الفرج بعد الشدة: نحو قمة عربية اقتصادية.. د. عدنان مصطفى

 الفرج بعد الشدة: نحو قمة عربية اقتصادية.. د. عدنان مصطفى
        

لا ريب في أن ذروة وَقْتِ المَقْتِ العربي قد تجسدت جَليةً عبر مطلع القرن الحالي. و لا غرابة في أن زمن المقت هذا قد جاء من قبلُ وصفه، والتحذير من عواقبه، في كتاب الله المجيد: حين قال الله عزَّ وَ جَلَّ: يَاْ أَيُّهَاْ الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُوْلُوْنَ مَاْ لا تَفْعَلُونْ * كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُوْلُوْا مَاْ لا تَفْعَلُوْن .

          شاهدنا على هذه الحقيقة اليوم كامنٌ في تأريخ البقاء والنماء العربيين خلال الربع الأخير من القرن العشرين الفارط. فمن يقرأ هذا التاريخ يقع عقله في «محيرة»: و المحيرة (paradox)، كما هو معلومٌ، هي حوار فكري لواقعٍ حياتي: إن بدأته بشكل صحيح ينتهي بك إلى نتيجة خاطئة، و العكس بالعكس.  فلقد بدأت محيرة العرب  الواقعية بخطط تنمية محليةٍ  - أنشاتها الأنظمة العربية القطرية الحاكمة - دأبت على «القول» للناس جميعًا، وبأشكال شتى، أنهم سيعيشون حياة هنية عبر تطبيق كل خطة ما، وتلك هي «بداية المحيرة الصحيحة». وبالرغم من تطبيق ما لا يقل عن سبع خطط خمسية متعاقبة في مختلف الأقطار العربية حتى الآن، لم يحصل الإنسان العربي إلا على النزر اليسير مما وعدته به حكوماته من المحيط إلى الخليج العربي، و تلك هي «نهاية المحيرة الخاطئة»: وبذلك تبدأ محيرة البقاء العربي بشكل افتراضي صحيح لتنتهي بشكل واقعي خاطيء. و من جهة أخرى، عندما سلم الشعب العربي للنظام العربي، دون قيدٍ أو شرط، أمانة قيادته نحو المستقبل، و هي بداية خاطئة دون ريب، لم يَدُرْ بِخَلَدِهِ أنهُ زرع الريح في أرضه، فكانت النتيجة أن حَصَدَ الشعب العربي لاحقاً تلك عواصف قاتلةٍ أودت بحريته وبنمائه، إن لم يكن كذلك ببقائه على نحوٍ عزيز، وهي النهاية الحقيقية القائمة التي نعيشها اليوم. من لا يتفق معنا في حدوث هذه المحيرة بوجهيها في عالم الواقع العربي، ربما يكون بعيداً عن وجودنا العربي المقيت، كقدومه مثلاً من كوكب الجبار في أقصى كوننا.

          وإن اتهمنا أحدهم بالتجبر في معارضته، نتمنى عليه العودة إلى كلّ التقويمات الوطنية المنشورة حتى اليوم، لتتكشف له عواقب المحيرة في اتجاهيها. وتمسكاً بالإنصاف في هذا الحوار، وبعيداً عن الدخول في تفاصيل معاناة الإنسان العربي في ظلامات: الجهل والفقر والمرض والتخلف والتجزئـة الوطنية والصراعات العرقية والمذهبية... إلخ، يمكن لنـا تبسيط بيان هذا الواقع الـمُـرّ من خـلال تبني «معيارٍ  دولي» ابتكره الاقتصادي الباكستاني محبوب الحق عام 1990 وقـام «برنامج الأمم المتحدة للتنمية ( United Nations Development Programme  ) لاحقاً بتبنيه عملياً عام 1993.

          والمعيار الذي نحن بصدد تطبيقه في هذا المقام هو ما يعرف اليوم بمؤشر النماء البشري ( Human Development Index: HDI )، الذي يمكن وصفه على أنه: «معيار شامل لتقويم العمر الوسطي للإنسان، ومعرفة القراءة والكتابة، ومقامه التعليمي، ونوعية حياته، وحسن بقائه المدني والاجتماعي، وآليات رعاية أبنائه من النواحي الصحية والتعليمية والاجتماعية..». والجدير بالذكر أنه تمَّ استخدام هذا المعيار كمؤشرٍ ومُحَدِدٍ لمقام حسن بقاء وتقدم نماءِ أي بلد في العالم، حيث يمكن من خلاله تمييز كون البلد متقدماً، أو نامياً، أو متخلفاً، إضافة إلى قياسه فعل السياسات الاقتصادية المستخدمة في هذا البلد أو ذاك على «نوعية حياة الإنسان: Quality of Life» فيه. وقـبـــل تبني حقائـــق الوجــود العربي الراهنة المتاحة في «مؤشر النماء البشري» هذا، يبدو من المناسب القول إنه عندما يحوز بلد ما لمؤشر نماءٍ قيمة تقاربُ ( الواحد: HDI=1.0)، فهذا يعني بلوغ شعبه المقام الأفضل للبقاء والنماء والازدهار الإنساني، كما هو الحال الذي يحوزه الشعب النرويجي اليوم (Norway HDI=0.965). ومع اقتراب قيمة مؤشر النماء البشري من الصفر، يتكشف حال بؤس الأمة الذي يعيشه أبناؤها، كما هو الحال لدى الشعب النيجيري حيث وصل مؤشر النماء عنده إلى (0.311)، و بذلك بلغت مرتبة النماء البشري في دولة النيجر أسفل سلم النماء العالمي، أي (177) مقابل المرتبة الأولى التي حازتها دولة النرويج. وباعتماد ما جاء في تقرير عام 2006 لمؤشر النماء البشري، نتبين جلياً نتاج شدة «المقت العربي» الذي أشرنا إليه بدايةً وذلك على النحو التالي:

          أولا: تتكشف جلية حقيقة المقام المتخصص لبقاء ونماء الشعب العربي من المحيط إلى الخليج العربي عمومًا، حيث تراوح مؤشر النماء العربي الوسطي ما بين  (0.53) و (0.68) ما بين عامي 1980 و 2004 على التوالي ( لاحظ المنحني الأخضر)، علمًا بأن العرب خلال هذه المرحلة دخلوا مرحلة ازدهار العمل العربي المشترك والتوسع في الإنتاج البترولي على الصعيدين المحلي والإقليمي العربي.

          ثانيًا:  وإضفاء على ما سبق من وصفٍ، نبين في الشكل المنشور تفاصيل مؤشر النماء البشري العربي في عام 2006، حيث نجد اليمن يحتل المرتبة 150 من سلم مؤشر النماء البشري العالمي، وذلك في حال بلوغ قبرص المرتبة 29 من السلم وهي لا تملك البترول وتبقى الكويت هي البلد العربي الوحيد المتميز في مؤشر نمائه البشري حيث بلغ المرتبة 33 من السلم وقيمته (0.871).

          ولابد من الإشارة في هذا المقام إلى أننا لسنا الوحيدين الذين يقولون الحق في هذا الشأن، وذلكَ عندما يعزون سيادة « المقت العربي «الراهن إلى: تقاعس الشعب العربي عن متابعة وحدة الوطن العربي الفعلية، و تخلي العديد من الأنظمة العربية عن الأخلاق العربية التي تعزز و تبني العمل العربي المشترك. ولا ريب في أن رئيس القمة العربية التاسعة عشرة (28 ـ 29 مارس 2007 الرياض، المملكة العربية السعودية)، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، قد تميز في التعبير عن إدراكه العميق لواقع المسببات الرئيسة لأقدار « المقت العربي»، التي تغشانا قائلاً: «منذ أكثر من ستين سنة أنشئت الجامعة العربية، لتكون نواة للوحدة العربية الحقيقية، وحدة الجيوش، ووحدة الاقتصاد، ووحدة الأهداف السياسية، وقبل ذلك كله وحدة القلوب والعقول.

          ولا شك أن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: ما الذي تحقق من ذلك كله؟ إن الجواب عن هذا يكشفه واقعنا الذي يؤكد أننا اليوم أبعد عن الوحدة من يوم أنشئت الجامعة . ومضى رئيس قمة الرياض متسائلاً عن مسببات وَهَنِ العزم الوحدوي العربي فقال: «ماذا فعلنا طيلة هذه السنين لحل كل ذلك؟. لا أريد أن ألقي اللوم على الجامعة العربية، فالجامعة كيان يعكس أوضاعنا التي يراها بدقة، إن اللوم الحقيقي يقع علينا نحن قادة الأمة العربية، فخلافاتنا الدائمة، ورفضنا الأخذ بأسباب الوحدة، كل هذا جعل الأمة تفقد الثقة في مصداقيتنا، وتفقد الأمل في يومها وغَدِها..». وإذ تميزت القمة العربية التاسعة عشرة ببدء توجهها بنجاح نحو تحقيق وحدة الصف العربي، فقد  جاءَ التميز الأكبر - حسب منظورنا الوحدوي التنموي العربي الخالص - عبر:

  • تقدم دولة الكويت من المؤتمر باقتراح عقد قمة عربية تخصص فقط للشؤون الطاقية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية بهدف بلورة برامج وآليات عملية لتعزيز وتفعيل الاستراتيجيات التنموية العربية الشاملة، ومتابعة الإصلاح والتحديث في الدول العربية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية الجوانب الاقتصادية والتنموية والاجتماعية بالنسبة لمفهوم الأمن العربي الشامل.
  • تقدم دولة اليمن بطلب وضع استراتيجية عربية خاصة بامتلاك الشعب العربي لإمكانات الصناعة الكهرونووية حتى عام 2020» ، وهو أمر - دأبنا خلال الربع الأخير من القرن العشرين الفارط وحتى اليوم - على تبريره ( انظر دعوتنا الشاملة في مجلة «العربي» العتيدة في مقال للرأي بعنوان: «من يخشى الرعب الكهرونووي؟» وذلك في العدد 425، أبريل 1994، وبحثنا بعنوان: «منظور الخَيار الكهرونووي العربي»، المنشور في مجلة «عالم الفكر» الكويتية العتيدة العدد 2، المجلد 29، أكتوبر/ديسمبر 2000، وبحثنا اللاحق بعنوان: « إشكالية وجود السلاح النووي في البيئة العربية»، المنشور في مجلة «المستقبل العربي» العتيدة، السنة 23، العدد 266، ابريل 2001).

          وإذ لا نعوِّلُ في الحقيقةِ كثيرًا على حدوث أي فتح يذكر نتيجة تسليم مفتاح باب الخروج الثاني من الشدة العربية ( أي طلب دولة اليمن المبين أعلاه) ليَدِ جهات عربية مشتركة لم تثبت بعدُ مقدرتها في مضمار إدارة الشأن الكهرونووي العربي المنظور، فإننا -  انطلاقًا من معرفتنا الوثيقة بمصداقية وجدية وعزم قادة الكويت بمختلف تخصصاتهم ومستوياتهم -  ننتظر أن يستخدم مفتاح باب الخروج الأول من الشدة العربية على نحوٍ وثيق، بل على نحوٍ يحقق الانطلاق نحو فجر مشرقٍ جديد للعمل العربي الوحدوي المشترك. إننا نعّولُ كثيرًا على فَلاح انعقاد «القمة العربية الاقتصادية» في الكويت، حيث نرجو الله أن يعمل الجميع بمنتهى الصفاء والعزم الخالصين على زوال «بلاء» المقت العربي، ذلك البلاء الذي قَدَّرَهُ لنا رب العزة حين قال جلت قدرته في وصفه: و لَنَبْلُوَنَكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَ الْجُوعِ، وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ و الأَنْفُسِ والْثَمَراتِ، و َ بَشِرِ الْصَابِرِينْ... ، وبناءً على ذلك، فإننا نتمنى على قمة الكويت العربية الاقتصادية أن تتقي الله فينا، وهي تنعقد في رحاب الكويت العتيدة، فتعمل بذلك على ختام صبرنا ببدء رفع شدة البلوى عن بقائنا العربي المرهص، و ما ذلك على الله بعزيز.

 

عدنان مصطفى   





 





واقع مؤشر النماء البشري في الوطن العربي 2006 ( مع مضاهاةٍ بأعلى سلم المؤشر الذي تحتله النرويج (1) وبأدناه الذي تقع فيه النيجر ( 177)