ألبانيا من يعيدها من الشتات؟ من يخرجها من العزلة؟ محمد المخزنجي تصوير: سليمان حيدر

ألبانيا من يعيدها من الشتات؟ من يخرجها من العزلة؟

عبرت الطائرة سماء البحر "الأدرياتي"، فأدهشتنا الجبال الخضراء، والأنهر والبحيرات الصغيرة بين الجبال، ثم لم تكف الأرض الألبانية عن الاستمرار في إدهاشنا.

الطائرة التي حملتنا من روما إلى العاصمة الألبانية "تيرانا" راحت تهبط بين الجبال، لتستقر على أرض المطار الصغير، الفقير، الوديع: "ريناس". وبرغم أن تعاقب الجبال البديع، ألوانا وأحجاما، كان يشد بصري بعد الخروج من الطائرة، فإن الشيخ النحيف الجليل في جبته السوداء وعمامته البيضاء المخروطة، ظل يلفت انتباهي.. بملامحه الأوربية الألبانية، وبكوكبة من يتبعونه: البنت المحجبة وزوجها الشاب، والرجل الذي يحمل مكبر صوت ضخما زيتي اللون، لا يزال بعد في غلافه الشفاف.

عاودني التردد في الاقتراب من الرجل حتى ابتعد، وندمت على عدم اقتناص البادرة وإرواء غليل الفضول، لكنني لم أكن أعرف أن المصادفة ستجعلني ألتقي بالرجل فيما بعد مرتين، لأكتشف أنه الشيخ "صبري إدريس كوتش" رئيس المشيخة الإسلامية، مفتي عموم ألبانيا، لأعرف منه أنه كان قادما من زيارة للقاهرة، وأن مكبر الصوت كان لمسجد تيرانا الكبير، وأنه قضى في السجن والعزل، قبل انهيار نظام "أنور خوجا" واحدا وعشرين عاما جعلته ينسى الكثير من اللغة العربية، فالتحدث بها كان ممنوعا، ومن يضبط وهو يقول "بسم الله الرحمن الرحيم" كان يقضي في السجن عشر سنوات. ومع ذلك ظل القرآن في قلب الرجل النحيف البشوش وعلى لسانه. سمعته منه وأنا أصلي وراءه في زحام جامع العاصمة العتيق "إيتيم بيه" يوم الجمعة، وسمعته منه عندما التقيته لنتحادث، وكان عندما يعجز عن التعبير يلجأ لإيضاح مقصده بآية، أو حديث شريف، أو قول عربي مأثور. أما من رأيتهم بصحبة الشيخ في المطار فلم يتسن لي أن أسأل عنهم، وأرجح أن الرجل حامل الميكروفون الجديد كان مساعدا للشيخ، أما الشاب فلعله زوج البنت المحجبة التي لعلها ابنة الشيخ أو حفيدته، وهي الفتاة المحجبة الوحيدة التي رأيتها في العاصمة الألبانية!!

أندريه دورين سعد الدين!

قاعة تسلم الأمتعة في مطار العاصمة الألبانية لا تعدو كونها مجرد غرفة، بلا (سير) للحقائب، التي يصفونها على الأرض حتى يعبر الركاب حاجز الجوازات ويلتقطونها، أو يحملها عنهم الحمالون، فلا عربات للحقائب في مطار "ريناس". ولقد انتقانا أندريه وسط الزحام هامسا "تاكسي.. تاكسي" ، ولم نكن في حاجة لمن يحمل عنا حقيبتينا الصغيرتين وحقيبة أدوات التصوير التي تتبع الزميل الصديق سليمان حيدر على (عربانة) صغيرة ألقينا عليها بالحقيبتين. وفي سيارة أندريه انطلقنا على الطريق (المضعضع) عشرين كيلومترا إلى العاصمة، وكانت الجبال الخضر على ضفتي الطريق، والبيوت الوديعة المسقوفة بالقرميد على مدارج الجبال تظهر بين المدى والمدى ومسجد صغير ناصع البياض تسمق منارته الدقيقة برهافة في الأفق المسالم.. عالم من جمال الطبيعة البكر التي حافظت على بكارتها عزلة عجيبة.. عزلة صنعتها قبضة التضاريس، وحلقات التاريخ المقفلة، واستحقاقات ثأر كان على ألبانيا أن تدفعه دون جناية على أحد، بل إنها كانت تدفعه بدلا عن جان عليها هي نفسها. الجبال، والعثمانيون، وأنور خوجا. ثالوث متنافر تضافر في المكان والزمان ليصنع عزلة لم تعرفها دولة في أوربا وربما في العالم. كنت أفكر في ذلك وأنا أتطلع إلى عذوبة الطبيعة البكر على جانبي الطريق. ولفتت نظري أنصاف كرات خرسانية بنوافذ ضنينة تتناثر في السهل الأخضر. صف من أربعة أو خمسة من أنصاف الكرات الخرسانية هذه يظهر كل حين. وقال لي السائق عندما سألته عنها وهو يشير بسخرية كأنه يفك (صامولة) من دماغه: "استراتيجيا". وعرفت أن هذه التكوينات العجيبة هي متاريس، أو خنادق، أعدت في زمن شيوعية أنور خوجا استعدادا لمواجهة أي هجوم "إمبريالي"، وهذه المتاريس المقببة هي خنادق يتمترس بها جنود المقاومة "البروليتارية" لمواجهة إنزال محتمل للمظليين الإمبرياليين. وكل صف من هذه الخنادق يتواصل بنفق خرساني بسيط يربط بينها ليتيح حرية (المناورة) أمام جنود المقاومة تحت الأرض. تفكير عجيب. لم يكن أنور خوجا في عزلته التي استمرت حتى موته في عام 1985 يدري أن الحروب "الإمبريالية" صارت توظف أشياء أخرى غير البنادق والقنابل اليدوية. قنابل حارقة، ومخ لخلة، وموجهة بالليزر. وصواريخ باحثة عن أهدافها تدخل من النوافذ وتتعرف على الأشكال. " لقد شوه جمال الأرض " كنت أفكر في خنادق أنور خوجا البروليتارية وهي تتبدى كندوب رمادية صدئة وسط بهاء أبسطة الخضرة ومدارجها. ستمائة ألف خندق خرساني من هذا النوع بعثرها أنور خوجا على طول وعرض الأرض الألبانية. لم تعد تنفع عسكريا وصار عسيرا اقتلاعها من الحقول. كان السائق أندريه لا يسميه في كلامه إلا " الديكتاتور " فتتجسد في خيالي صورة الحاكم العسكري الأبدي المعتق في روايات استورياس وماركيز. ولما عرفت اسم أندريه وسألته عن ديانته قال إنه مسلم، فتعجبت: كيف؟ أندريه ومسلم؟!. ففتح كفيه للحظة ترك فيها عجلة القيادة ليعبر عن سخريته. وهي سخرية مريرة، فقد كانت الأسماء ذات الطابع الديني ممنوعة في زمن أنور خوجا، وكان على الأب عندما يذهب لتسجيل اسم مولوده أن يختار اسما من قائمة محددة أعدتها السلطات ليتسمى به المولود. وكان من نصيب سائقنا اسم "أندريه" ووالده من قبله "دورين"، برغم أنهما مسلمان من عائلة " سعد الدين " الجد الذي لم يدركه نظام أنور خوجا فظل اسمه دون تغيير!

ودخلنا تيرانا في الظهيرة؟

مناخ صيف البحر المتوسط المحتمل، وإيقاع مسالم لمدينة، بل بلدة، بسيطة الشوارع متواضعة ىالحوانيت، والبيوت. بعضها لا يزال يحمل طابع " المساكن الشعبية "، ومعظمها لا يرتفع أكثر من خمسو طوابق، لكن الزهور كانت تعلن عن وجودها المستمر في غالبية الشرفات والنوافذ. أما اللافت للنظر، فهو وجود نساء يركبن الدراجات في الشوارع (ولعل ذلك من زمن التآلف البروليتاري، الصيني الألباني الذي لم يدم - كغيره - طويلا)، ووجود أطباق استقبال البث التلفزيوني الفضائي (الدش) في معظم الشرفات. أطباق واحدة بيضاء يبدو أن الواحد منها يكفي شقة واحدة. ويخبرني " أندريه" أن سكان تيرانا - وألبانيا بعامة - يستقبلون بيسر البث التلفزيوني من إيطاليا واليونان وألمانيا وتركيا. نفسي: ترى لو أن أنور خوجا لا يزال يحكم ألبانيا هل كان يسمح بانتشار هذه الأطباق؟ بل هل كان يستطيع منعها وهي صغيرة، وأورابا على مرمى حجر، ومن كل الجهات؟.. من كل الجهات تطل أوربا على ألبانيا، ومن الطبيعي أن تطل عليها ألبانيا أيضا، برغم قوس الجبال الألبانية العالية شرقا ومياه بحر ( الأدرياتيك) الفاصلة غربا، فألبانيا التي تحمل اسمها هذا منذ نهاية القرن الرابع عشر انتسابا إلى قبيلة " ألبانوي " القاطنة حتى الآن في الشمال الأوسط من البلاد، ألبانيا هذه تعتبر أصغر وأفقر بلدان أوربا ( وإن كنت أرى في فقرها الآني عنصرا عابرا، فهي بمواردها وطبيعتها شديدة الغنى ). تشغل الجزء الغربي، شبه جزيرة البلقان بمساحة أكثر من 28 ألف كيلو متر مربع من الأراضي المرتفعة ( ثلاثة أرباع مساحتها تعلو 300 متر فوق سطح البحر ) تظاهرها شرقا سلسل جبلية تعتبر امتدادا جنوبيا لجبال " الألب " الدينارية. ومن الشرق العالي تمضي  التضاريس هابطة إلى الوسط الخصب والساحل الممتد على الشاطئ الشرقي لبحر ( الأدرياتيك ) بطول 360 كيلو مترا، ومع التضاريس تهبط مجموعة من الأنهار الصغيرة والجروف الوعرة التي تمتلئ شتاء تجف نسبيا في الصيف. بينما تتناثر في الوديان بحيرات صغيرة أما البحيرات الكبرى فهي ثلاث تقع على خطوط الحدود شمالا وشرقا. تحيط بها اليونان جنوبا، ومقدونيا شرقا، وصربيا والجبل الأسود شمالا، وفي الشرق يفصل بحر الأدرياتيك بينها وبين إيطاليا بمسافة لا تتجاوز طيرانا ثلاثة أرباع ال ساعة. عدد سكانها 5، 3 مليون نسمة، 70% منهم مسلمون، والأقلية مقسومة بين الكاثولك  والأرثوزكس، وقرابة نصف السكان يعملون بالزراعة التي تشكل ثلث الدخل القومي البالغ قرابة ثلاثة بلايين دولارا سنويا. لديها نفط وغاز ومعادن شتى، منها الكروم الذي تعتبر ألبانيا رابع أكبر مصدريه في العالم،وهي تصدر فائضا من الكهرباء المولدة من مساقط المياه،إضافة للغابات التي تكفي احتياجاتها من الأخشاب وتفيض.

فلماذا يكون فقيرا ومتخلفا بلد هذا موقعه وهذه موارده!

إنها إحدى جنايات التاريخ والجغرافيا على البشر، وهي حكاية قديمة راحت تعبر خاطري صور منها بينما كنا نجتاز ساحة ميدان "إسكندر بيه"، قلب العاصمة تيرانا، الذي كنا نبدأ منه دائما، ونعود إليه كثيرا، كلما تحركنا في العاصمة أو أبعد منها، فإقامتنا كانت في فندق "داجتي" البالغ من العمر عتيا والكائن في طرف الميدان.

خمسمائة وخمسون عاما من العزلة

لم أستطع أبدا أن أرى ألبانيا دون أن أتخلص من فضولي تجاه أنور خوجا، ومنذ خطواتي الأولى في العاصمة، وحتى خروجي إلى الساحل وباتجاه الجبال ظل أنور خوجا هاجسا. ولقد جمعت من التأمل في مساره، ومصيره، وبقاياه، ما يكفي لتهدئة ذلك الهاجس، بعدها تفتحت أمامي دروب ألبانيا.. العذراء.. الجميلة.

لقد كانت في إقامتنا بإحدى غرف فندق "داجتي" أول إطلالة على شبح أنور خوجا، والفندق بناء راسخ ورشيق يقبع خلف واجهة من أشجار الصنوبر السامقة الكثيفة، تم بناؤه في ثلاثينيات هذا القرن وشهد تجديدات عديدة أهمها تجديده على يد السوفييت إبان فترة التقارب القصيرة العابرة مع أنور خوجا، وهو - أي الفندق - لا يزال يحمل طابع الفنادق السوفييتية الهائلة الكتيمة خافتة الإضاءة وإن كانت الغرف أوسع وأرحب لأنها شيدت قبل أن يلصق بها ذلك الطابع. ولقد ظل "داجتي" هو أكبر وأوحد فنادق تيرانا خلال نصف قرن الانغلاق، لهذا كان موضع استقبال شخصيات العالم الزائرة لألبانيا. وبعد انهيار أسوار العزلة وسقوط النظام الشيوعي لم تجد السفارة الأمريكية مكانا مؤقتا في تيرانا لتقيم فيه أفضل من جناح في فندق داجتي. أي الأجنحة يا ترى؟ لم يمكنني تحديده بعد أن ذهبت السفارة الأمريكية إلى مستقرها الدائم في تيرانا. ولم أجد في جوانب المبنى العتيق وأنا أطل من نافذة واسعة بغرفتنا إلى اليمين - غربا - غير نوافذ متعاقبة وشرفات صغيرة سميكة الأدوار، وحديقة جميلة في الأسفل وعن يساري شرقا، كان جبل داجتي يصعد بنفسجي اللون في الأفق السماوي الصافي، أما في مواجهتي وفوق هامات الشجر ونخيل الزينة، ومن وراء مجرى ماء صغير وضفتين من الخضرة على جانبيه كان يصعد عاليا صرح رخامي أبيض، هائل وعجيب، حرت في أمره. فطلبت بالهاتف مكتب استعلامات الفندق لأسألهم عن الصرح الذي أراه. وإذا بالإجابة تجعلني أقفز.

- " إنه نصب أنور خوجا.. سابقا "

- " إذن أنور خوجا أمامي مباشرة "؟

- " ليس تماما الآن ".

وتعجلت سليمان حيدر أن يجهز "كاميراته" لننزل، فثمة هدف قريب. بل أهداف عديدة.. خرجنا من باب الفندق إلى الرصيف الشرقي لأطول وأكبر شوارع تيرانا، إنه بوليفار "شتيتوريا داشورميت".. شارع يقطع تيرانا من أقصى شمالها الغربي إلى أقصى جنوبها الشرقي ويمر في وسطه بالميدان الرئيسي "إسكندر بيه"، ويكاد يلخص حياة تيرانا وتاريخها أيضا.. بل تاريخ ألبانيا كلها.. القريب منه على الأقل.

مضينا على الرصيف المغمور بظلال الأشجار التي تتعاقب على امتداد الشارع الواسع الكبير من الجانبين، وكانت المقاهي الصغيرة الغزيرة ذات النسق الأوربي تتواصل وتكاد لا تخلو من الزبائن. بينما دفعت نسائم "العصاري " سكان العاصمة إلى الخروج للتمشي في الشارع. إنها ظاهرة أدمنا مراقبتها فيما بعد. فسكان تيرانا البالغ تعدادهم ربع مليون نسمة، على وجه التقريب ما إن تميل الشمس حتى يتدفقوا، يوشكون أن يكونوا جميعا في هذا الشارع، وفي الميدان. يتمشون مستروحين النسائم، أو يقتعدون المقاهي أو أبسطة النجيل في الحدائق، أو درج الأبنية الكثيرة في هذا الشارع. جماعات صغيرة، أو ثنائيات، لكنهم لا يتمشون فرادى إلا فيما ندر. الصبايا ذوات جمال ملحوظ وملابسهن أوربية. والشباب كذلك  (والعواجيز) غالبا ما يعتمرون (كاسكيتات) وينتعلون أحذية قماشية خفيفة وعندما يتلاقى الألبان يتعانقون وتتلامس خدودهم، وبرغم أن الشارع مفتوح والإغراءات موجودة فإننا لم نلحظ أبدا أي تحرش غليظ من الشبان للفتيات. ولم نشهد خناقة واحدة. فثمة حياء ملحوظ وطابع حضاري وإنساني هادئ لدى الألبان، صغارهم وكبارهم.

هل هو الدين (برغم غيبة مظاهره نسبيا)؟ أم هو إرث الانضباط القهري الطويل على زمن شيوعية أنور خوجا، أم صرامة ورهافة التقاليد للمتحدرين - أصلا - من بيئة الجبال أم هي رقة الحال، والقناعة الطويلة، لدى شعب أوربي لم يمتلك عبر قرون كثيرة أيا من أدوات الزهو الأوربي المغري بالغطرسة؟

- لا أدري.

- إنه شعب رقيق.

- ليس في كل الأحوال.

نعم، فهو لا ينام على ثأره، وبهو الفندق الذي نزلنا به يشهد على ذلك. فمنذ سنوات قليلة قطع قروي، بفأس حادة، رأس رجل ظل يتعقبه، ثأرا لمقتل والده الذي وقع منذ أربعين عاما! وتدحرج الرأس المقطوع على الدرج الذي نزلنا عليه لتونا.

فبرغم شيوعية النصف قرن فإن قانونا للقصاص والثأر يسمى "كانون ليك دوكاكجين" ظل يعمل، على الأقل بين سكان المناطق الجبلية المعزولة، ولا يزال يعمل، وتحكم به محاكم خاصة جدا تتكون مما يشبه "مجلس شيوخ الجبل".

ويبدو أن "كانون ليك دوكاكجين" كان يعمل أيضا على مستوى التاريخ الألباني المعاصر، ثأرا من قهر قديم، ذلك ما رأيته وأنا أقف أمام الهرم أو الطبق الرخامي الهائل الذي كان - " ضريح أنور خوجا " والذي وصلنا إليه بعد عدة خطوات - إلى جوار فندقنا وبعد عبور الجسر القديم على قناة "لانا".

وأقسى درجات الثأر هي المسخرة.

وأي مسخرة..

إن الضريح بناء عصري هائل ومدهش تم افتتاحه عام 1988 في الذكرى الثمانين لميلاد الرئيس أنور خوجا!! صممته ابنته، المعمارية " برانفيرا " على هيئة طبق طائر هبط في وسط تيرانا. وقبل فبراير 1991 كان يضم كل شيء لمسه أو استعمله أنور خوجا. وفي المركز كان ينتصب تمثال رخامي ضخم لأنور خوجا في تكوين غريب كأنه داخل رحم خرساني. وكانت هناك نجمة كبيرة مضيئة تتألق فوق قمة البناء، ساكبة النور على جوانبه البيضاء المائلة بانسياب شديد  إلى أسفل. لقد كان أحد أشد متاحف الأشخاص غرابة وفرادة في العالم. لكن كل ما كان يمت بصلة لأنور خوجا في المكان تمت إزالته وتم تحطيم تمثاله. وتحول المكان إلى مبنى للإيجار بالمتر، به الآن مركز مؤتمرات تجاري، وثمة محل لبيع الكمبيوتر والتدريب عليه، ومقهى يفرش مقاعده الملونة في الساحة الرخامية الوسيعة أمام المدخل.

أطرف ما في الأمر، وأعتبره ثأرا قاسيا جدا تناله ألبانيا الحالية مما حشرها فيه الديكتاتور لقرابة نصف قرن هو ما يفعله الأطفال بهرم أنور خوجا هذا أو طبقه الطائر. فالأطفال الآن مع ذويهم المتنزهين في المكان حولوا جبروت البناء إلى لعبة، إذ يصعدون جدران البناء المائلة حتى القمة ثم يتركون أجسامهم الصغيرة تنزلق خفيفا إلى أسفل بينما أصواتهم اللاهية المبتهجة تتصاعد صادحة في سماء المكان.

هل كان أنور خوجا يتصور ذلك.. أو يسمح به؟! أنور خوجا.. يا له من نموذج يصلح بحثا لحالة اجتاحت، ولا تزال تجتاح، عالمنا وإن بصور أخرى. لا أقصد العنف. بل أقصد الإيمان الجنوني الخيلائي باحتكار الحقيقة وزعم الانفراد بالرؤية الصواب، ومن ثم ضرورة فرضها على الآخرين. أما طرق فرض هذه الرؤية فهي توابع لا تمثل خطورة جوهر المسألة برغم ما قد يكون بها من عسف وعنف وإكراه وتأليه للأشخاص وانفراد بالسلطة.

أنور خوجا الذي ولد في بلدة "ججيرو كاسترا" الجنوبية في 16 أكتوبر 1908 لأسرة ألبانية مسلمة ميسورة، تلقى تعليمه في مدارس الليسيه الفرنسية بالبلدة. وفي بداية عام 1930 درس علم الأحياء بجامعة مونتبيليه في فرنسا ثم انتقل إلى باريس حيث التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي عام 1935 وعاد بعدها بعام إلى ألبانيا ليكون معلما في مدرسة الليسيه بكورجا. وفي عام 1937 اضطلع بتأسيس منظمة شيوعية ألبانية سرية. وأثناء الحرب العالمية الثانية قام بدور ملحوظ في تنظيم المقاومة الشعبية المسلحة ودخل تيرانا كزعيم لجبهة التحرير الوطنية خريف عام 1944. وفي عام 1945 تزوج صديقته و "رفيقة" نضاله "نخميجا خانجولي" وهي سليلة أسرة مسلمة من بلدة "ديبير" ورزقا بثلاثة أبناء إلير الذي ولد عام 1948، وسوكول عام 1951، وبرانفيرا (التي صارت مهندسة معمارية صممت النصب التذكاري المشار إليه!) في عام 1954.

لم يتسلم أنور خوجا قيادة "حزب العمل الألباني" (الاسم المعلن للحزب الشيوعي الألباني) إلا بعد تباعد ستالين وتيتو عام 1949، ومن بعدها لم يفقد السلطة أبدا - سواء كزعيم للحزب أو كقائد للدولة - حتى وفاته في عام 1985، ( برغم مرضه العضال في سنواته الأخيرة ). ودفن في مقبرة الشهداء بتيرانا عند وفاته، لكن في عام 1992 - بعد سقوط النظام الشيوعي - انتزع رفاته وأعيد دفنه في المقبرة العادية بالعاصمة. والناس يشيون إليه الآن في تيرانا بإسم " دوللي " وهي تعني: الشخص القبيح، بينما يسمون زوجته " سوارا " أي الغراب، وقد قبض عليها عام 1993 للمحاكمة بتهمة الفاسد واستغلال السلطة.

أي مصير سوداوي وأية ذكرى ساخرة مرة؟

إن عوام الناس عندما يجرمون قد يفلتون بجرائمهم في الدنيا ليحاسبوا عنها في الآخرة. أما قادة الشعوب عندما يجرمون - ولنتذكر مصائر نيرون وهتلر وموسوليني وسوموزا وغيرهم - فإنهم - وحساب الآخرة يترصدهم - لا يفلتون بجرائمهم في الدنيا أبدا سواء وهم أحياء أو بعد موتهم. وأقل وأمر صنوف العقاب هي اللعنة.. والمسخرة!

ولقد أجرم أنور خوجا وزمرته في حق ألبانيا. ولا أعني بإجرامه العسف أو الإرهاب فهذه توابع لا أصول، ولكنني أعني استبداده بوهم أو زعم امتلاك الحقيقة والصواب الوحيدين، وفرض نمط تفكيره على أمة بأسرها.. أي حبس هذه الأمة في قفص هواجسه وعشقه لذاته ومن ثم استئثاره بالسلطة وأقدار الناس.

العزلة

العزلة هي حصاد إجرام أنور خوجا في حق ألبانيا. وهي عزلة جاءت في لحظة حرجة لتوصد حلقات من العزلة الجغرافية والتاريخية والروحية عانتها ألبانيا بعمق القرون. فاستحكمت حلقاتها ولم تفرج إلا أخيرا.. وبصعوبة حزينة مازال يعانيها هذا البلد وأهله.

لقد ضربت سلسلة الجبال في الشرق ومياه البحر "الأدرياتيكي" في الغرب طوق عزلة ما على ألبانيا. وعمقت هذا الطوق خمسة قرون من الاستعمار الثقيل المعتم. فألبانيا هي آخر مستعمرة أفلتت من قبضة الإمبراطورية العثمانية الآفلة (عام 1912). ولم يهنأ الألبان بهذا الاستقلال إذ راحت الجيوش المتقاتلة في الحرب العالمية الأولى تحرث الأرض الألبانية في طريق مراميها. ومن الطريف أنه منذ عام 1920، كان هناك وزير ألباني اسمه أحمد زوغو صار رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية، لكنه عام 1928 أعلن نفسه ملكا وأوقع نفسه وبلده - سياسيا واقتصاديا - في شباك إيطاليا حتى غزاها موسوليني ووضعها في جراب إمبراطوريته الفاشية عام 1939 فانتهى استقلال ألبانيا وانتهى حكم "زوغو" الملك.. نفسه! وصارت ألبانيا معسكرا للقوات الفاشية التي غزت اليونان الجارة الجنوبية عام 1940، ومع اضطرام الحرب العالمية الثانية تكونت فرق المقاومة الوطنية الألبانية ضد قوات المحور الغازية لأرضهم ولمع اسم أنور خوجا كقائد لحرب العصابات.كان خليطا من الشيوعي الغوغائي والوطني المتعصب والسياسي الميكافيللي.

أفلت خوجا من حلم تيتو بضم ألبانيا إلى الاتحاد اليوغسلافي عن طريق دعم العلاقة بستالين (الذي ظلت تماثيله في ألبانيا هي آخر تماثيل له تسقط في أوربا كلها حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي). وبعد موت ستالين عام 1953 بدأ الشقاق مع حكام موسكو الجدد حتى صارت القطيعة عام 1960. واتجه إلى الصين وماثل ماوتسي تونج في ثورته الثقافية بل أغرق فيها حتى أنه جرم أية ممارسة دينية إسلامية أو مسيحية أو غيرهما بقانون عقابي صارم في عام 1967. ومع الانفتاح الصيني الضعيف على الولايات المتحدة في أوائل السبعينيات بدأ الشقاق وانتقد خوجا "الانحراف الصيني"، وانتهى الأمر بالقطيعة الألبانية الصينية عام 1978 وأوقفت الصين مساعداتها الاقتصادية والعسكرية وسحبت خبراءها من تيرانا. وصارت ألبانيا في انقطاع عن العالم.. الشرق والغرب وما بينهما. صدئت المصانع القديمة، ولم تستكمل الجديدة، وصبت الخنادق الخرسانية وسط الحقول، واستفحل النظام المركزي البيروقراطي.. نسى العالم ألبانيا، ونسيت ألبانيا العالم، وفوق تل  النسيان تربع أنور خوجا على عرشه الشيوعي يراقب (معسكرات) العمل الجماعي البائس للفلاحين في الحقول المشقية والعمال في المصانع المتهالكة. ولم يمت إلا أثر مرض عضال في أبريل 1985 بعد أربعين سنة من الحكم المطلق، ليعقبه "رامز عاليا" خليفته وعضو المكتب السياسي لحزبه. وفي 20 فبراير 1991 - بعد انفراط عقد المنظومة الشيوعية الأوربية وانهيار أسوارها المتداعية أصلا - خرج آلاف المتظاهرين - لأول مرة بعد نصف قرن - في شوارع تيرانا وميدانها الكبير، وأسقطوا تمثال الصنم أنور خوجا، ولم تعد ممارسة الشعائر الدينية مجرمة وأعيد فتح مدارس العلوم الدينية، وأجريت انتخابات شبه ديمقراطية فاز فيها "رامز عاليا" وحزب العمال الذي صار بعد الإصلاح "الحزب الاشتراكي" وبعد دفع شعبي أجريت انتخابات جديدة في مارس 1992 فاز بها "الحزب الديمقراطي" وصار زعيمه الدكتور "صالح بريشا" رئيسا لألبانيا في أبريل 1992 ليقود برنامجا للإصلاح الاقتصادي وصف بالجذرية والنجاح النسبي، وأعيد انتخابه قبيل ذهابنا بيومين في انتخابات شكك "الحزب الاشتراكي" في نزاهتها وأعيدت في بعض الدوائر. وبينما كانت محطات التلفزيون العالمية تذيع أخب ارا عن مظاهرات في تيرانا لم نجد غير تجمع صغير هادئ أمام مقر الحزب الديمقراطي، وقد رفض المتجمعون أن نصورهم، كما أبعدنا - بلطف - رجال الشرطة. وحدث أننا كنا أمام بيت عالي الأسوار والأشجار بقرب جامعة تيرانا وإذ بأفراد يبدو أنهم من الشرطة السرية يطلبون منا أن نمشي على الرصيف الآخر. "لماذا"؟.. "هنا بيت رئيس الجمهورية". وكدت أصيح وجدتها. فقد كنت لمدة ثلاثة أيام أعجز عن الوصول إلى بيت آخر هو بيت "أنور خوجا" برغم تقيدي بالسير على هدي خريطة قديمة لتيرانا. ولما كنت أعرف أن بيت الرئيس الحالي الذي كان قصر الملك زوغو يمكن أن يكون نقطة انطلاق مناسبة إلى بيت "أنور خوجا" القريب فقد استهديت بشرح الرجال "السريين" الذين أمرونا أن ننتقل إلى الرصيف الآخر. ولم يبخلوا علينا بدقيقتين لوصف الطريق إلى بيت خوجا.

دخلنا المنطقة التي كانت محرمة على زمن الديكتاتور، فهي إضافة إلى بيته تضم بيوت قادة الحزب الشيوعي (الخوجي) الذي كان حاكما. ضاحية كثيفة الأشجار والحدائق، وتتناثر في رحابها الأخضر الأنيق فيللات عصرية ليست أسطورية لكنها، بالنسبة لألبانيا الفقيرة، استثنائية. ووجدنا بيت الرجل المرعب، أو الذي كان مرعبا.. فيللا أنيقة، بحديقة واسعة، وحمام سباحة فاخر لا ماء فيه. وثمة جندي مسلح ينظر إلينا من وراء حديد السور.

- "هيه.. هل هذا بيت أنور خوجا"؟

ولم يجب الحارس لكنه أومأ بابتسامة، وحاولنا أن نعرف منه إن كان هناك أحد في البيت، أو إلى من آل هذا البيت، لكن دون جدوى.. كان يبتسم صامتا. ورحنا ندور حول البيت بحثا عن المدخل، وإلى يسارنا وجدنا بيت "مهميت شيهو" أو "محمد شيخو" وهو حكاية أخرى من حكايات زمن العزلة. فقد كان رفيقا وصديقا لأنور خوجا. تولى قيادة الجيش ورئاسة الوزراء وكان عضوا دائما في المكتب السياسي للحزب. ولما اختلف "أنور خوجا" مع السوفييت حذر "محمد شيخو" المتعاطفين مع موسكو بعبارة أطلقها في اجتماع للمكتب السياسي للحزب وتم نشرها يقول فيها: "إن من يجرؤ على تشويش وحدتنا لن يكون مصيره إلا رصاصة في الرأس. والمفارقة هي أن "محمد شيخو" نفسه مات برصاصة في رأسه أطلقها عليه أنور خوجا في اجتماع للمكتب السياسي للحزب بعد خلاف بينهما، ولم يعلن عن ذلك في حينه، فدفن شيخو في مقبرة الشهداء، لكن جثمانه سرعان ما أزيل من مقبرة الشهداء واختفى أثره.

يا الله، ما أغرب ما تدور الدوائر على الطغاة وظلال الطغاة.

لقد وصلنا إلى بوابة بيت أنور خوجا، وكانت هناك امرأتان شابتان أمام الباب الداخلي. بدتا تسقيان الزهور وتتحادثان معا عند درج المدخل. فكرت في أنهما ربما كانتا ابنتي أنور خوجا، وربما كانتا مسئولتين عن البيت بعد وضع يد الدولة عليه. ورحت أناديهما سائلا عمن بقي في البيت؟ فتضحكان. عمن تكونان؟ فتضحكان. عما يضحكهما؟ فتضحكان. وكان ضحكهما يضحكنا، فصنعنا زوبعة من الضحك، لحد التلوي، ولحد اغروراق عيوننا بالدموع من شدة الضحك، عند مدخل بيت أنور خوجا!!

"لولي.. أين لولي"؟

كانت الثامنة تماما.. موعدنا مع السائق الذي يحمل اسم "لولي" لننطلق نحو قمة جبل داجتي المطلة على تيرانا من ارتفاع 1612 مترا. ثم نهبط لنتجه نحو قمة أخرى في بلدة كروجا أو "كرويا" التي تبعد نحو 35 كيلومترا عن تيرانا. إنه يوم حاشد ضمن أيام الرحلة الضنينة. ولقد تأخر لولي خمس دقائق قلبت وألبت عليه خلالها كل الدنيا. لم يكن أحد من سائقي التاكسي المرابطين أمام الفندق يعرفه. والسبب عرفناه فيما بعد ونحن نصعد نحو القمة التي يتسنمها هوائي التلفزيون ووحدة عسكرية. فلولي مهندس معماري من جيش الشبان الألبان الذين لا يجدون عملا. ذهب إلى اليونان - التي يقدر عدد الألبان  العاملين بها بقرابة ثلث مليون شاب وادخر من عمله في مهن شتى وعاد بسيارة يعمل عليها سائق تاكسي. لولي هذا اختصار لاسم "لولزيم" الذي يعني "برعم ربيعي". وكان الجبل الذي قطعنا نحو قمته 27 كيلومترا كيانا سامقا يتدثر بخضرة الربيع وزهو غاباته. بينما تيرانا في السفح بلدة تتناثر في حوض ربيعي الخضرة تحف به بحيرات صغيرة ساحرة. واستمر الربيع معنا في الطريق إلى قمة كرويا.. قرى تتناثر بيوتها على التلال الخضر، ودروب تصعد عبر غابات خضراء. وفي قمة كرويا الساحرة الخضرة كانت القلعة التاريخية للبطل الوطني الألباني "سكاندر بيج" أو "إسكندر بيه" وفي رحابها بناء حديث على نمط القلاع القديمة المعماري ذاته، إنه متحف وطني للبطل الألباني التاريخي. لقد كان أحد أبطال البلقان في معارك التحرير ضد الهيمنة التركية العثمانية. ولد عام 1405 ميلادية لأحد حكام إحدى مناطق ألبانيا وفي عام 1423 جاء العثمانيون وأخذوه مع أشقائه الثلاثة كأسرى. قتل الأتراك إخوته الثلاثة بالسم واعتنق هو الإسلام وحمل اسم "سكاندربيك". وما أن تلقى العثمانيون أولى هزائمهم على يد البلغار عام 1443 حتى انشق على الأتراك وكون جيشا من عدة آلاف قادوا مذبحة للأتراك في كل ألبانيا التي صار "إسكندر بيه" زعيما لها باستثناء قبائل الشمال الذين لم يتبعوه. وبرغم هذا الالتباس حول شخصية إسكندر بيه فإن تقديره لدى الألبان عامة - مسلمين ومسيحيين - يعكس حقد الألبان على الاستعمار التركي العث ماني الذي غل أيديهم وأطبق على أعناقهم خمسة قرون كاملة.

دخلنا القلعة تحت الأقواس الحجرية القروسطية، وكان المتحف الذي شيدته برانفيرا ابنة أنور خوجا.. أيضا يحكي بمقتنياته المتواضعة صورا من تاريخ ألبانيا، ويساوي هامة أنور خوجا بإسكندر بيه.. طبعا. ولم يكن هذا كله مما يلفت الانتباه. لقد كان يلفت انتباهي جمال الطبيعة التي أرى صورة بانورامية لها من قمة بلدة كرويا الساحرة. مدى من الجبال والوديان والسفوح الخضر. وسقوف القرميد الأحمر لحوانيت بازار كرويا وبيوتها بين الخضرة. وتصير الجبال كلما ابتعدت أكثر شفافية وضاربة إلى البنفسجية والزرقة. وزهور الربيع وصبايا كرويا الربيعيات كالزهور يتناثرن على مدارج المكان وعبر دروبه الجبلية وفي مقاهيه النظيفة الصغيرة. جمال به خفر غريب على أوربا. إنه ربيع بكر حقا. والبلدة نفسها كرويا اسمها معناه الربيع. فلماذا وكل هذا الربيع في ألبانيا يغترب عنها أبناؤها في شتات يكاد لا يضاهيه في الدنيا شتات. موجات من الهجرة شبه الجماعية عصفت بالألبان على مر تاريخهم ففي القرنين 13و14 خرجت موجات من المهاجرين الألبان إلى الجزر اليونانية حتى قدر عددهم عام 1840 بنحو ربع مليون إنسان، وبين عامي 1444 و 1468 ميلادية، وتحت ضغط القهر العثماني، خرجت جموع من الألبان في نزوح كبير نحو إيطاليا واليونان ومازالوا يكونون أقليات لم تنس طابعها الألباني. وفي عام 1910 خرجت موجات قوامها 50 ألف مهاجر إلى صقلية و 90 ألفا إلى الجنوب الإيطالي. ومنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية بلغ عدد المهاجرين الألبان في أمريكا نحو ربع مليون إنسان، وهناك عدد أقل في كندا، ولا ننسى أن في القاهرة وحلب ودمشق كانت هناك - وربما لا تزال جاليات ألبانية من موجات الهجرة المختلفة. ومن ألبان كوسوفو (من جمهوريات يوغسلافيا السابقة وحاليا ضمن صربيا) خرجت إلى ألمانيا وسويسرا أعداد كبيرة من المهاجرين لا تزال في ازدياد مع تصاعد القمع الصربي للألبان هناك، والذين يقدر عددهم بنحو مليوني نسمة. أما آخر موجات الهجرة المشهورة فهي تلك التي تفجرت مع انهيار النظام الشيوعي والتي خرج فيها عشرات الآلاف على ظهور المراكب القديمة إلى السواحل الإيطالية وغيرها.

إن عدد الألبان المشتتين في كل أنحاء الدنيا يكاد يقارب عددهم داخل ألبانيا. فلماذا هذا الشتات والأرض كما رأيناها خضراء وواعدة ثمة من يردد القول البلقاني الشائع "إن الجبال تضيع أبناءها". كناية عن قسوة بيئة الجبال (وإن كنت لا أرى أشد من قسوة الصحراء بالطبع). لكنها ليست الجبال وحدها هي التي تضيع بنيها، إنها قرون العسف والقهر والعزلة. لكنني أظن أن الظاهرة في تراجع فالأرض الألبانية بديعة والعالم خاصة غربه يزداد كراهية للغرباء. و جاء اليوم الأخير سريعا.. ولليوم الأخير، في بلد تحبه، شجن خاص. فما أن تألفه، حتى يتعين عليك الرحيل. وألبانيا بلد صغير قادر على إيقاعك في حبه. بطبيعته العذراء الجميلة، وناسه الذين لم يحاول أحد منهم خداعنا، ولو خدعة صغيرة من خدع السياحة المعتادة. ثمة براءة مدهشة برغم رقة الحال، وتاريخ العناء الطويل، ومكابدات العزلة وأحزان الشتات. ولم أجد لمغالبة أشجان الرحيل أفضل من التجوال الحر وتكثيف اللقاءات في ذلك اليوم.

التقيت بمجموعة صغيرة من الشبان الألبان في مسجد تيرانا العتيق، أذكر منهم "بلند شيخ" طالب الحقوق بجامعة تيرانا، وعبدالرحمن محمد كوتشي الذي يدرس بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية. إنهما يتعلمان اللغة العربية وعلوم القرآن ويعلمانهما لشبان آخرين. ثمة حلم لديهما بمجتمع إسلامي يمتح من الأصول، وثمة نداء يوجهانه إلى العرب والمسلمين بأن يعينوا ألبانيا دينا ودنيا.

وفي وزارة الثقافة كان لقائي مع المسئولين آديم جاكلاري، ومينوزا سوفروني، وهما مسلمان، تكلما عن خصوصية الثقافة الألبانية وعدم الشعور بالدونية تجاه ثقافة الغرب الذي تنفتح عليه ألبانيا دون أن تريد الذوبان فيه. أما في المبنى العتيق الذي تشغله وزارة السياحة فقد رحب بنا آدم يمراج مسئول الدعاية والتسويق الذي أطلعنا على بدء دوران عجلة الدعاية للسياحة الألبانية وأحلام الألبان العريضة في سياحة تمنح ألبانيا الكثير. ولم ينس أن يوجه دعوته للسياح العرب حتى يقصدوا ألبانيا.

وعلى مقربة خطوات من مبنى وزارة السياحة لفت نظرنا مبنى " البنك الإسلامي الألباني العربي " الذي دخلناه والتقينا بمديره أحمد العنتبلي لنعرف مؤشرات المستقبل الاقتصادي لهذا البلد. فليس أفضل من عين الغريب خاصة عندما تكون هذه العين بنكية الرؤية. ولقد أبدى الرجل حماسا شديدا لمستقبل هذا البلد لكننا عندما سألناه عن طبيعة النشاط الاستثماري  الغالب في هذه الفترة أجاب بأنه من الطبيعي أن أصحاب رءوس الأموال في بدء نشاطهم يفضلون عدم المغامرة في المشاريع طويلة الأجل (الاستراتيجية) التي تأتي في مرحلة تالية. أما الشيخ "صبري إدريس كوتش" مفتي الديار الألبانية، فقد لخص حديثه بالقول إن ألبانيا أمانة في أعناق كل المسلمين والعرب"

لقد أنهيت اللقاءات، ورحت مع زميلي نستجم قليلا على حافة إحدى الغابات المحيطة بشاطئ بحيرة صغيرة في جنوب "تيرانا" يسمونها "البحيرة الساحرة". وهي ساحرة حقا.. مرآة كبيرة عذبة من الماء الرقراق الهادئ، تنعكس على صفحتها الغابة الخضراء، والجبال البنفسجية، والمقاهي الصغيرة المتناثرة على أطرافها.. ثمة غناء لم أستطع تحديد مصدره، يوناني النغمات شرقي، الشجي، كان يبلغ مسامعنا مع شدو طائر هنا وخفقة ماء إثر جذبة صياد عجوز لخيط (صنارته) هناك.. سكينة وصفاء بالغان تنتعش فيهما الروح.. وأفكر في ألبانيا، فأحس بها كيانا صغيرا بديعا هشا يستأهل الرهافة والرفق.. وأود لو أنادي بهذه الرهافة والرفق في التعامل مع ألبانيا.. وأهمس لا تنسوا أن ألبانيا في متن أوربا برغم كل شيء، فلا تتركوا حماس الهوية في غير وقته يحرقها كما أحرقت البوسنة والهرسك. ثم أهمس اذهبوا واستثمروا، هذا طيب، لكن أن تأخذوا أكثر مما تعطوا، فهذا خطر.. أشد الخطورة، خاصة إذا لم يكن الاستثمار يمنح ألبانيا فرصة أخوية وإنسانية لتقليل جيش الشبان العاطلين لديها.

لم أستطع أن أغادر تيرانا دون زيارة للبيت الذي أقام فيه كاتبها العالمي العظيم "إسماعيل كادري" (إسماعيل قدري). إنه أحد أفضل الروائيين الأحياء في عالم اليوم وأحد أهم المستحقين لجائزة نوبل المراوغة.ولد عام 1936، وله 13 رواية، وأربعة دواوين شعرية، وعشرة كتب دراسات أدبية وتاريخية، ويعيش الآن في باريس التي هرب إليها من قهر أيام تيرانا الذاهبة.

عبرت المدخل الكئيب للبناية ذات النسق "البروليتاري" رقم 85 بشارع "رروجا اديبريس" شمال شرقي الميدان الكبير بتيرانا. صعدت في عتمة النهار إلى الطابق الثالث ولم أدق جرس الشقة التي كان يقيم فيها الكاتب العظيم وتركها لأخته. أمام الباب البني الخشن القاتم توقفت ألهث من عنت الدرج. ثم استدرت أهبط وأنا أعرف بحزن لماذا يعيش كاتب ألبانيا الكبير في الشتات. وما أن تلقفني نور الشارع والتقطت أنفاسا من الهواء المفتوح حتى سطعت في ذاكرتي مشاهد من رواية إسماعيل قدري الجميلة "من أعاد دورانتين؟".

لقد كانت "دورانتين" عروسا شابة تغربت في بلدة بعيدة عن أهلها، ولما تملكها الحنين للدار والأهل ولم تجد من يعيدها إليهم خرجت في الظلام والتيه تمشي، وبرز لها فارس مجهول، حملها خلفه على الجواد وشق الدروب الجبلية الوعرة والخطرة. وأعادها إلى أهلها وموطنها. ثم اختفى الفارس الذي تبين بعد ذلك أنه كان ميتا منذ زمن سحيق. ويبدو أنه خرج من قبره ليعيدها إلى أهلها ثم يعود.

الرواية كتبها إسماعيل قدري عن أسطورة ألبانية شعبية، ولقد ظلت متشبثة بذاكرتي طوال الطريق إلى المطار للمغادرة حيث الجبال الخضر والقرى الصغيرة والسهول المعشبة والمزهرة والمسجد أو المسجدان الصغيران ناصعا البياض على طول كل هذا المدى الأخضر.

دورانتين في الرواية الأسطورية أعادها فارس قديم خرج من قبره ليؤدي مهمة نبيلة. أما ألبانيا، الآن، فلا أظن أن أحدا سيخرجها من آثار العزلة المريرة ، ويعيدها من الشتات الكبير.. إلا فرسان أحياء يدركون أهمية وحساسية، تلك المهمة النبيلة.

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





ألبانيا من يعيدها من الشتات؟





وجوه ألبانية





ألبانيا وإيقاع عصري





الديمقراطية.. ملامح جديدة لألبانيا





في الريف والحضر.. الألفة سمة  ألبانية مميزة





ملامح قريبة وتحاور حميم





ملامح قريبة وتحاور حميم





في الريف والحضر.. الألفة سمة  ألبانية مميزة





تحت تمثال اسكندر بية في قلب تيرانا





خريطة ألبانيا





الميدان الكبير ملتقى حياة العاصمة الألبانية





الميدان الكبير ملتقى حياة العاصمة الألبانية





المقاهي تملأ أرصفة شوارع تيرانا





آثار عثمانية





وفي الأسواق فيض من الفاكهة والخضروات





الشيخ صبري إدريس كوتش مفتي الديار الألبانية





طبيعة جبلية.. وإيقاع عصري





هرم الديكتاتور صار لعبة للأطفال





خنادق أنور خوجا ضد الغزو الإمبريالي!! لم تحم البشر وشوهت الحقول





القلعة عند قمة كرويا





الكليم الألباني في الطرق الجبلية





لم يسع المسجد المصلين ففاضوا في حديقته





يتعلمون العربية ليقرأوا القرآن في المسجد الكبير





هنا كان يعيش ديكتاتور ألبانيا الرهيب.. أنور خوجا