عمر بن أبي ربيعة (شاعر العدد)

 عمر بن أبي ربيعة (شاعر العدد)
        

وهل يخفى القمر؟!

          لا، لن يخفى ذلك القمر الشعري المنير، خاصة إن كان على شاكلة شاعر اسمه عمر بن أبي ربيعة بزغ في سماء الأدب العربي مستفردا بمعناه الأول عذوبة ورقة وطرافة وغزلا ذاتيًا، قبل أن يكون ذلك النوع المعتاد من الغزل الذكوري بالأنوثة.

          لقد أبى عمر بن أبي ربيعة إلا أن يأتي بما لم يأت به أوائل الشعراء الذين كانوا قد ساروا على درب شعرية معتادة في معانيها ومقاصدها العامة ، تبدأ بالغزل  وتنتهي بغرضها الأول مدحا أم هجاء أم فخرًا أم وصفًا، أما هو فقد بدأ بالغزل لينتهي اليه غرضا أولاً وأخيرًا. فكان الأول في طريق  لم تجتذب سوى أولئك المؤمنين بروحه النزق نحو المرأة لا باعتبارها شريكة في قضية الهوى ، بل هدفا لابد من الإيقاع به، حيث ينبغي ذلك دون هم أو غم أو ألم، بل وفقا لنظريات الهوى اللاهي والعشق المترف المؤطر بأنغام الموسيقى الراقصة غالبا.

          إنه أبو الخطاب عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي القرشي، المولود  سنة 23 هـ / 643م يتيم الأب، وحيدًا لأم أغدقت عليه من الدلال ما يليق بحجم ثراء عائلته ورفعة نسبه، فنشأ  ذلك الشاب الثري الوسيم مفرطًا في اللهو، ومتباهيًا بموهبة الشعر في مجتمع نبلاء مكة الذي كان يعج بالجواري الجميلات المتهاديات على وقع الموسيقى وتفانين الغناء الحجازي. فما لبث هذا الشاعر الثري حتى جعل من شعره مقصد الطرب وموضع الألحان التي كان يستدرج صناعها، عبر جوائزه المالية،  نحو صناعتها على هدي من أوزانه وقوافيه، فسالت وديان مكة بالأغاني والأصوات المتكئة على قصائده، وسارت بين أروقتها حكاياته مع النساء المنتميات لمختلف طبقات المدينة المترفة آنذاك. فلم يمنعه نسبه القرشي ومحتده النبيل من التغزل بالجواري اللاهيات فتنة وشبابًا، ولا بسيداتهن المترفات غنجًا ودلالاً، وكان العامل المشترك الأول بين سيدات المجتمع المكي وجواريه لدى ابن أبي ربيعة، أنهن نساء جميلات، يلقن بالغزل ويليق بهن، بمعزل عن انتمائهن الاجتماعي.

          إنه الشاعر الذي أجمع على شعريته، الخارجة عن نطاق الطبقات، التي كانت تتخذ معيارًا لمستوى الشاعر في زمنه، شاعران متناقضان للدرجة التي جلعت منهما رمزًا دائمًا لفن النقائض، ونعني بهما جرير والفرزدق ، فقد قال الأول عنه: «ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر»، أما الآخر،  فقال وصًفا لقصيدة لابن أبي ربيعة «هذا الذي كانت الشعراء تطلبه، فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه» وعلى هامش من الرأي المتوافق للشاعرين غير المتوافقين سئل حماد الراوية، باعتباره أحد أشهر نقاد ذلك العصر الذي انتمى إليه الشعراء الثلاثة، عن شعره فقال: «ذاك الفستق المقشر».

          ولـ «الفستق المقشر» لدى عمر بن أبي ربيعة مدرسة صار رائدها الأول، في وقت لم يكن الشاعر فيه قادرًا على تجاوز مألوف الشعر إلى نوابغ أهله إلا عبر التجويد في أبوابه التقليدية  فمدح وهجا وافتخر ورثى. أما أن يقصر شعره كله على باب المرأة وصدى معانيها في مرآة ذاته، وعلى ذاته وصدى معانيها في مرآة المرأة، فهذا هو الجديد الذي بنى عبره شاعر قريش الأول، كما نظر إليه كثيرون،  مجده الشعري ومعنى وجوده الإنساني في معظمه. وله في ذلك من القصص ما امتلأت به كثير من الكتب، واحتفى به كثير من المؤرخين والمؤلفين مأخوذين بفرادة الشاعر المحلق خارج السرب كله بأجنحة من هوى وقصيد.

          ولعل قراءة نفسية سريعة لديوان شاعرنا تكشف لنا عن خبرة عميقة في النفسية النسوية بشكل عام  تميز بها الشاعر، ووظفها التوظيف الأمثل في شعره، فبالرغم من عنايته بأوصافها الخارجية، كما فعل غيره من شعراء العرب، غاص ابن أبي ربيعة في دواخلها فأتى بكثير جديد مما لم يرد في أشعار من سبقه ومن لحقه أيضا.

          وبالرغم من أن شاعر المرأة الأول، كما يحلو للبعض أن يسميه، كان موكلاً بالجمال يتبعه حيث ذكر حتى في الحرم المكي، كما تقول الكثير من الروايات التي أسهبت في  توصيف حكاياته معهن في أجواء فريضة الحج تحديدًا، فإن ذلك لم يشغله عن النظر إلى المرأة، حيث جعل من نفسه موضوعًا شعريًا ممتزجًا بموضوعه الأثير، فكان والمرأة مزيجًا من الغزل المتبادل بينهما على لسانه عبر حواريات شعرية تميزت بطرافة غير معتادة في النسيب العربي التقليدي. ولعل في الحوارية النسوية بامتياز، التي نقلها لنا الشاعر في واحدة من قصائده الشهيرة صورة لشعرية ابن أبي ربيعة الغزلية بطبيعتها المزدوجة، فيقول:

بينما ينعــتنني أبــصرنني دون قيد الميل يعـدو بي الأغر
قالت الكبرى: أتـعرفن الفـتى؟ قالت الوسطى: نعم.. هذا عـمر
قالت الصغـرى، وقد تيمتـها: قد عرفناه.. وهل يخفـى القمر؟


          ولأن القمر يظل لا يخفى أبدًا، فها نحن ننظر إليه ونستمتع بجمالياته الخالدة عبر مختارات انتقيناها لهذا العدد من ديوانه الذي قصره على الغزل لولا بعض الأبيات المتفرقة في الفخر والوصف، والتي ربما قالها عندما تقدمت به السن وانقطع إلى حياة التوبة والنسك  قبل أن يتوفاه الله  سنة  93 هـ / 711م).

 

سعدية مفرح