التلصص تأليف: صنع الله إبراهيم

التلصص تأليف: صنع الله إبراهيم
        

من رحم المناخ العاصف خرج إلى النور ذلك الصبي بطل رواية «التلصص» للأديب الكبير «صنع الله إبراهيم» الذي استفاق على أحداث ووقائع نهاية النصف الأول من الأربعينيات.

          كان المواطن العربي آنذاك يدفع فاتورة باهظة على كافة الصعد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا...؛ فمن وقائع الحرب الكونية الثانية والتي دار جانب حاسم منها على الأراضي المصرية التي لم يكن لها ناقة ولا جمل في هذه الحرب الضروس بما ترتب عليه من نتائج أقل ما توصف به أنها كارثية بالإضافة للهجرات اليهودية إلى فلسطين التي انتهت بنكبة 1948 إلى حياة سياسية أفسدتها صراعات الأحزاب والجماعات والسراي والمصالح الخاصة؛ إلى واقع اجتماعي مرير يحياه المواطن العادي إلى الحد الذي جعل أكبر الأحزاب وأكثرها شعبية آنذاك «حزب الوفد» يضع على أجندته فيما بعد مشروعه القومي لمكافحة الحفاء!!!؛ وهذا الواقع الاجتماعي ذو الدلالات الراسخة يعكس بطبيعة الحال وضعا اقتصاديا جائرا فيما يخص الأغلبية الساحقة.

          كان تلصص بطلنا الصبي على هذا الواقع المعيش يعكس رؤية تجسد بداية استيقاظ الوعي وتتميز بمسحة فيها الكثير من براءة الطفولة وصدقها، وبما تحمله أيضا من إحاطة بتفاصيل دقيقة (تؤكد مقولة أن الإنسان في مثل هذه السن يكون كله آذانًا وعيونًا).

          هو يعيش مع والده المزواج الذي تخطى الستين بسنوات والذي كان قبل خروجه إلى المعاش يعمل في وظيفة إدارية بوزارة الحربية كانت توفر له حياة كريمة وطوافا بالبلدان يسمح له بترف بعض النزوات والمغامرات الصغيرة فضلا عن الانتقال بيسر بين الزيجات بيد أن الوضع يتغير جوهريا بخروج الأب إلى المعاش الذي يواكب فترة عصيبة من تاريخ مصر. فتتبدل أحواله من بحبوحة إلى فقر ومن قوة إلى ضعف، لكن الرجل لا يستسلم بسهولة محاولا التمسك بأهداب الحياة، إلا أن معاناته من الحالة الاقتصادية وتقدم العمر تتعاظم بسبب رعايته لهذا الصبي الذي توضح الأحداث أنه رزق به على كبر ومن ثم يصبح القيام على شئونه عبئًا خاصة أن الأم غابت إلى أجل غير مسمى في غياهب مستشفى الأمراض العقلية، وعلى الرغم من تبرم وضيق كل منهما بالآخر أحيانا فإنهما لا يستطيعان أن يفترقا بل يزدادا التصاقا ببعضهما حين ترفع جدة الصبي لأمه دعوى لضم الصبي إلى حضانتها.. لتستمر الأحداث الكاشفة.

نافذة سحرية

          كان ثقب المفتاح والأبواب «المواربة» هي النافذة السحرية التي تكشف المستور من الوقائع والملابسات لهذا الفتى الذي يحمل فضول هذه المرحلة من العمر بالإضافة إلى وحدته القصرية التي زادته فضولا على فضول، ومن خلاله نلج إلى قلب الحدثين العام والخاص والثاني بطبيعة الحال يحمل أصداء الأول وتداعياته التي يمكن وصفهما بتداعيات الأزمة التي تحمل الكثير من السمات الصريحة التي تستدعي مقولات مثل «ما أشبه الليلة بالبارحة» و«أن التاريخ كثيرا ما يكرر نفسه».. إلخ؛ فها نحن نرى فساد الحياة السياسية عندما يتسلط على السلطة أصحاب الثروة باستيلائهم على المناصب السياسية العليا، لتنحرف أحزاب شعبية وكبرى مثل «الوفد» عن مسارها وتبتعد كثيرا عن الشعب الذي أيدها وأتى بها إلى سدة الحكم ذات يوم؛ لتنشأ انشقاقات وصراعات داخل الحزب الواحد لا تلبث أن تمتد إلى الأحزاب والقوى الأخرى الموجودة على الساحة، فضلا عن الصراع الأصلي القائم مع المستعمر الإنجليزي وعلاقات الشد والجذب مع السراي، يموج الشارع المصري المشاحنات والصراع.. حركة «الإخوان المسلمين» تمارس التصفية والتفجيرات ضد من تتصورهم خصومها أو خصوم الوطن والدين لا فرق فمن قتل «الخازندار بك» إلى تفجير محال «اليهود» إلخ؛ ولا تلبث قوى وطنية أخرى على الساحة إلا أن تثبت جدارتها هي الأخرى بالدفاع عن الوطن ضد من تتصورهم خصومًا فتمارس أعمال القتل فمن اغتيال «أمين عثمان»، الذي تحمل تعليقات شخوص الرواية رأيا ما ولو تلميحا في قتلته وعلى رأسهم «أنور السادات» وهي تبطن استشرافا؛ إلى الحديث حول ما تردد عن الخيانات والأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين؛ وليس انتهاء بالملك الذي ارتدى الملابس العسكرية ونظارة الشمس الأنيقة ووصفته الصحف والمجلات بالفدائي الأول !! ومعه أميرات العائلة المالكة اللائي ارتدين الملابس العسكرية أيضا ووضعن على أكتافهن رتبا عسكرية رفيعة وهن يمارسن أعمال التمريض.

هل هي سيرة ذاتية؟

          كان اهتمام «صنع الله» فائقا بتسجيل اختلاف الرؤى وتفاصيل دقيقة قد لا تسترعي الانتباه في الحياة العامة والخاصة إلى حد ظن البعض أن الرواية سيرة ذاتية عكست صورة دقيقة للحياة في تلك العقود، فأنت تجد على سبيل المثال د. مندور المحامي أحد شخصيات الرواية يكتب في «الوفد المصري» أن أخبار اليوم صحيفة صفراء أو نشرة بريطانية خرجت خصيصا لمناصرة الملك ضد الوفد حزب الشعب والأغلبية وتصفه بالملك الصالح والعامل الأول والتقي الأول..؛ معاناة المتقاعدين يوم «قبض» المعاش، والبسطاء عند أبواب المحاكم مع «العرضحالجية»..، البطيخ الذي يبرد داخل «صواني القلل» في نوافذ البيوت..، بائعو العرقسوس..، «سرجة» صناعة وبيع العسل والطحينة، ليالي رمضان والعيد وتفاصيل الاحتفالات وألوان الطعام..، نظافة البيوت والأجساد ومعاناتها..، والخوف من «الكنيف» وظلمته الذي برز كوصف سلبي لعوالم غيبية مخيفة وللقذارة في آن واحد في الجانب الضد من عوالم الغيب الإيجابية المتمثلة في الملائكة والجن الطيب وأسرار الأسماء الحسنى والسبحة الألفية.

          لم تخل «رواية تلصص» لصنع الله إبراهيم من جانب إيروتيكيا «بتصرف» شكل أحد المحاور المهمة التي قام عليها البناء من خلال مجموعة علاقات مضطربة ومتشابكة لمعظم شخوص الرواية، أن الخيط الحقيقي الذي يشدها إلى بعضها بعضا هو الأزمة الممزوجة بالخوف من الحاضر والمستقبل التي كرست لها بقوة الحرب المستعمرة الدائرة في واقع مفعم بالتردي والفساد؛ فمن الأب المزواج الذي مازال يبحث عن علاقة تمنحه سكنا للنفس قبل الجسد.. سواء كانت تلك العلاقة شرعية أو غير ذلك..، إلى «تحية» عشيقة كريم «الكونستابل» أو زوجته. فنظرة الصبي البريئة تحيلك إلى رؤى ملتبسة فهو يصفها بماما تحية «زوجة عمو كريم» إلا أن الوقائع والملابسات المحيطة بها تجعل الأمر يبدو غير ذلك؛ ثم ننتقل معه إلى علاقة أخته «نبيلة» بزوجها الذي تنتكس علاقته بها على الرغم من مطاردته المستمرة للخادمات؛ والعالم السري لصديق أبيه «على صفا» الذي وصفه الأب ذات يوم أنه «بيبوظ العيال»..؛ فضلا عن علاقات أخرى تكشف كيف يصير الجنس ملاذا في أزمنة الحروب والأزمات.. ولعل أكثر هذه العلاقات طرافة هي زواج «ماجد أفندي» صديق أبيه من «جنية» تدعى «زراكش» تصحبه معها أحيانا إلى عالم «الجن» الغريب والمخيف..؛ وقد وظف «صنع الله إبراهيم» تلك الحكاية الطريفة بحرفية واقتدار موثقا لازدهار الخرافة والفكر الغيبي في أزمنة التردي «لاحظ عزيزي القارئ ما يحدث الآن في عدة قنوات فضائية على سبيل المثال لا الحصر».

إسقاط الأقنعة

          وفي خط مواز يصحبنا ذلك الصبي إلى ذلك العالم الغيبي من خلال كتاب شمس المعارف وأسرار وخصائص الأسماء الحسنى... إلخ، التي يستعملها ذلك الصبي في لحظة كاشفة تعادل «الماسترسين» «Master scene» في عالم الدراما السينمائية لتسقط الأقنعة أو بالأحرى الغشاوة التي تحمل براءة الطفولة لينكشف الغطاء عن عالم أشد قسوة ومرارة ولعلها كانت قفزة هائلة ما بين العالم المتخيل وعالم الواقع... فلم تفلح التعاويز الغيبية في إخفاء الصبي المتلصص وهو يحاول إدراك حقيقة العلاقة بين الأب والخادمة الريفية لتحدث المواجهة بين الابن والأب لتكون بمنزلة انتقال كل منهما من ضفة إلى أخرى تحت وطأة هول الصدمة وقسوتها ولم تكن رحلة الوعي والإدراك لدى كليهما بأقل صعوبة على نفس كل منهما, ليستفيق الاثنان على واقع جديد ربما لا يكون أفضل لكنه الواقع الذي تنتهي إليه رحلة الوعي والإدراك التي يمر بها الإنسان ربما مئات المرات ولا تنتهي إلا بالنهاية المحتومة لكل حي.

          لا أميل كثيرا إلى استخدام مصطلح الرواية الوثائقية الذي يحلو للبعض استخدامه مع صنع الله إبراهيم على الدوام إلا بتصرف، فالكثير من الأعمال التي ترصد وتسجل الوقائع في حقبة ما ومكان ما على ظهر هذا الكوكب يمكن أن ينسحب عليها هذا الوصف، «القاهرة 30» لأديب العرب الكبير «نجيب محفوظ».. والحرافيش والثلاثية على سبيل المثال لا الحصر «الشارع الجديد» للأستاذ «عبدالحميد جوده السحار»... وغيرهم الكثير، رصدوا بأمانة ودقة الأحداث والمتغيرات من خلال أعمالهم الخالدة، ربما لأن المصطلح ذاته يتماس مع التوثيق العلمي الجامد الأكاديمي؛ وربما أيضا يتماس مع التأريخ بصرامته، فيجرد الرواية من بعدها الإنساني الحميم والفني أيضا.

          انظر مثلا إلى تلك الدقائق المفعمة بالمشاعر عند زيارة الصبي مع أبيه «خليل بك» «لطنط زينب» ابنة خال أبيه والتي كانت مخطوبة لأبيه ذات يوم ثم تركها «خليل بك» ليتزوج من زوجته الأولى أم أخته «نبيلة» فبقيت دون زواج حتى أدركتها الشيخوخة وهي مازالت تعيش مع أخيها الغائب الحاضر «كان نائما ولم يستيقظ» لم نره في تفاصيل الحدث بقوة كما رأينا الخادمة السوداء «زهرة» التي كانت ملكا لأهل «طنط زينب» وعندما ألغى «الخديو إسماعيل» الرق لم تعرف إلى أين تذهب فبقيت في خدمتهم كسابق عهدها هي وآباؤها, ها هو المشهد الروائي يرصد ويسجل لنا واقعة تاريخية كإلغاء «الخديو إسماعيل» للرق بمرسوم أو قانون, لكن واقع الحال يشي بغير ذلك بقيت «زهرة» في أسر الرق بإرادتها؛ صحيح أن الأحداث تبين أنها تحيا كواحدة من أهل البيت لكنها تبقى في المنزلة الأدنى مسلوبة الإرادة بقرارها الشخصي - الأمر الذي يترتب عليه تغير ظروفها إذا توفي سادتها الطيبيون مثلا وانتقالها إلى أقارب آخرين قد لا يكنون لها ما يكنه سادتها القدامى، وهو أمر ويا للعجب مازال مستمرا في أقصى صعيد مصر على سبيل المثال لا الحصر مع نسل هؤلاء الرقيق في مناطق بعينها.. صحيح أنها حالة أصبحت نادرة وتنقرض شيئا فشيئا، إلا أن «الرصد المؤنسن» إن جاز التعبير من خلال الأعمال الإبداعية هو الذي يقدم لنا صورة مغايرة لا يوفرها التوثيق الأكاديمي الذي يخلو من بعد فني إبداعي يجعل المشاعر جزءًا أصيلاً من الحدث.

تقنية الرواية

          كان أبرز الأسباب التي جعلت من «التلصص» رواية دينامية تتضوع شجنا هو استخدام «صنع الله إبراهيم» تكنيك كتابة السيناريو السينمائي الذي وظفه بحرفية عالية لصياغة أحداث الرواية التي تحولت إلى مشاهد سينمائية بكل ما تعنيه الكلمة فنجده يوظف تقنية الفلاش باك «Flash Back» بصور متعددة فتارة يوقف الحدث كأنما «يثبت الكادر السينمائي» في المضارع ليسافر إلى الماضي بالطريقة المعتادة في السينما..، وتارة أخرى يستأنف الحدث الآني من خلال المزج على طريقة السينما «Dissolve» بينه وبين الماضي لنجده يتنقل برشاقة مذهلة بين هذا وذاك وكأنهما حدث واحد الأمر الذي يتطلب إدراكا ووعيا في التلقي يحفز قدرات طالما اعتمدت على الاستسهال حتى باتت تهديدا حقيقيا لوعي المتلقي.

          أربعة فصول شكلت متن «التلصص» تلك الرواية التي استأنف فيها «صنع الله إبراهيم» رحلته في الرصد والتدقيق والعناية بالتفاصيل من خلال أحداث الرواية التي تأثر فيها الخاص بالعام صاغها هذه المرة من خلال أحداث أو «مشاهد درامية» لم تخل من كوميديا سوداء وخفة ظل جادة، مفردات وتفاصيل تصل إلى حد الصدمة أحيانا..، تستدعي إلى ذاكرة المتلقي عناية بالتفاصيل الخاصة كرجع صدى الوقائع الكبرى الحبلى بالأحداث المعلن منها والسري عرفناها مع صنع الله إبراهيم في «تلك الرائحة «شرف» و«بيروت بيروت» و«وردة» و«أمريكانلي» أو «أمري كان لي» وغيرها من رواياته وقصصه التي حملت ما يمكن اعتباره شهادة على العصر إلى حد بعيد، فأنت تتعرف على أحداث وقعت بالفعل ورأى الكاتب فيها على لسان أبطال قصصه ورواياته التي رصدت تحولات لعصور ترتب عليها متغيرات كبرى طرأت على البلدان والأشخاص رؤى مختلفة تحمل أكثر من وجهة نظر فنحن نشهد في روايته «بيروت بيروت» تحولات لم تنته تداعياتها حتى اليوم، تتشابه في ذلك مع روايته الأخيرة «التلصص» وتختلف إلى حد ما عن «روايته» «وردة» التي رصدت بدقة تحولات في «اليمن» وعمان ومنطقة الخليج يمكن أن يقال باستقرار تداعيات الحدث إلى حد بعيد لحين إشعار آخر.

          تنتهي أحداث رواية «التلصص» بالتأكيد على جانب إنساني بالغ الرهافة، فبغياب الأم خلف أسور مستشفى الأمراض العقلية «كمعادل موضوعي» للعالم الآخر، لا يبقى للابن والأب سوى احتياج كل منهما للآخر احتياجا ملحا وأبديا بالرغم من التحولات التي صاحبت شروخا ووعيا وإدراكا جديدين للحقائق لدى كل منهما، احتياج لا يدركه أو يشعره كما ينبغي إلا من فقد الأب أو الابن أو الاثنين معا، وهو ما يتوج الرؤيا الثاقبة لروائي يمتلك شجاعة مواجهة النفس قبل الناس بما يؤمن، شجاعة تفوق بكثير رفض الجوائز الأدبية والمادية التي يفترض أنها رفيعة لكنها تحت أي ظرف لا ترتفع أبدا فوق المشاعر الصادقة.

صَدر الحَبيبُ فَهاجَني صَدرُه إِنّي كَذاكَ تَشوقُني ذِكرُه
إِن المُحِـبَّ إِذا تَخالَجَهُ شَوقٌ كَذاك الهَم يَحتَضِرُه
وَنَظَرت نَظرَةَ عاشِقٍ دَنِفٍ بادي الصَبابَة عازِمٍ نَظَرُه
فَرَأَيتُ رِئماً في مَجاسِدِها وَسط الحَدائِق مُشرِقاً بشرُه
أَقبَلتُ أَطمَع أَن أَزورَهُمُ إِنّي قَديم الشَوق مُنتَشِرُه
فَلَقَيتُهـا وَالعَينُ آمِنَةٌ وَاللَيلُ داجٍ مُسفِـرٌ قَمَرُه
في مَوكِبٍ لاق الجَمالُ بِه كَالغَيث لاط بِنَبتِهِ زَهَرُه


عمر بن أبي ربيعة

 

خالد سليمان