40 عاماً على رحيله.. محمد الدمخي.. الواقع الكويتي بألوان زاهية

40 عاماً على رحيله.. محمد الدمخي.. الواقع الكويتي بألوان زاهية
        

          تمثل تجربة الفنان الراحل «محمد الدمخي» واحدة من التجارب البارزة والرائدة في الحركة التشكيلية الكويتية، في وضع اللبنة الأولى لفن التصوير الواقعي، وترك أثرًا واضحًا على التشكيل الكويتي حتى منتصف الستينيات.

          ماذا عن الإنجاز الجمالي لهذا الفنان؟

          في محاولتنا الإجابة عن هذا السؤال والبحث عن جماليات هذه التجربة، واستشفاف خصوصيتها، لاندعي الإحاطة بكل ما قدمه الفنان، لكننا سنعمل على تسليط الضوء على الجوانب التي نراها مهمة ونعطي فكرة عن المواضيع والصيغ الفنية الجمالية التي قدمها عبر رحلته القصيرة.

          وحتى نستطيع أن نقدم ما تحدثنا عنه، علينا أن نلقي الضوء على حياته ومسيرته الفنية، ونحلل أهم أعماله.

          ولد الفنان محمد الدمخي في 15 فبراير عام 1943، في فريج عبد الله بن عساف احد أحياء الكويت القديمة بعد عودة أبيه بثلاثة شهور من رحلة الغوص عن اللؤلؤ في الخليج.

          وبدأ الطفل يكبر، ويترعرع، وبالتدريج أخذت موهبته تنمو، وبدأت رسوماته تظهر على جدران منزله ومنازل أقاربه، وبعد أن دخل المدرسة أصبح الرسم شغله الشاغل، وفيها حاول أن يتعرف على أصول الرسم وتقنياته، وبشكل خاص تقنية الألوان المائية، وساعده في ذلك أساتذته، الذين عملوا على رعايته وتوجيه موهبته، تلك الرعاية ساعدته في المرحلة المتوسطة على تقديم المواضيع المهمة التي كانت تشغل ذهنه منذ صغره عندما كان يقضي معظم أوقاته على ساحل البحر متأملاً لونه وسماءه وأمواجه وتقلباته.

          بعد انتقاله إلى مدرسة الشويخ الثانوية، واصل «الدمخي» رسم اللوحات المائية والزيتية، المستمدة مواضيعها من البحر، والحارات القديمة، والتراث، والبيئة.

          لكن هذه التجارب التي اقتصرت على ما ذكرناه، لم تكن تمثل بالنسبة للفنان إلا البداية الأولى، التي كان هدفها امتلاك ناصية قواعد الرسم وتقنياته، لذلك كان يتردد على المرسم الحر الذي أنشأته وزارة التربية والتعليم الكويتية عام 1960، لمتابعة نشاطه الفني والاحتكاك مع زملائه للاستفادة من آرائهم النقدية في الأعمال التي كان ينجزها. وفضلا عن ذلك كانت تدور مناقشات حول فن الرسم وتقنياته، ففي بيئة كهذه نشأ الدمخي، فلا عجب إذن أن يصبح متميزًا في فنه، ولا غرابة أن تتفتح روحه ومداركه على حب الفن لأن البيئة التي تربى فيها بيئة غنية بالموروث الشعبي.

عالم الواقع

          في عام 1961، اشترك الفنان «الدمخي» في معرض الربيع الثالث، بلوحتين نفذتا بالأسلوب الواقعي وهما: (الطاحونة وعمل السمن)، ومن هنا كانت بداياته الفنية حيث تدل هاتان اللوحتان على حساسية التعبير اللوني عند الفنان وقدرته على تسجيل الموضوع المرسوم، وإتقان الأصول المدرسية الواقعية والتسجيلية.

          بعد ذلك قدم مجموعة من اللوحات التي تتناول الصحراء والبحر، مثل لوحات: (صانع البشوت) والحراز (صانع الأحذية والحبال)، و(صائد الطيور)، والحداق (صائد السمك)، وبائعة الفول، وغيرها من المواضيع البيئية.

          بعد حصوله على الثانوية العامة في عام 1965  قرر أن يذهب إلى القاهرة لدراسة الفن دراسة أكاديمية، وهناك أمضى «الدمخي» المتعطش للمعرفة والفن، الشهور الأولى له في القاهرة، يتجول من متحف إلى آخر، يقف الساعات الطوال متأملاً وفاحصاً ودارساً... وكان أستاذه في كلية الفنون آنذاك الفنان التشكيلي الكبير «عبدالهادي الجزار» الذي تعلم منه معاني التأليف والتضاد، وتوازن الأشكال والكتل، والتكامل في الألوان، ولعل من أهم المؤثرات التي ملكت اهتمام الفنان، اطلاعه الوثيق على المآثر التي تركها قدماء المصريين، بالدرجة الأولى، والاطلاع الحي على تجربة أستاذه «الجزار».

          في هذه المرحلة وبالتحديد في السنة الأولى بدأ الفنان الدمخي كما يقول الفنان القطري يوسف أحمد: «ينحو نحو البساطة والوضوح في الأسلوب، وذلك لإيمانه التام بأن الفن لا بد أن يكون لغة تفاهم بين الفنان والجمهور، ولا بد أن تكون هذه اللغة أيضًا مفهومة ومنطقية غير محيرة، فقد اتخذ من هذه المقولة أساسًا لبناء لوحاته الفنية!».

          في هذه الفترة مر الفنان بأزمة عاطفية، انعكست عليه بشكل قوي، وهزته من الأعماق، ولهذا انعكست على مسطح لوحاته فيما بعد، وأصبح يختار المواضيع الأكثر تمثيلاً لظواهر الحياة المأساوية التي أصبحت مادة للتعبير الفني، وهكذا تحول الفن عنده إلى وسيلة للكشف عن قسوة الحياة. وقد مثلت أعماله التي أنجزها خلال إقامته في القاهرة، وحتى رحيله، مرحلة مهمة وبارزة من مراحل تطور تجربته وعلى مختلف الصعد، إلا أن القاسم المشترك لمختلف اللوحات التي أنتجها، يكمن في تصويره لمختلف المواضيع المرتبطة بالواقع الكويتي والمستوحاة من:

          البيئة البحرية وعوالمها، كما في لوحاته: «البحار، الحظرة، على الشاطئ، ساحل السالمية، تصليح الشباك..».

  • البيئة الصحراوية، كما في لوحاته: «راعي الغنم، الحبال، المنقف، الفنطاس، الربابة».
  • العادات الشعبية، كما في اللوحات: « بياعة الباجلة، المطرب، العروس، الحجلة».
  • الطبيعة وتقلباتها، كما في اللوحات: «الغروب، المطر، العاصفة، الغريق، الفجر الحزين».

          والمشاهد لتلك اللوحات يلاحظ أن الفنان قدم مشاهد معبرة وذات صلة بالحياة اليومية للإنسان، وما قدمه ما هو إلا نتيجة لتفاعل الفنان مع المشاهد الحيوية التي شاهدها في حياته، وبذلك عمل على الإحاطة بما يعانيه الإنسان، وبرزت تلك المعاناة على الوجوه، وعلى الأيدي، وعكست لوحاته أيضًا العالم الذاتي له مثل: العشق والأحزان والآلام وفراق الوطن والأحبة ومختلف الحالات الإنسانية... حتى أيام المطر انعكست في صور مأساوية.

حورية البحر

          لوحة «فتاة الشاطئ» 1965 يعود الفنان الدمخي  بذاكرته إلى شاطئ الكويت، فرسم فتاة كأنها حورية خرجت من البحر واستقرت على اليابسة، وقد جلست في الوسط السفلي من التكوين تنظر إلى البحر وإلى ذلك الجسر الخشبي، ونلاحظ أن الفنان أجلس الفتاة جلسة نحتية مما أعطى قيمة تشكيلية لها من حيث الإحساس بكتلة جسدها، ونلاحظ من خلال هذا العمل تأثره بقدماء المصريين بالكتلة والتجسيم.

          التكوين في اللوحة يركز على الفتاة، واللون المستعمل له صفة الجرأة والثقة، فالأصفر للأرض يقابله الأزرق القوي للبحر والسماء ولفستان الفتاة.

          عناصر اللوحة تحولت إلى صياغة شاعرية، مليئة بالحب لهذه المرابع الطفولية التي عاشها الفنان وأيقظت بداخله الحب القديم، وأشعلته على مسطح اللوحة.

          لوحة «السمن» نرى في هذه اللوحة فتاة بلباسها الشعبي وقد جلست باتجاه جانبي وهي تخض الحليب عبر «قربة مصنوعة من جلد الغنم»، للحصول على السمن أو الزبدة البلدية، وإلى جانبها بعض الأواني المنزلية، ويوجد من جانبها الآخر بقرتان واحدة جالسة والثانية واقفة أمام البيت الذي يقطع الثلث الأول من اللوحة، ونلاحظ في هذه اللوحة من خلال التشريح الجسدي للفتاة الرؤية المتحررة والمريحة لجلستها وهي في انتظار السمن.

          استخدم الفنان في اللوحة الألوان الدافئة القوية الصريحة بالإضافة إلى اللون الأخضر الفاتح مع تنويعات من الأصفر في بهجة لونية أعطت ثراء للعمل الفني.

          لوحة «الغريق» 1966 تمثل هذه اللوحة إنسانًا يغرق، ويحاول من خلال يده المرفوعة إلى الأعلى، الاستغاثة، وطلب النجدة من القوارب الشراعية التي تحيط بيده من بعيد، سواء في الأمام أو الخلف. ونلاحظ في هذا العمل بأن خطوطه التي أوحت بها ضربات فرشاته، قد عبرت عن حركة المياه بشكل متكرر ومتناغم في اتجاه أفقي مائل إلى الأسفل، كما نرى الاتزان في حركة اليد المرفوعة في تضاد مع حركة المياه.

          والمشاهد لهذا العمل يشعر بالمأساة العميقة الدلالة، وهذا ما أراد الفنان إيصاله عبر مختلف الحلول التي لجأ إليها سواء في حركة المياه أو حركة السحب التي تولدت بشكل قوسي حول قرص الشمس، وتناغم حركة القوارب معها، مما أعطى الإحساس بالخطر وبالمأساة، وهنا يلاحظ بأن الفنان قد لخص التكوين واختصره بإيجاز ذكي مما أعطى اللوحة قوة بنائية في بساطة عناصرها، موحيًا بجو الخوف والرعب من عدم النجاة في هذا الجو الرهيب، ليكون العمل في النهاية تراجيديًا في حجمه وقوة تأثيره.

          لوحة «الباجلاء»: اللوحة عبارة عن امرأة جالسة تبيع بعض المأكولات الشعبية الكويتية لطفلين، واحد جالس يتذوق الأكل، والآخر واقف ومعه صحنه ينتظر دوره في الشراء، وفي الخلف رسم الفنان حيًا شعبيًا ببيوته الطينية المميزة، ويبدو في مقدمة البيوت فرن خبز مشرعة أبوابه.

          نلاحظ في هذه اللوحة اهتمامه بالتناسق اللوني والمقامات اللونية من حيث النغمة والإيقاع اللوني والهارمونية التي يحدثها تجاور الألوان داخل اللوحة.

          لوحة «سنة هدامة» 1966: عمل الفنان في هذه اللوحة على ربط الإنسان بالخلفية التي تشير إلى ساحة منزل عبر البوابة الرئيسية. وهكذا يأتي البناء التشكيلي ليخدم جماليته ومحتواه مع التركيز التعبيري على الشخص الذي يحمل «مجرفة» يحاول من خلالها تصريف مياه الأمطار التي داهمت منزله، وعبر هوية الألوان البيئة والثياب الشعبية نصل إلى الجانب المحلي.

          لوحة «الفجر الحزين»: رسم الفنان في مقدمة هذه اللوحة تابوتًا، ومن الجهة اليمنى رسم شجرة جرداء، أصبحت بما تعانيه من مأساة تعكس عوالم الفنان الداخلية، كما رسم لنا الفجر المنهل قبل بزوغه في جو مضطرب كئيب، وظهر فيه اللون الأسود بتأثيره العميق، أما السماء فبدت في احمرار شديد. وهكذا يسيطر الحزن على أجواء هذه اللوحة، ويعبر عن الحزن باللون. لقد بلغ صدق الفنان «محمد الدمخي» الفني في هذه اللوحة وغيرها من اللوحات درجة جعلته يبدو وكأنه يرسم بدم قلبه ليعبر عن مشاعره الوجدانية والإنسانية.

          وبدا فناننا برسمه لهذه اللوحة وكأنه كان يتوقع اقتراب نهايته، وبأنها ستكون اللوحة الأخيرة التي يصور فيها بصدق كبير حالته المحزنة التي وصل إليها، حيث بدأت أعراض المرض تدب في جسده، وأصيب بنزلة شعبية حادة، دخل على أثرها المستشفى، حيث فارق الحياة في فجر يوم السبت 8 أبريل 1967 م. وبرحيله فقدت الحركة التشكيلية الكويتية والعربية تجربة طليعية ورائدة.

يا أَيُّها العاذِلُ فـي حُبِّهـا لَست مُطاعًا أَيُّها العـاذِلُ
أَنتَ صَحيحٌ مِن جَوى حُبِّها وَحُبُّها لـي سَقَـمٌ داخِـلُ
إِنَّ الَّذي لاقيتُ مِن حُبِّهـا لَم يَلقَهُ حـافٍ وَلا ناعِـلُ
المَوت خَيرٌ مِن حَياةٍ كَـذا لا أَنا مَوصول وَلا ذاهِـلُ


عمر بن أبي ربيعة

 

غازي أنعيم   





 





«حافر المنهول» حفرة مستطيلة كانت تنصرف فيها المياه الزائدة خارج المنزل.. استعادة لبعض تقاليد البناء القديمة في الكويت





لوحة «راعي الغنم» وهو يخرج الماء من البئر.. ومن بعيد تلوح بعض معالم الكويت





لوحة «فتاة السمن» وهي تقوم بخض اللبن أحد المهام الأساسية للمرأة في البادية





لوحة «فتاة الشاطئ» 1956





«شاطئ السالمية» 1958





«بائعة الباجلاء» امرأة تبيعه المأكولات الشعبية داخل الحارة