عباس جميل.. رحيل اللحن الحزين

عباس جميل.. رحيل اللحن الحزين
        

رحل عميد الأغنية العراقية عباس جميل قبل سنة وعدة شهور. ترى في ظل انعدام الأمن والاستقرار، هل لايزال العراقيون يتذكرون هذا الراحل المبدع؟

          هو فنان الشعب بامتياز، باق في الذاكرة العراقية، ما بقيت ألحانه تتردد عبر التسجيلات والإذاعة، غرستها في الأذهان حناجر مطربات ومطربين، اكتسبوا شهرتهم من خلال ألحانه الحية النابضة أبدًا. ولعل تاريخه يشهد بدوره الرائد في مسيرة الأغنية العراقية، حيث ترك بصمة مختلفة لا تمحوها سنون ولا أحداث، خاصة مع إنتاج تواصل على مدى نصف قرن.

          رحيل عباس جميل يعدّ خسارة أخرى تضاف إلى العديد من خسارات هذا البلد، وخاصة للأغنية العراقية، وقد انهار أحد صانعي مجدها، بعد أن سبقه إلى دار البقاء زملاء في التلحين: محمد نوشي ورضا علي وحسين قدوري وياسين الراوي وسعدي الحلي وغيرهم. ألحان عباس جميل تعرف حين سماعها مباشرة حتى من دون ذكر اسمه، فهو صاحب أشهر الأغنيات العراقية منذ الخمسينيات، وتحديدًا تلك، التي تغنّت بها صاحبة البحة المعروفة الراحلة زهور حسين، التي كان لها النصيب الأوفر من ألحان الراحل، وأوّلها: «غريبة من بعد عينك يا يمة»، ثم «جيت لهل الهوى أشتكي من الهوى»، «سلمى يا سلامة خنتي العهد وياي»، «سودة شلهّاني يا يمة»، «يا عزيز الروج»، «يا أم عيون حرّاقة»، «إنت الحبيب والله»، ولسليمة مراد «يا يمه ثاري هواي» للشاعر عبدالكريم العلاف. أما أغنية «يا أمي يا أم الوفا»، فهي من أكثر أغاني سعدون جابر نجاحًا إبان السبعينيات، وقد تعدت شهرتها العراق إلى الأقطار المجاورة. عرف عن عباس جميل أنه لم يتهاون يومًا في لحن أو يستسهل التكرار أو التقليد. بل تشم رائحة أرض بلده من ألحانه، إذ لم يحد عن تراث العراق حيث كان يعتبره تراث آبائه وأجداده وفنـًا أصيلاً لا يمكن إهماله. وصحيح إنه كان يستمد جملته اللحنية من بيئته ومحيطه، لكنه استنبط وابتكر جمله الخاصة ومن روحيته وإحساسه هو، فلم يقتبس من غيره ممن سبقوه، وفي الوقت ذاته لم يكن متشددًا أو متطرفًا في إخلاصه للتراث، بل كان يستمع إلى كل جديد في التلحين في العالم العربي، ونستشف من بعض ألحانه عشقه لجملة الطرب الشرقية المصرية، وبدا أنه كان يستمع إليها بشغف وحب، فكان وجدانه يخزن كل جميل. من هنا يمكننا أن نعرف سرّ تميّز ألحانه، فحين نستمع إلى لحن منه تبدو الأصالة واضحة مع كل نوتة وكل كلمة، لكن في الوقت نفسه تستمع إلى لحن تعبيري معاصر، يحاكي الحداثة والتطور كما في أغنية «ماني صحت»، للشاعر جبور النجار، فلابد أن تبقى هذه الخلطة السحرية في الأذهان بشكل لا يمكن تفسيره أحيانًا، فهي تظهر بوضوح قدرة الملحن على الخلق والإبداع من داخل المنظومة الميلودية العربية الشرقية.

          يقول جميل: إنني لا أقيد المطرب أو المؤدي بصرامة وهو يؤدي لحني، فألحاني في الحقيقة فضاءات مفتوحة رحبة، للمؤدي أن يتجول فيها شرط أن يحافظ على هيكلها الأساسي.

          وحسب الموسيقي علي عبدالله، أحد زملائه، يعتبر عباس جميل أول أكاديمي يتعامل مع المقام العراقي بطريقة أكاديمية وذكية، وانتقل بالمقام العراقي من المدينة إلى الريف والبادية وتعامل مع الموروث بألحان جديدة. فيما صنف الناقد سعاد الهرمزي نتاجات عباس جميل الغنائية، بأنها تقع في نقيضتين متضادتين، إحداهما عراقية صرفة وهي تلك التي تتمثل بألحانه لزهور حسين، وأخرى تكاد أن تكون مصرية صرفة تتمثل بأغنيتي (تحاسبني على الأيام) و (ما أظلمك يا ليل). ولكنه نجح في كلتا النقيضتين، ولم يضع أو يتشتت نتاجه أو هويته اللحنية بينهما. وهكذا ترك بصمتين مختلفتين في أعماله الكثيرة، كل بصمة تؤشر اتجاهًا معينًا في طريقة التلحين.

          وبالفعل نجد أن عباس جميل أثبت قدرة على فهم الروحية المصرية في التلحين واستيعابها، بعد أن أثبت قدرة على فهم الروحية العراقية في التلحين وبخاصة المعمقة للمقام العراقي والأغنية الريفية ومفرداتها التلحينية.

          هنا لابد من الإشارة إلى أن الفترة التي بدأ فيها الملحن نشاطه، ونقصد بها بداية خمسينيات القرن الماضي، كانت الفترة الذهبية للألحان المصرية، حيث بلغت ذروة نهضتها الموسيقية، وامتدّ أثرها ليعمّ البلاد العربية منذ الثلاثينيات، حين بدأت طلائع الأفلام السينمائية الغنائية انتشارها، والثورة التي أحدثها الفونوغراف والأسطوانة بحيث ساهم كل ذلك في انتشار الغناء المصري، وتأثيره في الفنانين، والملحنين العرب خصوصًا، والأذن العربية عمومًا.

          فكان لابد من أن يعشق عباس جميل الجملة اللحنية الشرقية، الآتية مباشرة من مصر، حاله حال معظم مجايليه من الملحنين في العراق أمثال محمد نوشي وجميل سليم وناظم نعيم وعلاء كامل ويحيى حمدي ورضا علي ووديع خوندة ومحمد جواد أموري وكوكب حمزة وآخرين كثر.

          ويعيد الراحل الفضل في استيعابه اللحن الريفي والتلحين على منواله، إلى تتلمذه على يد الفنان الريفي عبدالأمير الطويرجاوي، وبذلك تمكن من تلحين أغنيات تعبق برائحة الريف العراقي، لكن بروح تعبيرية رشيقة وراقية، مثل وحيدة خليل، التي أبدع لها رائعته: «ماني صحت يمه احّا، جا وين اهلنا»، وفيما بعد قامت فرقة إيطالية بإعادة توزيعها موسيقيًا حسب السلم الغربي، ولقيت النجاح والقبول من المستمع الإيطالي. وفي تعقيب للملحن عن هذا الحدث قال: أعتقد أن بساطتها وعفويتها هما السبب في نجاحها، كما أنها تحمل شحنة عالية من العاطفة والحزن والأسى الشفاف. هكذا فإن اسم عباس جميل سيبقى، ليس عبر ألحانه فحسب، بل من خلال التوثيق والتأريخ فهاهو حميد سعيد الشاعر العراقي المعروف يخلده في إحدى قصائده قائلاً:

          .... كانا يقترحان على القمر الأخضر
          أن ينزل ضيفًا
          حيث الليل البغدادي
          يطول.. يطول... يطول
          ولا تغضو الأوتار
          وعباس جميل
          يقيم طقوس الشجن الأبيض
          بمقام اللامي
          لا يفتأ يبحث عمّن رحلوا
          يسأل عمّن غادر من الأهل
          عن الدار...

          قاد عباس جميل فرقة الإنشاد العراقية، وأشرف عليها لسنوات عدة، وذلك بعد إعادة تشكيل أعضائها. وبقي يعمل في الإذاعة العراقية إلى ما قبل وقوعه فريسة المرض وألم الغربة، بعد الدمار الذي شهده بأم عينيه، ثم رحيل الأصدقاء وزملاء المهنة وهجرة الكثيرين عن بلدهم مما سبب له شعورًا بالغًابالأسى والوحدة.

لماذا زهور حسين؟

          لماذا كانت زهور حسين من أكثر المطربات اللواتي أدّين ألحان الراحل؟ ربما يمكن إعادة السبب أولاً إلى صوتها الذي تميز بالبحة الجارحة، التي لم توجد في أي صوت عراقي آخر في أي زمان، وهذه البحة هي التي جذبت إليها الأسماع العراقية المتلهفة إلى صوت مختلف عن كل من سبقنها أو جايلنها من المغنيات سواء سليمة مراد أو صديقة الملاية أو وحيدة خليل وغيرهن، ومن خلال هذه البحة، تمكنت من التعبير عمّا يجول في خاطر الملحن عباس جميل من أفكار وأحاسيس جيّاشة، وبالتالي وجد هو الآخر في هذا الصوت وهذه البحة ضالته حيث التمتع بأدائها الشجي والعفوي، كما وجد فيها صوتًا يجمع في طياته أحزان المراثي الحسينية ونبرة الشجن العراقية الصميمة بفطرية عالية الحساسية. وهي التي خبرت الغناء في الملاهي البغدادية منذ العام 1938، وأولها ملهى الفارابي، بعد أن جالت في الأعراس البغدادية، ثم ما لبثت بعد سنوات أن أصبحت مطربة في الإذاعة ينتظر المعجبون مشاهدتها عندما تدخل إليها أو تخرج.

          ولقد اشتهرت بالمواويل والأبوذيات وغناء بعض المقامات مثل الدشت، وأشهرها قصيدة للشاعر الأحوص مطلعها:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا


          وكذلك قصيدة للشاعر محمد سعيد الحبوبي مطلعها:

لح كوكبًا وامش غصنًا والتفت ريما فإن عداك اسمها لم تعدك السيما


          وربما نختلف مع الناقد عادل الهاشمي في وصف صوت زهور حسين الذي أحبه ملايين العراقيين، حين قال: «إن معدن صوتها غير نفيس، إنما يغشاه في الغالب رخص يزداد بتقطيع صوت يميل إلى الابتذال وتنعدم فيه روح التعبيرية تمامًا».

          وقد نوافقه في مسألة تقنية، هي الطبقة الصوتية العالية، التي كانت تغني منها، والتي جعلتها تصدح بالجوابات وتضعف في القرارات، المسألة التي لم يتفادها الملحنون حين لحنوا لها. وكذلك مسألة الفطرية في الغناء، حيث لم تتعاط المطربة تقنيات «الفوكاليز» أو علم الصوت، شأن معظم إن لم نقل كل المغنيات العراقيات في ذلك الوقت.

تحدث عباس جميل عنها قائلاً:

          تعرفت إلى زهور حسين سنة 1942 في دار الإذاعة حيث قدّمت مقام الدشت وأغنية عراقية قديمة. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الملحنون في البحث عن ألحان يقدمونها لصوت زهور حسين القوي الذي يتمتع بأبعاد غنائية كبيرة. فقد استطاعت أن تشق طريقها بنجاح كمطربة على الصعيد الشعبي، وعلى المستوى الغنائي في الوطن العربي. وفي سنة 1984 كان لي لقاء آخر معها حيث لحنت لها أغنية «أخاف أحجي وعليّ الناس يكلون»، تأليف محمد العزاوي، وهذه الأغنية حولت الخط الغنائي الذي كانت تسير عليه زهور حسين وهو تحول من الميزان الثقيل إلى الميزان السريع، لذلك وجدت لها شخصية متميزة لم ينافسها فيه سوى لميعة توفيق ووحيدة خليل، لأن الفنانتين كانتا تقدمان اللون الغنائي الريفي وهو الأقرب إلى لون زهور حسين.

          وقد تمكنت من أن أخلق نوعًا من المنافسة بين المطربات، وذلك عن طريق توزيع ألحاني على أكثر من صوت. وصوت زهور حسين تتخلله بحة محببة للقلوب، كانت تضيف إلى أذن المستمع الحنان والتعاطف وكانت تجربتي اللحنية معها في مقام البنجكاه والذي خرجت منه بأغنية «آني اللي أريد أحجي» من كلمات حارث سليم محمود. ومن أشهر الأغاني التي لحنتها لها «غريبة من بعد عينج يا يمه»، للشاعر عباس العزاوي، «يم عيون حراقة»، «جيت لهل الهوى»، «هله وكل الهلة»، أما آخر لحن قدمته لها ولم تغنه من كلمات كريم العلاف تقول كلماته:

وين ابن الحلال الشاف محبوبي يردلي لهفتي وحظي ومطلوبي


          وأذكر أنها قبل وفاتها بساعات زارتني في المدرسة التي كنت أعمل فيها حتى أكون معها لزيارة زوجها في سجن المثنى ولكن الظروف حالت دون ذهابي معها فسافرت هي وأختها وشقيق زوجها، وعلى طريق الحلة انقلبت السيارة فتوفيت أختها ونقلت هي إلى المستشفى، وبقيت غائبة عن الوعي قرابة عشرة أيام فارقت الحياة بعدها سنة 1964. يقول الملحن الكبير طالب القره غولي: ترك عباس جميل الكثير من الأغنيات، وليس المهم أنه قدم ألحانًا مميزة، بل إنه أسهم في إعادة صياغة الذائقة العراقية عبر ألحانه الجميلة.

          وأشار القره غولي إلى أن أرض الرافدين القادرة على إنتاج المبدعين دومًا، قادرة على تعويض الخسارة الكبيرة التي تركها فنان كبيــر بمواصفات عباس جميل.

عباس جميل .. في سطور

          - ولد عباس جميل عام 1912 في محطة سراج الدين في منطقة باب الشيخ وسط بغداد. وغادر أهله وعراقه وفنه يوم الخامس من يناير من العام 2006 بعد صراع مع المرض.

          - تخصص في العزف على العود دارسًا لمدة سبع سنوات في معهد الفنون الجميلة ببغداد.

          - تزوج وله ولدان: فيصل وهو مطرب وسحر عازفة على آلة الكمان ومذيعة تلفزيونية.

          - لحن أولى أغنياته عام 1984.

          - دخل الإذاعة العراقية عام 1984 ومارس فيها نشاطه حتى أواخر أيامه، وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي كان يمر بها العراق لم يشأ مغادرته كما فعل الكثير من زملائه.

          - لاتزال أغنية «غريبة من بعد عينك يا يمة» شاهدة على قدرة ملحن استطاع تصوير حب الابنة لأمها عبر لحن معبّر ومتنوع ويمكن اعتبارها، على الرغم من بساطتها الميلودية، توازي في أهميتها المعنوية أغنية «ست الحبايب» التي أبدعها محمد عبدالوهاب لفايزة أحمد.

          - عمل مديرًا لفرقة الرافدين الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة.

          - كان عضوًا في اللجنة الوطنية للموسيقى العراقية واللجنة الاستشارية لبيت المقام العراقي.

          - في آخر ظهور له، أثناء تكريمه من قبل اتحاد ديوان شرق غرب في بغداد، قال عباس جميل: إن أهم انعطافة في حياته تمثلت بقبوله في دار الإذاعة العراقية إذ شعر بعمق المسئولية الملقاة على عاتقه، حين كان الوسط الفني يشكو أمية موسيقية وكان المثقفون موسيقيًا قلائل على الساحة الفنية والمتداول فيها قوالب مكررة لا إبداع ولا جديد فيها.

          وتذكر أساتذته في معهد الفنون الجميلة مثل سلمان شكر عازف العود المبدع وكذلك الشريف محيي الدين حيدر وجميل ومنير بشير وتقنيتهما العالية في العزف على العود. وردد، أنا سعيد لأني ظللت متمسكًا بتراث آبائي وأجدادي في الفن الأصيل. وأكد أخيرًا أن مسيرة الفن العراقي ستتواصل على الرغم مما اعتراها في الآونة الأخيرة من خمود وخضوع لسلطة الفن الغجري الذي يخاطب الأقدام لا الرءوس.

نص أغنية: غريبة من بعد عينك يا يمه
مقام البنجكاه. شعر: عباس العزاوي, لحن: عباس جميل, غناء: زهور حسين

غريبة من بعد عينك يا يمه
محتارة بزماني
يا هو اليرحم بحالي يا يمه
لو دهري رماني
حاكيني يا يمه
فهميني يا يمه
غريبة من بعد عينك يا يمه
محتارة بزماني
قلبي لو فرح إنتي فرحتي
قبلي يا حبيبة
ترد الروح لو يمي قعدتي
يا لريحتج طيبة
حاكيني يا يمه
فهميني يا يمه
غريبة من بعد عينك يا يمه
محتارة بزماني
قضيتي لجلي أيام وليالي
سهرانة عليّ
لو شفتي الألم أثر بحالي رضيتي بالمنية
حاكيني يا يمه
فهميني يا يمه
غريبة من بعد عينك يا يمه
محتارة بزماني
أريدج يوم لا تغيبين عني
يا روحي يا يمه
عذابي لوكثر ويزيد ونّي
من يسمع الكلمة
حاكيني يا يمه
فهميني يا يمه
غريبة من بعد عينك يا يمه
محتارة بزماني

 

سحر طه