أفكار في الفن

أفكار في الفن
        

          لم يعرف تاريخ الفن فوضى مثلما هو حال الفن اليوم، أي منذ القرن العشرين الفائت حتى اليوم. كما لم يعرف التاريخ مرحلة ثرية بالاختراعات والتقنيات كما اليوم. الصورة الفوتوغرافية حاولت أن تأخذ دور اللوحة الفنية، والكمبيوتر يعمل جاهدًا ليلغي الرسم والرسام ويأخذ مكانهما، فوقع تعليم الفن في المدارس الفنية في حيرة بل فوضى كبرى.

          هناك من يعمل بالتقنيات الفنية المعروفة عبر التاريخ، وهناك من سار وراء الاختراعات التصويرية الحديثة، وولد فريق ثالث، مزج ما بين الطريقتين، مسايرًا القديم والحديث معًا وإن كان هذا الحديث عاطلاً، معتبرًا أن حرية استعمال المواد المخترعة موسميًا هي التي تقود إلى الحرية في التعبير الفني. بينما يقول آخرون إن المواد المعروفة والتي برهنت على صلاحيتها وديمومتها هي المعبّرة عن الشكل واللون وهي التي تمثّل ما يطمح إليه المتلقّي للفن السّامي.

          المواد التي استعملت منذ قرون، بقيت لأنها برهنت على صلاحيتها وعلى نبلها، أمّا المواد التي تخترع كل يوم تبقى مواد ينقصها النبل.

          نعم، هناك مواد نبيلة ومواد غير نبيلة، تطغى عليها التجارة والترغيب في استعمالها، إذ هي تسهّل «للفنان» التلوين السريع والانتهاء السريع من «فبركة اللوحة». أعطي مثلا مادة «الإكليريك» acrylique، وأنا لست ضد هذه المادة، إلاّ أنها سهلة الاستعمال وتنشف بسرعة، الإكليريك له سيئاته وله أيضًا حسنات.

          من يذكر الإعلانات السينمائية التي كان رسامون يقومون برسمها قبل أن تقوم المطابع بهذا الدور رسامو الإعلانات السينمائية التجارية واليافطات السياسية هي الألوان الإكليريكية نفسها.

          أنا لست ضد هذه المادة، لكني أتكلّم عن الفارق بين الألوان الزيتية العميقة والنبيلة، وما بين هذه الألوان الجديدة، وهي ليست جديدة جدًا، فمادة الإكليريك اخترعت منذ أكثر من مائة سنة، وكأنها ولدت مع ولادة الحياة السريعة، والعمل السريع، وكل ما هو سريع في عصرنا.

          أول ما استعملت هذه المادة الجديدة كنت في إيطاليا في مؤسسة فنية Eduvavi Masta كان لي عقد فيها لخمس سنوات. كان يستعمل هذه المادة الفنان البلجيكي كورنيل Corneille، استعملتها أنا وراقت لي.

          لكني مع الوقت شعرت بالفارق الشاسع  بين مادة الزيت ومادة الإكليريك، أكاد أقول هو كالفارق بين سماع صوت أم كلثوم وسماع «مغنية معاصرة» وكم من «مغنيات إكليريكيات» معاصرات!!

          أنا لا أنتقد التلوين المائي، كلا.أول ما رسمت في السنين الأولى من عمري كان في الألوان المائية، ومازلت حتى اليوم وهي أصل التلوين في التاريخ، المنمنمات العربية والفارسية والتركية والهندية مرسومة بألوان مائية: أكواريل أو جواش وهي لو لم تكن مواد نبيلة لما كانت قد أبدعت لوحات تخطّت الزمان والمكان وصارت من الأعمال الفنية الإنسانية.

          كان الأكواريل يُعتبر حتى أوائل القرن العشرين مادة تابعة للرسم، تأتي بدرجة أقل من التلوين الزيتي، إلى أن أعطاها بعض فناني القرن العشرين ومنهم «راوول دوني» وبول كليه ورفاقه وغيرهم كثيرون، أعطوا مادة الأكواريل ما تستحقه من تفوق والصعود إلى مرتبة الفن الكبير، ولا ننسَ «دولاكروا» ودفاتره في المغرب العربي و«ترنر» الذي أعطى للتلوين المائي قيمته الجمالية الحقة، وجعله - هو وغيره الذين استعملوا الأكواريل للتعبير عن فنهم - في مرتبة عليا من الأعمال الفنية.

          لن أنسى المعلم الكبير بول سيزان Paul Cezanne، الذي درس نور الطبيعة بواسطة الأكواريل باقتصاد لوني يكاد لا يرى في الصفحة إلاّ لطخات لونية معدودة تعبّر عن سر الظل والنور بأجمل ما عُبّر عنه في تاريخ الرسم.

 

أمين الباشا