا لنشيد بناءً جديدًا إذا كان من أساسه مغلوطًا.

          ولذلك، فإن أي أمة تمسك بهما (الفن والعلم) فإنها تمسك بحاضرها ومستقبلها أيضًا.

          وأعود إلى «صميم الهم الإنساني»، وهو الآن: إنعاش الضمير الإنساني باتجاه الآخر، وإيقاظ الوعي بالكارثة البيئية، التي سببناها بثورتنا الصناعية، والمساهمة بشكل فردي وجماعي في تدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان، إذا لم يفت؟! (هذا ما طرحته في عمل فني «النار الأخيرة» تم عرضه في 2002 في الكويت). 

الفن والجمال

  • (البحث عن الجمال) معرضك الحالي - بجاليري سلطان هو في الحقيقة لب الفن المعاصر على وجه الدقة، فمما لاشك فيه، أنه لابد من بحث عن جمال آخر لا ينتمي إلى الجماليات السابقة، وما تلزمه صفة الإبداع، نعم البحث دائمًا عن جمال آخر يحل محل الأطر والمعايير السابقة في محاولات جادة للعثور على جماليات زماننا المعاصر.

          هذه الديناميكية (البحث عن جمال آخر دائمًا)، هو في حقيقة الأمر أساس استراتيجي دائم في مسار عملي الفني منذ البدء، ولذلك، ولأول مرة، عرضت نماذج من أربع مجموعات مختلفة، نفذت في الفترة من 1997 إلى 2005 وهي:

1 - «وقت» -  1997
2 - «خرافة ذاكرة»  1998
3 - «جسد آخر - الجيل الثاني» 2004
4 - رءوس غائبة» 2005.

          وغرضي من ذلك هو تقديم مثال عن وتيرة عملي في البحث عن منطق بصري جمالي مختلف في كل مجموعة أقوم بتنفيذها مع الاحتفاظ بوحدة التجانس الداخلي في جميع هذه الأعمال الفنية، من هنا يأتي التحدي في إنتاج العمل الفني، أن يكون لدينا الشجاعة الإبداعية دائمًا بعدم الاستسلام لأي إنجاز فني بتحويله إلى أسلوب شكلي يكرر نفسه، بل تفكيكه أو حتى هدمه وإعادة صياغته، والإضافة عليه لكي يتفاعل مع عصره في الزمان والمكان.

          إن ما سبق ذكره بالنسبة للبحث عن جمال آخر، هو أيضًا، فلسفة حياتية يمكن تطبيقها وسحبها على جميع التفاصيل الحياتية المعيشة، إذا شئنا ذلك.






الفنان فيصل السمره إلى اليمين وهو يتحدث مع يحيى سويلم





مجموعة «جسد النص» 2006 مواد متنوعة - صلصال - شبك معدني 90 ×60 × 25 cm





شق في جدار 1987 حبر وقلم فحم وألوان باستيل على ورق 55 × 75 cm





مجموعة «رءوس» 1999 مواد متنوعة وشبك معدني cm 57 ×59 × 06





مجموعة «رءوس غائبة» 2005 مواد متنوعة - قماش - شبك معدني cm 57 ×59 × 06





مجموعة «جسد آخر» 1998 مواد متنوعة - قماش - شبك معدني cm 122 × 83 × 15





 





تجهيز وفيديو «النار الأخيرة» 2002





تجهيز وفيديو «مواض عالم ثالث» 2002





 





مجموعة «جسد آخر» 1998 مواد متنوعة - قماش - شبك معدني cm 122 × 83 × 15





مجموعة «جسد آخر» 1998 مواد متنوعة - قماش - شبك معدني cm 122 × 83 × 15





مجموعة «فصل الترحال - مهاجر» 9891 مواد متنوعة - قماش 153 × 75 cm