التغريب... والمعالجة د. سليمان إبراهيم العسكري

التغريب... والمعالجة د. سليمان إبراهيم العسكري
        

  • تجارب الأمم الشرقية تجزم بأن التنازل عن اللغة الأم ليس أبدًا أول الطريق نحو بلوغ لغة العصر والمشاركة في إنتاج أدواته.
  • رطانتنا السطحية بمسميات وكلمات من خارج لغتنا العربية لا تجعلنا نضيف شيئًا للتقدم، ولا تجعلنا إلا مجرد متشبّهين تافهين بالغرب.
  • إن العروبة ليست مفهوما عرقياً عنصرياً، بل هي هوية ثقافية موحدة تلعب اللغة العربية دور المعبر عنها والحافظ لتراثها.
  • تكامل الثقافات عنصر حيوي وصحي شرط أن تنتبه الأمة وينتبه مصلحوها إلى أن ما يجوز نقله من العلوم والمعارف لا يعني أبدًا التخلي عن تراثنا ولغتنا والتقاليد المرتبطة بواقعنا.

          ظاهرة مقلقة صارت تتغلغل في مجتمعاتنا العربية، تتمثل في تنازل الكثيرين عن لسانهم العربي، واستبداله برطانات أجنبية في غير موقعها، في أسماء الشركات، والمنتديات، والمراكز التجارية، ومراكز الترفيه والتسلية، وفي الأحاديث اليومية العادية لدى قطاع كبير من أبنائنا، وعلى شاشات كثير من القنوات الفضائية، وفي لغة التعليم بكثير من المدارس والجامعات، بل صارت هذه الرطانات لوازم في حوارات كثير من المثقفين والمعلمين العرب. وهي ظاهرة تبدو بسيطة وعابرة على السطح، لكنها تمس الهوية في عمقها، وبالرغم من انتباه الكثيرين من أصحاب الرأي والتعليم لهذه الظاهرة، فإن المعالجات كانت في كثير من الأحوال مجرد ردود فعل مشوبة بكثير من الأخطاء.

          منذ ستة وأربعين عامًا صدر للكاتب والمفكر الإيراني، جلال آي أحمد، والذي لا يمكن حسابه على أي تيار فكري مذهبي أو سياسي، نظرًا لتمرّده على كل هذه التيارات، كتاب صغير بعنوان «الابتلاء بالتغريب»، يلامس بعضًا من الظاهرة، التي نحن بصدد الحديث عنها، وقد ذهب في وصف هذه الظاهرة، بتجلياتها المختلفة، بالمرض، وقال في ذلك: «الابتلاء بالتغريب مثل الابتلاء بالوباء، وإذا لم يوافق التعبير الذوق، أقول كالتعرّض للفحة حر أو نزلة برد، لكن لا، إنه على الأقل شيء أشبه بمرض التقدم في العمر، هل رأيتم كيف يتعفّن القمح؟ من الداخل يكون القشر سليمًا وفي مكانه، لكنه قشر فحسب، الجلد نفسه الذي يبقى من الفراشة على شجرة. على كل حال، فالحديث عن مرض ما، عارض جاء من الخارج، واستفحل في بيئة مستعدة للمرض، فلنبحث إذن عن خصائص هذا المرض وسببه أو أسبابه، وسبل علاجه إن كانت هناك استطاعة».

أبعد من المظهر اللغوي

          ليكن أن هذه الظاهرة مرض، وأنا أراها كذلك، لأنها لا تتوقف عند حدود المظاهر اللغوية، بل تتعدادها إلى تبني سياقات ثقافية من خارج هويتنا وتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، وهي لا تمثل بأي حال من الأحوال نوعًا من التثاقف المطلوب في عالم صار بفعل المنجزات الحديثة - من ثورة المعلومات وتطور الاتصالات - قرية كونية، فالظاهرة لا تنم عن تثاقف يضيف إلى ثقافتنا روافد من ثقافات الآخرين، بقدر ما تمثل نوعًا من الهزيمة أمام ثقافات وافدة - من الغرب بشكل خاص - تتبوأ مكان الثقافة المنتصرة - (بمقاييس الصناعة وما بعد الصناعة، والقوة المادية بكل ألوانها). ومن ثم نكون في هذا الموقف مجرد مستهلكين لهذه الثقافة الوافدة، بل لقشورها غير المفيدة، تمامًا كما نستهلك منتجات هذا الغرب المتقدم دون أن نفهمها أو حتى نشارك في صنعها!

          قد يقول البعض إن تداول هذه الألسنة الغربية عوضًا عن لساننا العربي يأتي كمقدمة للوثوب باتجاه محاكاة المنجز الغربي، لكن تجارب الأمم الشرقية، التي قطعت أشواطًا مرموقة من مثل هذا الإنجاز، تجزم أن التنازل عن اللغة الأم ليس أبدًا أول الطريق نحو بلوغ لغة العصر، والمشاركة في إنتاج أدواته، فاليابان التي تمثل فرس الرهان في تكنولوجيا الإلكترونات الأكثر تقدمًا لم تتخل عن لغتها الأم ولا تراثها الفكري لتكون رائدة في الحداثة التقنية، والصين التي تتقدم كعملاق منافس مستقبلي لأقوى قوة اقتصادية في العالم لم تتنازل عن لغتها أيضًا، بل نرى الصين من أكثر دول العالم ترجمة لثقافات الغرب في كل فنون المعرفة، وكوريا الجنوبية، كلهم حافظوا على لغاتهم القومية وحموها من التآكل، وعمّقوا هوياتهم، وطابع حياتهم المألوف، بل فرضوا على العالم كثيرًا من عاداتهم وملابسهم وأفكارهم، لدرجة أننا نشاهد الأزياء الهندية التقليدية، والحلي الهندية، وقد أصبحت محط أنظار بيوت الأزياء العالمية تقلّدها وتأخذ منها، ولم يثنهم هذا عن اللحاق بالغرب في إطار المنجزات العلمية والصناعية، بل إنهم لم يستبدلوا بلغة التعليم في مدارسهم وجامعاتهم لغات غربية تحت وهم اللحاق بعلوم الغرب المتقدم، فقد استحضروا هذه اللغات والعلوم وترجموها إلى لغاتهم، وأضافوا إليها من داخل لغاتهم الوطنية الأقرب إلى منظومتهم العقلية، والأكثر ألفة والأقرب إتاحة للفهم والاستيعاب الأعمق، بل يعملون بتخطيط ومثابرة لأن يضعوا لغاتهم القومية على خارطة لغات التكنولوجيا الحديثة، وإدخالها في مجتمع لغات العولمة الجديدة.

نقطة لا توجد في أي خط

          فهل نكون في رطانتنا السطحية بمسميات وكلمات من خارج لغتنا العربية إلا مجرد متشبهين بالغرب، مقهورين أمام ثقافة مهيمنة؟ وهل يستطيع المقهور أن ينجز؟

          عن هذه الأسئلة يجيب جلال آى أحمد بسخرية عمرها يقارب نصف القرن، لكنها لاتزال صالحة لإثارة الألم، لأن الجرح الشرقي لايزال مفتوحًا، وجرحنا علامة عليه، يقول: «الإنسان المتغرب إنسان قدمه في الهواء، ذرة من الغبار معلقة في الفضاء، تمامًا مثل قذى فوق سطح الماء، قطع علائقه مع عمق المجتمع والثقافة والتقاليد، لا علاقة له سلفية كانت أو تقدمية ولا خط فاصلاً بين القديم والجديد، هو شيء لا علاقة له مع الماضي ولا أي إدراك له عن المستقبل، نقطة لا توجد في أي خط، لكنه نقطة افتراضية على سطح صفحة في الفضاء، تلك الذرة المعلقة».

          قد يبدو كل هذا الوصف مبالغًا فيه، لكن حقيقة الظاهرة تشي بأن تلك الرطانات الفارغة بغير لغتنا العربية، ليست إلاّ رأس جبل الجليد العائم الذي لا يظهر منه إلا القليل على السطح، لكنه يخفي الكثير في الأعماق. فمتغرب اللسان مغترب في محيطه العربي قطعًا، من حيث أن اللغة عنوان للهوية، وإحدى أدوات تشكيلها، بل لعلها تكون الأداة الأهم في حال نادرة تمثلها اللغة العربية، التي هي لغة المعيش والمقدس معًا لملايين أبناء هذه الأمة. من هنا يكون التنازل عن اللغة الأم أخطر مما نتصور، فهو يقترب من حدود التنازل عن الهوية ذاتها، ويكون مدخلاً لافتقاد الانتماء. إن التهافت على الرطانة الغربية عرض من مرض وملامح المريض كما وصفها جلال آى أحمد منذ سنوات هي: «أنه سهل القياد، بلا جذور، لا قدم له ولا أساس في ماء هذه الأرض وطينها، وللسبب نفسه يطفو المتغرب على الموج، وليس ما تحت قدمه صلبًا، وللسبب نفسه لا يكون صاحب موقف واضح أبدًا، إنه لا يستطيع أن يأخذ موقفًا في مواجهة أي قضية أو أي مشكلة، إنه مطيع لكل أمواج الحادثات، لا يناقش أي شيء، ولا يصطدم بشيء، يعلم أن الريح تهب كل آن من صوب ما، ودون أن تكون في يده بوصلة، المتغرب لامبالٍ، هو إنسان التقاطي، يأكل خبزه بسعر زمنه،  يستوي لديه كل شيء».

          قد تبدو كل هذه الاستطرادات السابقة في وصف المتغرب مبالغًا فيها، لكن لو تعمّقنا قليلاً في نفسية من يبيع لغته، هويته، لأدركنا أن الإنسان المتغرب مع الغرق مزيدًا في تغرّبه، تكون عينه على  يد الغرب وفمه، ففي عالم أنانيته الصغير، لاشأن له بما يحدث في هذا الركن من الشرق.

          بالطبع هذه إحاطة بحال متطرفة من التغرّب، لكن مَن يستطيع أن يقطع بأن النار لا تكون من مستصغر الشرر! مَن يستطيع أن يصادر احتمال وصول هذا الحد الأدنى من التصاغر أمام اللغة الوافدة إلى بلوغ الحد الأقصى من التنازل عن الهوية؟

          قد يرى البعض أن في الأمر تهويلاً ومبالغة، لكن شذرات الحاضر المرتبك تجعل الخوف من هجوم المستقبل المشوّه مما لا يمكن استبعاده، ولو على مستوى «سيناريو» من سيناريوهات المستقبل واحتمالاته. وليس هذا الحديث حالة منفردة من القلق على المستقبل، فهناك مَن سبقوا بإعلان قلقهم، وهناك مَن حاولوا التصدي لهذه الموجات من التغرّب.

          إن القلق على المستقبل فيما وصلت إليه الحال، من ظاهرة التغرّب اللغوي، وعمليات الهدم المستمرة للغة العربية بلا وعي من أهلها، أو بتخطيط من أعدائها، أدى هذا القلق إلى أن تقف القيادات العربية الحاكمة، ولأول مرة، في اجتماع القمة التاسع عشر الذي عقد في مدينة الرياض في المملكة العربية السعودية، لتعلن عن قلقها هذا وتدق ناقوس الخطر الذي يواجه هوية الأمة وثقافتها ومستقبلها، وجاء في إعلان القمة ضرورة، «العمل الجاد على تحصين الهوية العربية ودعم مقوماتها ومرتكزاتها وترسيخ الانتماء إليها في قلوب الأطفال والناشئة والشباب وعقولهم، باعتبار أن العروبة ليست مفهومًا عرقيًا عنصريًا، بل هي هوية ثقافية موحدة، تلعب اللغة العربية دور المعبر عنها والحافظ لتراثها، يثريه التنوّع والتعدد والانفتاح والتقنية المتسارعة، دون الذوبان أو التفتت أو فقدان التمايز». هذا التأكيد من القمة العربية هو قمة القلق على ما وصلت إليه أحوال المجتمعات العربية، التي تعيش مرحلة القلق واللاتوازن، إثر ما مرت به هذه المجتمعات خلال العقود الأربعين الماضية من هزائم وانكسارات، تكاد تفقد الأجيال الجديدة ثقتها بنفسها وبثقافتها ولغتها وهويتها.

          إن الأمم الواثقة تعمل جاهدة على دعم لغتها وثقافتها ونشرها بكل الوسائل في أنحاء العالم كجزء أساس من قوتها وتأثيرها على شعوب العالم، ولنا في بريطانيا، وفرنسا مثالان يجب علينا أن نحذو حذوهما في نشر لغتيهما في العالم، ومدى تأثيرهما في مد النفوذ الاقتصادي والثقافي والعسكري لهما في أصقاع المعمورة، وكيف كان تأثيرهما في مجتمعاتنا الشرقية، ومدى تعلقنا بتلك اللغات والثقافات وإحساسنا الدائم بسيادتهما وتفوّقهما، وما قابله من إحساس بالدونية الثقافية أمامهما.

          فالخطط توضع والأموال ترصد، والعمل الدءوب لا ينقطع لنشر لغاتهم، وثقافتهم، ولاشك أن لغات الشعوب المهزومة دائمًا تتراجع وتنكمش أمام لغة وثقافة المنتصر والمستعمر، وهذه ظاهرة تاريخية، يجب ألا نبقى إلى الأبد أسرى هذا التفوق، والإحساس بالدونية، فلغتنا هي هويتنا وتراثنا ومعارفنا، والاستنهاض - كما نرى - قد طرقته القمة العربية الأخيرة، وهذا يستلزم العمل المنظم والتنسيق الواسع بين البلدان العربية كلها من أجل ألا نستمر في اغترابنا في أوطاننا وفي ثقافتنا.

          لقد حان الوقت لمعالجة التغرّب اللغوي الذي هو نوع من التفريط في خصائص الذات، وهو تفريط مجاني، ويتطلب معالجة، لكن المعالجة هذه حتى لا تكون بالإفراط، كما يفعل البعض كرد فعل على حمى المسميات الأجنبية في مجتمعاتنا، باللجوء إلى مسميات عربية للأماكن والفعاليات غائرة في القدم مما لا تستخدم اليوم، بل وأحيانًا كثيرة لا يفهمها الناس ولا يفقهون معناها. فلا هذا مطلوب أو مرغوب فيه، ولا اللجوء إلى المسميات الأجنبية للمحلات والبرامج والأنشطة أمر مقبول استمراره.

          إن التغريب الذي تعيشه بعض المجتمعات العربية، أو لنقل بعض شرائح في هذه المجتمعات، وخاصة تلك التي فهمت العولمة بأنها التشبه بالغرب وقبول كل ما فيها على علاتها، من غير ميزان يزنها ويطابقها على واقع حال هذه المجتمعات، فتأخذ منه ما يفيدها، وتطوع ما يمكن تطويعه، وتصد ما ليس فيه فائدة ترجى، وما قد يؤدي إلى تفكيك هذه المجتمعات وتدمير قيمها وأسسها الوطنية.

          فالحفاظ على الهوية والدفاع عنها، وفتح النوافذ لاستقبال التقدم الحضاري العالمي في الوقت نفسه، يتطلب من النظم الحاكمة والمؤسسات التعليمية والثقافية الرسمية والأهلية العمل على هذين المحورين في وقت واحد والتقريب بينهما تأسيسًا لبناء قاعدة صلبة تقوم على الحفاظ على الهوية، مع انفتاحها بثقة كاملة، على ثقافة العالم من حولنا، وبناء قدرتنا الذاتية للتعامل مع ثقافة العصر وتقدمه وعلومه دون خوف أو وجل من الجديد المنهمر علينا في كل لحظة، وهذا يتطلب التمكّن أولاً من هويتنا الثقافية، وفي مقدمتها لغتنا العربية، ونطوّر مرونة هذه اللغة لتستوعب مبتكرات العصر الحديث والثورة العلمية، نترجمها ونعرّبها ونبني عليها مبتكراتنا وإضافتنا عليها، وهو تمامًا ما قام به العرب المسلمون في بداية تأسيس دولتهم عندما تعاملوا بثقة مع ثقافات فارس وبيزنطة واليونان والهند، فترجموا ونهلوا من علوم تلك الحضارات ومنتجاتها ودمجوها في لغتهم وثقافتهم، ثم انطلقوا يضيفون عليها إلى أن أصبحوا هم صنّاع الحضارة الجديدة، وحاملي لوائها إلى كل أصقاع المعمورة في تلك الأزمان.

          لقد قامت محاولات في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين في بلاد الشام ومصر بشكل خاص لإدخال العالم العربي في عصر النهضة الأوربي، وهو الخارج لتوّه من عصور التخلف العثماني الطويلة، فُأدخِلت كثير من العلوم والمعارف الحديثة إلى العالم العربي، وتركزت هذه المعارف في مجالات العسكرية والزراعة والعمران، بل وفي أجزاء من التعليم، فأنشئت الجامعات الحديثة، والجيوش النظامية المتسلحة بالأسلحة الحديثة، وبدأت حركة ترجمة للعلوم الحديثة وفكر عصر النهضة الأوربي، لكن سرعان ما تصدّت لهذه المحاولات حركات وقوى محافظة، فعرقلت كثير من تلك المحاولات، وجاءت الحربان العالميتان الأولى والثانية لتقطعا الطريق على مسيرة هذه النهضة، بل وألحقت القوى الاستعمارية المنتصرة الهزيمة بهذه المحاولات وإعادة السيطرة  مرة أخرى على المجتمعات العربية والإسلامية، لكن بلغات جديدة، وثقافات أخرى غير العثمانية. والآن ليس أمامنا إلا أن نطوّر لغتنا ونطوّعها لاستيعاب مستجدات العلم والفكر والثقافة العالمية، مستخدمين كل وسائل الاتصال الحديثة وثورة المعلومات، وألا نفكر بأن نتجاوز لغتنا - هويتنا ظنّا منا بأن القفز عليها إلى التغريب سيؤدي بنا إلى النهضة، فتجارب شعوب العالم من حولنا تدل على أن مَن يرد أن ينهض، فعليه أن يعتمد على قواه الذاتية أولاً، ويطوّع إمكاناته الثقافية والمادية لكي يحصل على اعتراف الآخر به.

 

سليمان إبراهيم العسكري