«شوقية» نادي الموسيقى الشرقي

شوقية» نادي الموسيقى الشرقي
        

في افتتاح مؤتمر الموسيقى الأول الذي شهدته القاهرة عام 1933. لم يكن حضور عشرات الفنانين هو الحدث الاكبر فقط، ولكن أيضا تلك القصيدة العصماء التي ألقاها أمير الشعراء أحمد شوقي.

          تتبعت تاريخ إنشاء معهد الموسيقى العربية بعد حضوري حفل الافتتاح للمؤتمر الذي انعقد بمناسبة مرور خمسة وسبعين عامًا على مؤتمر الموسيقى العربية في سنة 1932. وكان هذا المؤتمر الأول قد انعقد بعد ثلاث سنوات من افتتاح معهد الموسيقى العربية (الذي كان اسمه في ذلك الوقت: نادي الموسيقى الشرقي) سنة 1929، على يدي الملك فؤاد الأول الذي كان قد وضع حجر الأساس سنة 1923، متوجًا بذلك جهد جماعة من عشاق الموسيقى الشرقية،ظلت تعمل منذ سنة 1911، ولا تكف عن السعي لرفعة شأن الموسيقى العربية إلى أن تكلل جهوده بالنجاح، فنجحت في أن تحصل من الحكومة على قطعة أرض، تطل على شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا) بإيجار رمزي لمدة خمسين عامًا. وانتقلت الحماسة من الحكومة إلى مليكها الذي وضع حجر الأساس للنادي الشرقي سنة 1923، وظل يرعى استكمال بنائه إلى أن اكتمل البناء، وتولى افتتاح النادي سنة 1929.

          وكان هذا الافتتاح، وقبله وضع حجر الأساس، ثمرة تاريخ جميل من العمل التطوعي الحماسي لخدمة الموسيقى العربية، والحرص على تأكيد أصالتها، والحفاظ على هويتها من الضياع في دوامات محاكاة الموسيقى الغربية التي أخذت في الشيوع والانتشار. وكانت البداية سنة 1911 عندما التف عدد من عشاق الموسيقى العربية حول صديق لهم، هو مصطفى رضا بك، في إحدى حجرات قصره الذي تعوّد أن يدعو إليه أحبابه من الذين يجمع ما بينهم عشق الموسيقى العربية، والاستمتاع بها، والعمل على صيانتها وتطويرها. ولم يستمر لقاء المجموعة في قصر محمد رضا طويلاً، إذ توفيت إحدى قريباته، فتوقفت اللقاءات حدادًا على القريبة. وانتقلت المجموعة إلى منزل الشيخ أبو العلا محمد، واستمرت اللقاءات، مع البحث عن مكان أكثر صلاحية. وفي تلك الأثناء، استطاعت المجموعة أن تستأجر من شركة جرامفون، في مبنى جريدة المؤيد، غرفة سمح لهم مدير الشركة باستغلالها مجانًا، حين لا تكون الشركة في غير حاجة إليها.

          وكانت هذه الغرفة بداية الانطلاق نحو الاطراد والتوسع، وذلك برئاسة مصطفى رضا بك الذي بدأ حبه للموسيقى بدراسة العود على يدي أحمد الليثي، وانتقل من العود إلى آلة القانون التي تعلم العزف عليها من الشيخ محمد إبراهيم، ثم محمد العقاد. وسرعان ما أعدت حماسة مصطفى رضا أقرانه، فقرروا إنشاء جمعية أهلية بعنوان «نادي الموسيقى الشرقية» سنة 1914 بهدف النهوض بالفن وميراث من الأغاني، واكتشاف المواهب الجديدة وصقلها وتثقيفها، وتدريس نظريات الموسيقى وضم النادي، عند إعلانه عددًا من المتحمسين الذي انتخبوا مصطفى رضا رئيسًا، ومحمود حامد مساعدًا، ونجيب ماضي مديرًا، ومحمد عمران سكرتيرًا عامًا، وحسن مراد الملا سكرتيرًا تنفيذيًا، وحسن نور مسئولاً عن الشئون المالية، بالإضافة إلى أحمد صادق، وعبدالخالق عواد، وجعفر علي، والشيخ محمد عبدالمطلب الشاعر، ومحمد زكي سري، ومحمد حمد، أعضاء في المجلس. وكان مؤسسو النادي قد استأجروا مقرًا جديدًا في شارع محمد علي، تناسب وعددهم المحدود، وانتقلوا منه فيما يبدو إلى مقر أكثر تجهيزًا في شارع البوسطة القديمة بالعتبة. وأخذت الأصوات والأنغام تتجاوب في المقر الجديد: إبراهيم عثمان وإبراهيم حسن وعزيز عثمان الذين صحبوا مصطفى رضا في العزف على القانون، وحسن الملا على العود، ومصطفى معتز على الكمان، مع  مصطفى العقاد الذي تولى ضبط الإيقاع. وتوالت الأمسيات على نحو جذب الحضور الذي فرح بالنادي الوليد.

          وكان من الطبيعي أن يتأثر النادي بثورة 1919، ويُسهم فيها، فيفتح أبوابه للفنانين الشبان والمؤدين الذين انطووا على الحماس للثورة، وتحول النادي إلى ملتقى لتجمع الوطنيين من الشعراء والكُتّاب الأحرار الذين خاضوا معركتهم ضد الاحتلال بالكلمة والنغمة، فأشعلوا خيال المتلقين، خصوصًا أنهم كانوا ينزلون إلى الطرقات، منشدين القصائد الوطنية، مترنمين بما استمعوا إليه في النادي. وكان ذلك في السياق الذي أبرزت فيه الثورة مواهب جديدة، ضمت داود حسني وسيد درويش وزكريا أحمد. وتحسنت أوضاع النادي المالية بمعاونة من وزارة المعارف وتبرعات محبي النغم الأصيل، فتمكن من دعم الفنانين في إبداع ما هو جديد، على نحو ما فعل النادي مع زكريا أحمد في أول أوبريت قام بتلحينه. وتصاعدت حماسة مجلس الإدارة نتيجة النجاح المتزايد، فقرروا التخطيط للمستقبل على مستوى أكبر، فانتهوا إلى ضرورة تأسيس أكاديمية للموسيقى، تكون الأولى من نوعها في الشرق الأوسط.

بناء أول معهد للموسيقى

          واستجابت الحكومة إلى الحماسة التي ازدادت قوة بتشرب روح ثورة 1919 التي أججت رغبة التجديد والثورة على الجمود معًا. وأخذ المؤسسون يدعون المعماريين البارزين إلى تصميم مبنى على الطراز الإسلامي، يكون بعمارته رمزًا لرغبة الحفاظ على التراث الذي يؤكد الهوية، والأصالة التي لا يمكن أن تتشوه بالمعاصرة.

          وجاوزت الحماسة مجلس الإدارة إلى الحكومة، ومنها إلى الملك فؤاد الذي أعلن رضاه السامي عن المشروع، ووضع حجر الأساس له، سنة 1923، وتولى افتتاحه سنة 1929، بعد أن كانت الموسيقى العربية قد وصلت إلى مفترق طريقين: الطريق القديم المحافظ على التقاليد الموروثة وكان ممثلاً في عبده الحامولي، وطريق التجديد الذي قاده شباب من مثل محمد عبدالوهاب أفندي. وجاءت اللحظة الحاسمة عندما افتتح الملك فؤاد المبنى الجديد للنادي الشرقي، في حفل بهيج، ألقى فيه الشاعر أحمد شوقي قصيدة من قصائده، يعبّر بها عن حبه للموسيقى والغناء من ناحية، ويُسهم بها في الارتقاء بالذوق الموسيقي من ناحية موازية. ونجد القصيدة في باب «الخديويات» من الشوقيات (تحقيق وتبويب وضبط وتعليق علي عبدالمنعم عبدالحميد). وتبدأ القصيدة (وعنوانها نادي الموسيقى الشرقيّ) بتوجيه خطابها إلى الملك فؤاد الذي افتتح المبنى على النحو التالي:

خطّت يداكَ الروضة الغناءَ وفَرَغْتَ من صَرحِ الفنونِ بناءَ
مازلتَ تذهبَ في السُّموِّ بركنه حتى تجاوز ركنُه الجوزاءَ
دارٌ من الفنًِّ الجميلِ تقسَّمتْ للساهرينَ روايةً ورواءَ
كالرَّوضِ تحتَ الطير أعجبَ أيْكه لحْظَ العيونِ، وأعجَبَ الإصغاءَ
ولقد نزلتَ بها،فلم نرَ قبلَهَا فَلَكا جلا شمسَ النهار عشاءَ
وتوهجتْ حتى تقلّب في السَّنا (وادي الملوك) حجارةً وفضاء
فتلفتُوا يتهامسون: لعلّه فجرُ الحضارةِ في البلاد أضاءَ
تلكَ المعازفُ في طلولِ بنائهم أكثرنَ نحو بنائكَ الإيماءَ
وتمايلتْ عيدانُهنَّ تحيّةً وَتَرنمتْ أوتارُهنَّ ثناءَ


          والمطلع يجعل من المبنى الجميل مفخرة من مفاخر فؤاد، فهو روضته الغناء والصرح الذي أقامه للفنون، مرتفعًا إلى عنان السماء، فهو دار للفن الجميل تجمع ما بين المظهر والمخبر، فتحكي حكاية الحسن الذي يدين للملك الذي يكشف عنه، خصوصًا حين تضاهي عظمة المبنى عظمة الآثار الفرعونية في وادي الملوك الذي يقع في الشمال من قمة الجبل الغربي لمدينة الأقصر (طيبة القديمة) التي عرف في وادي ملوكها واحد وستون قبرًا للملوك وماالربط بين مبنى النادي ذي الطراز الإسلامي والآثار الفرعونية إلا بجامع للعظمة التي تجعل من عمارة النادي الشامخ فجرًا للحضارة القديمة الجديدة في البلاد التي تزهو بماضيها وتضيء بإنجازات حاضرها. ولا يفوت الشاعر ذكر المعازف والآلات الموسيقية التي تبدو كما لو كانت تومئ إلى البناء الذي يدين بفضل وجوده إلى الملك فؤاد، فتتمايل عيدانه نغم تحية، وتترنم أوتاره ثناء لحنيًا.

          ويعود شوقي بالخطاب إلى الملك فؤاد جاعلاً منه مجلى حديثًا لكسرى في العظمة،ومعمار النادي مجلى معاصرًا لإيوان كسرى. ويجر التاريخ إلى الحضارة الإسلامية، حيث برز اسما الغريضُ ومعبد، وكلاهما من أمراء الغناء العربي الذين زانوا الماضي، وزخرفوا أمسياته بالإبداع، خصوصًا في القصور الأندلسية، وأهمها قصر الحمراء المعجزة التي تبدو حجرات النادي الجديد مذكرة به، ومستعيدة أمجاده ونفائسه، وذلك في الخيال الشعري الإحيائي الذي يرد الحاضر على الماضي، ويسترجع بعلامات الأول نفائس الثاني، كم لو كان في روض يجاوز حدود الزمان والمكان بنفائسه وخواص خلقه، فضلاً عن أشجاره التي تتجمع في أيكه، وأطياره التي تتجاوب أصواتها ونغماتها، ولكن خيال شوقي المادح لابد أن يتحيز إلى الحاضر، فيجعل ماسمعه في حفل الافتتاح أجمل مما كان يسمع في زمن الرشيد، ولكن دون أن ينفصل الفن عن رعاته من الملوك الذين آمنوا بأهميته، وعرفوا أن الفن ريحانة الملوك، ووسيلتهم في خلود الذكر، فلولا أيادي الفن على المعاصرين ما أدركوا أنهم ينتسبون لأمة عظيمة صنع مجدها الذي لا مثيل له آباؤها الذين لا نظير لهم، وذلك في عصور ازدهار حضارتنا التي أضاءت بينما كان العالم من حولها ظلامًا، فكانت الأمم حولها أرضًا، وكنا في الفخار وبالفخار سماء تظلل كل ما دوننا. وينتقل شوقي من ذلك كله إلى أهمية الفن ودوره في صنع الحضارات والارتقاء بالبشر، فيقول:

لولا ابتسامُ الفن فيما حَولَه ظلَّ الوجودُ جَهَامةً وجَفَاءَ
جرِّدْ من الفن الحياةَ وما حَوتْ تَجد الحياة من الجَمَال خلاءَ
بالفنِّ عالجت الحياةَ طبيعة قد عالجت بألواحه الصحراءَ
تأوي إليها الروحُ من رَمْضائها فتصيبُ ظلاً، أو تصادف ماء
نبضُ الحضارة في الممالكِ كُلِّها يجري السلامة أو يَدُقّ الداء
إنْ صحَّ فهي على الزمان صحيحةٌ أو زافَ كانتْ ظاهرًا وطلاءَ


          والأبيات تبدأ بتقرير العلاقة العضوية بين الفن والوجود، فالفن روح الوجود ومصدر فرحه الدائم، والعلاقة بينهما متبادلة كالعلاقة بين الفن والحياة، فلا معنى للحياة دون الفن، ولا نضارة للفن من غير الحياة، فالفن كالحياة نقيضان للموت والعدم والجدية، ولذلك تأوي الروح إلى الطبيعة التي تعالج الفن، أو ينطوي عليها، أو تعالجه، فتنبض الحضارة حيث تتولد الحياة من معالجة الفن لها، ومعالجتها للفن، والعكس صحيح بالقدر نفسه فحيث لا يوجد الفن لا توجد الحياة، أو تختفي تحت قشور زائفة وطلاء لا رواء له، وحيث توجد الحياة في الفن تشيع العافية في الكون بحضوره، فيضيع القبح، ويكاد ينعدم السقم والضعف.

تمجيد الفنون

          ولم تكن هذه الأبيات هي الأولى في تمجيد الفنون وعلاقتها بالحياة، فقد سبقتها أبيات كثيرة، ولحقت بها أبيات مماثلة، وما بين الاثنين لم يتردد شوقي في الغناء للفن حتى بالعامية، ولا غرابة في ذلك فقد كان شوقي الشاعر فنانًا بالسليقة، والفنان الكامن فيه هو الذي أبان عن نفسه في إيقاعات قصائده الغنائية، وفي المقاطع التي غناها ابنه الروحي محمد عبدالوهاب وقرينته أم كلثوم، ومن يمكن أن ينسى «كليوباترا» و«مجنون ليلى» و«جبل التوباد» لعبدالوهاب، أو «النيل» لأم كلثوم، أو «النيل نجاشي الحليوة الأسمر» بالعامية في الأغنية التي غناها عبدالوهاب بالإبداع نفسه الذي غنّى به «يا جارة الوادي». ولم يكن من الغريب - والأمر كذلك - أن يحتفي شوقي بإنشاء النادي الشرقي للموسيقى، وأن يمدح الملك الذي رعاه، فؤاد الأول الذي عاد في زمنه من منفاه، وتوّج أميرًا للشعر سنة 1927، تحت رعاية الذي ينتسب إلى إسماعيل بالبنوة، فدان له «شاعر الأمير»، وقال بيته لشهير:

أَأَخونُ إسماعيل في أبنائهِ ولَقدْ وُلِدْتُ ببابِ إسْماعيل


          ولذلك ما إن فرغ شوقي من الحديث عن أهمية الفن حتى عاود الالتفات إلى ابن إسماعيل، وأبي الفاروق الذي أصبح وليًا للعهد منذ مولده، فيقول له:

انظرُ أبا الفاروق غَرْسَكَ هَلْ ترى بالغرسِ إلا نعمةً ونماءَ
من حبّةٍ ذُخرِتْ، وأيدٍ ثابَرتْ جاءَ الزمانُ بجنّةٍ فَيْحاءَ
وأكنَّتْ الفنّ الجميلَ خميلةٌ رَمَتْ الظلالَ، ومدت الأفياءَ
صحبوا رسُولَ الفنّ لا يألونه حبًا، وصدقَ مودةٍ، ووفاءَ
بذلَ الجهودَ الصالحاتِ عصابةٌ لا يسألون عن الجهود جَزاءَ
دَفَعوا العَوائقَ بالثَّباتِ وجَاوزُوا مَا سُرَّ من قدرِ الأمور وَسَاءَ
إنَّ التعاونَ قُوةٌ عُلْويةٌ تَبْني الرجالَ وتُبدعُ الأشياءَ
فَلْيَهنِهم حازَ التفاتك سَعيُهم وَكَسَا نَديَّهمو سَنًا وسناءَ


          والبيت الأول لا يذكر الفاروق - على سبيل التحبب - إلا ليعبره إلى المجموعة التي تحمست لإنشاء نادي الموسيقى الشرقية، وبدأت بتجمع بالغ الصغر كأنه البذرة، لكن التجمع صبر وثابر، فكانت نتيجة الغرس رائعة عظيمة، فالجماعة التي عملت على إنشاء النادي الشرقي للموسيقى اندفعت بحبها للفن الجميل، فأسكنته خميلة سرعان ما ازدهرت، وامتدت أفرعها وأغصانها المورقة بالظلال إلى كل ماحولها، فبادلهم الفن حبًا بحب، ووفاء بوفاء، وعطاء بعطاء، خصوصًا أنهم ثبتوا أمام العوائق وأزاحوها بالثبات على حبهم للفن، والحماسة للعمل في سبيله، صابرين على الأفراح والأتراح، مؤكدين أن التعاون قوة مقدسة، تبني أقدار الرجال، وتبدع من الأشياء أعظمها، فالتهنئة لهم، لأن التهنئات للأكفاء كما يقول المتنبي، وحسبهم أن جهودهم قد لفتت انتباه المليك فأعانهم معنويًا وماديًا كعادته في رعاية الفن والحضارة. وتنتهي القصيدة كما بدأت بمديح الملك فؤاد والإشادة بجميل صنعه، فهو الملك الذي يسير ركابه بالفرح، زارعًا النماء حيثما سار، كأنه السحاب أو المطر، لذلك استحق أن يلتف شعبه حوله كأنه العلم، وحول تاجه الذي جعله الشعب علمًا آخر.

          ولذلك، يؤكد الشاعر المادح أنه يسمع محبة الملك المادح من كل مئذنة، وفي كل كنيسة، تأكيدًا لوحدة الهلال والصليب التي أكدتها صورة 1919، وتصويرًا لوحدة المشاعر التي تآلفت على الهتاف، كأنها الوتر الذي يساير الكمان في العزف والغناء.

          هكذا، تنتهي قصيدة شوقي التي نقلت الكثير منها لقيمتها التاريخية، دلالة على الاحتفاء بالفن، وتعبيرًا عن السعادة بإنشاء مؤسسات له في ذلك الزمان الجميل الذي لم يكن فيه تعصب يعادي الفن، أو يشكك في قيمته، فالفن أصل الحضارة عند الحاكم والمحكوم في هذا الزمان، وحرص الحاكم على نوال صفة راعي الفنون لاتقل مغزى عن وعي الشعب بقيمة هذه الفنون وتأثيرها الإيجابي في حياته.

خصائص الشعر الإحيائي

          وفي موازاة هذا المعنى، تمضي القصيدة بكل خصائص الشعر الإحيائي التي وصل بها شوقي إلى الذروة، حيث الاستعارات تحتل مرتبة أدنى من التشبيهات التي تتكاثر في القصيدة، مؤكدة طبيعتها العقلانية، فالتشبيه لا يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد كما تفعل الاستعارة التي تزيل الحاجز بين طرفيها. وهناك القياس على الماضي المجيد، بوصفه العصر الذهبي الذي يُقاس عليه التقدم والإنجاز، في أرض أصل الحضارة في ميراثها ثابت، والتراث يشمل ما هو فرعوني يبدأ من وادي الملوك، وما هو إسلامي لا يغفل أمثال الغريض ومعبد في قياس على إيوان كسرى وعلى قصور غرناطة، خصوصًا قصر الحمراء الذي زاره شوقي وكتب عنه في قصائد المنفى، كتابة يمتزج فيها الحنين إلى الوطن بالأسى على انقلاب الزمن ومغيب شمس الحضارة العربية في الأندلس. وأخيرًا، لانعدم في القصيدة الحكمة التي فتِن بها شوقي في شعره، ونثرها في قصائده، مؤكدًا دور الشاعر الحكيم الذي تقمصه، الشاعر الذي لا يكف عن تعليم قومه وإفادتهم بالحكمة البليغة في الوقت الذي يمتعهم بالصورة البلاغية الجاذبة. ولذلك، لا تغفل في القصيدة بيتين يجريان مجرى الحكمة. أولهما:

لولا ابتسامُ الفنِّ فيما حولَهُ ظلَّ الوجودُ جهامةً وجفاء


          وثانيهما:

إنَّ التعاونَ قُوةٌ عُلْويةٌ تَبْني الرجالَ وتُبدعُ الأشياء


          وكلا البيتين: أو كلتا الحكمتين، يتسمان بإيجاز التعبير وكثافته، فكل بيت يقول الكثير بكلماته القليلة، ويختزل المعاني الكبيرة في الألفاظ المعدودة، فلا يضيع من الذهن الذي يتلقاه بما يعين على حفظه واستيعاب ما فيه من مغزى ومعنى.

          هل كان شوقي مسرفًا في مديحه فؤاد بالقياس إلى الجنود المجهولين الذين عملوا على إنشاء نادي الموسيقى الشرقي?  الإجابة بالإيجاب إجمالاً، لكن المليك من الشاعر الذي وُلِدَ بباب إسماعيل هو الأحق بالمديح، ولكن إنصافه لهؤلاء الجنود المجهولين لم يختف تمامًا، فقد أشار إلى الجماعة (العصابة) التي بذلت الجهود الصالحات، والتي صبر أعضاؤها على المصاعب والعوائق، مدركين قيمة التعاون الذي قادهم إلى تحقيق هدفهم في النهاية، فاستحقوا رضاء المليك الذي ما كان يمكن لشاعر الأمير (وما بالقليل ذا اللقب) أن يجعل القصيدة قسمة بينه ورعيته، فذلك كان زمن الملوك وشعراء الملوك.

          ولم يخرج شوقي عن هذه القاعدة حتى في الذاكرة التاريخية التي جعلت من فؤاد مجلي لكسرى باني الإيوان، ومجلى ثانيا لباني قصر الحمراء في غرناطة، ففؤاد هو اللواء الذي يلتف حوله شعبه بالدعاء والهتاف والمحبة، وليس هو فؤاد المعادي للدستور الذي وضع في عهده، والمستبد الذي كان يكره حركات المدّ الشعبي، فظل في صدام دائم مع الوفد - حزب الأمة - وفي نفور لم ينقطع من سعد زغلول زعيم الأمة. وهو الذي سلّط على أمته إسماعيل صدقي بديكتاتوريته المعروفة.

          وكان هو رئيس الوزراء الذي ناب عن الملك فؤاد في الاحتفال بانعقاد مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي قيل إن الملك فؤاد هو الذي وجّه إلى انعقاده بثاقب حكمته وعميق بصيرته. ولم يفت شوقي أن يلقى قصيدة أخرى في ختام المؤتمر في الحفل الذي أقيم بدار الأوبرا الملكية مساء الثالث من أبريل سنة 1932، ولكنْ لذلك حديث آخر.

أَلا يا أَيُّهـا الواشـي بِهِنـدٍ أَضُرّي رُمتَ أَم حاوَلتَ نَفعي
أَقُلتَ الرُشد صَرمُ حِبالِ هِندٍ وَما إِن ما أَتَيتَ بِـه بِبِـدعِ
أَتَأمُر بِالفَجيعَـةِ ذا صَفـاء كَريمَ الوَصل لَم يَهمُم بِفَجـعِ
وَأَقعُد بَعدَ قَطع الحَبلِ أَدعـو إِلى صِلَةٍ وَقَطع الحَبل صُنعي


عمر بن أبي ربيعة

 

جابر عصفور