السير هنري ريبورن: الآنسة إليانور أوركهات

السير هنري ريبورن: الآنسة إليانور أوركهات
        

          كان الفن بالنسبة إلى السير هنري ريبورن (1756 - 1823)، مجرد عمل وأقرب إلى الوظيفة. فقد كان هذا الفنان الاسكتلندي الشهير يتوجه كل يوم عند التاسعة صباحا إلى محترفه، ويغادره عند الخامسة والنصف مساءً، بعد أن يكون قد رسم ثلاثَ أو أربع صور شخصية. وبعد خروجه من محترفه لم يكن يتعاطى بأي شأن فني، بل ينصرف إما إلى المضاربة بالعقارات، أو إلى لعب الجولف. ولكن هذه الحياة التقليدية المنتظمة مثل الساعة أنجبت فنًا غير تقليدي على الإطلاق.

          فعندما كان ريبورن شابا، اعتمد في فنه على مايراه أمامه فقط، ولم يكن يثق بالذاكرة حتى عندما كان يرسم أدق التفاصيل الصغيرة الملحقة بخلفية الموضوع. صحيح أن هذه الممارسة أصبحت شائعة اليوم، ولكنها في أواخر القرن الثامن عشر كانت فريدة من نوعها. وباعتماده على المراقبة الثابتة للنموذج الجالس أمامه، طوَّر ريبورن أسلوباً طغى بنجاحه على أساليب معاصريه.

          فقد بقي هذا الفنان لبعض الوقت يعمل وفق منهجية رسامي الصور الشخصية من معاصريه، والهادفة إلى رسم الشخص في وضعية ولحظة هادئة تعبِّر قدر الإمكان عن شكله ومكانته وحتى نفسيته. ولكن أداء ريبورن كان يتطور بفعل التكرار، حتى وصل إلى مستويات لا مثيل لها عند غيره من رسامي الصور الشخصية في ذلك القرن.

          فمن المدهش أن الرسَّام لم يضطر في صورة الآنسة إليانور أوركهات إلى أن يغيِّر ضربة فرشاة واحدة. ومثل هذا النجاح في الرسم المباشر يعتمد بالدرجة الأولى على مرونة اليد وثقة الفنان بنفسه. ففي اللحظة التي يخطئ فيها أي رسام في التعبير عن خط معين أو ظل محدد، عليه أن يعيد رسم الموضوع نفسه، الأمر الذي يطيح بنضارة اللوحة.

          والواقع أن المرَّات التي فشل فيها ريبورن كانت أكثر عدداً من نجاحاته. ومعظم أعماله تعاني الأخطاء نفسها التي تعيب الصور الشخصية الحديثة: فإما أن الطلاء سميك نتيجة الرسم عدة مرات، وإما الظلال داكنة جداً، وإما الألوان باهتة جداً.. إلى ما هنالك. صورة الآنسة أوركهات هي استثناء مميز بشكل باهر. فهي تشع نضارة وتخلو من أي عيب. ومن السهل أن نتخيل أن الفنان كان قد أعجب بجمال هذه الأرستقراطية، فنسي التردد والحسابات الباردة، لينطلق بضربات أولى من ريشته في رسم هذه المرأة الجميلة، منجزاً في ساعات قليلة تحفة حقيقية، وواحدًا من أفضل أعماله على الإطلاق. وكأن بالسير هنري ريبون قد عمل مسبقًا بالنصيحة التي أعطاها لاحقًا الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير للرسامين، عندما قال: «كونوا نظاميين وعاديين في حياتكم اليومية، حتى تتمكنوا من أن تكونوا عنيفين ومبدعين في أعمالكم».

 

عبود عطية   





السير هنري ريبورن، «صورة الآنسة إليانور أوركهارت»، (1793) (75 - 62 سم)، ناشيونال غاليري، واشنطن