سيلفستر ستالون.. العودة الأخيرة للملاكم القوي

سيلفستر ستالون.. العودة الأخيرة للملاكم القوي
        

بعد ثلاثين عاما على ابتكاره شخصية الملاكم الملقّب بـ «الفحل الإيطالي»، والتي كونت السلسلة السينمائية التي صنعت مجده وبدت كأنها وسمته بملامحها فإذا به يعجز عن التحرّر منها، عاد هذا الممثل إلى «روكي بالبوا» من جديد في فيلم يُمكن اعتباره بمنزلة الوداع السينمائي لهذا الملاكم.

          كانت مرحلة وانتهت، ربما يُمكن بهذا التعبير اختصار السيرة المهنية لسيلفستر ستالون. فعلى الرغم من عودة الشخصية التي جعلته واحدا من أشهر نجوم تلك المرحلة إلى الظهور مجدّدا على الشاشة الكبيرة، فإنه لا يزال ينتمي إلى هذا الزمن الذي مضى، وهو زمن «نجوم» قدموا إلى الفن البصري من «عضلاتهم» التي لا تُقهَر، وظلّوا أبطالا ينقذون أمريكا والأرض والعالم من غزوات أعداء متنوّعي الميول والاتجاهات والأديان والثقافات والحضارات، دفاعا عن هذه الـ«أمريكا» المنزّهة عن كل عيب، والمستمرّة في تأليه البطل الفرد القادر وحده على سحق كل من تسول له نفسه التطاول على هيبة القطب الأبرز. أما المرحلة التي انتهت، فهي تلك التي شكّلت منعطفا سياسيا وثقافيا في داخل الولايات المتحدّة الأمريكية، وفي موقعها الدولي إزاء الجبّار الأحمر (الاتحاد السوفياتي السابق)، أي مرحلة السبعينيات والثمانينيات، التي شهدت أحد الفصول الحادّة في الحرب الباردة، والتي تطلّبت بذل جهود متنوّعة للترويج للثقافة الأمريكية في مواجهة الشرّ القادم من الشرق، خصوصا تلك الثقافة التي تلتزم حرية الفرد في تحقيق طموحاته في «أرض الأحلام»، والتي تصنع من الفرد العادي بطلًا لا يُقهر. وإذا مزجت أفلام عدّة لهؤلاء النجوم، وإن بشكل مبطّن، السياسة بالفن، فإن بعضها الآخر أقرّ بشرعية استخدام العنف الفردي في سبيل الدفاع عن الذات والوطن والمجتمع والناس. إلى ذلك، يُمكن التعاطي مع هذه الأفلام كلّها انطلاقا من كونها أفلام حركة وتشويق وعنف، بتجريدها المطلق من أي بُعد سياسي أو ثقافي خاصّ بالأمّة الأمريكية.

نخبة العضلات المفتولة

          في هذه المرحلة نفسها، برزت أسماء «نجوم» آخرين، شكّلوا مع سيلفستر ستالون نخبة من «المقاتلين» ذودًا عن الأمّة الأمريكية والحلم الأمريكي والفرد الطموح الذي يواجه الصعاب كلّها التي تفرضه الجماعة عليه، انتصارا لحقّه الإنساني (وإن استخدم العنف سبيلا لتحقيق ذاته في هذا المجتمع)، بأشكال مختلفة بلغت، أحيانا، حدّ التناقض. واللافت للانتباه أن معظم هؤلاء يتحدّرون من أصول أوربية: فستالون إيطالي الجذور، وجان كلود فاندام بلجيكي الأصل، وآرنولد شوارزينغر جاء من النمسا إلى هوليوود، قبل أن يصبح حاكما لولاية كاليفورنيا. هناك أيضا، وإن في فترة لاحقة، ستيفن سيغال الذي ترك عمله في «وكالة الاستخبارات المركزية» لـ«يتفرّغ» للفن البصري الذي استكمل فيه بطولاته الاستخباراتية والقتالية. بعض نجوم العضلات المفتولة هؤلاء حقّقوا أرقاما خيالية في جيوبهم وفي خزائن المنتجين الذين اعتقدوا أن نجاح فيلم ما يعني أن تحقيق أجزاء متلاحقة سيدرّ حتما أرقاما متشابهة من الأرباح. سيلفستر ستالون، مثلا، كان يتقاضى عشرين مليون دولار أمريكي عن دوره في كل فيلم، وهذا مبلغ يعني ثروة، مع أن غالبية الأفلام التي مثّل فيها ظلّت دون المستوى الفني والدرامي والجمالي المطلوب. أما سخرية القدر فتجلّت في أن ستالون احتاج إلى هذا المبلغ نفسه لتحقيق الجزء السادس من مغامرات روكي بالبوا.

          لعلّ المشكلة الأبرز التي عانى ستالون تداعياتها السلبية على حضوره السينمائي، تكمن في نطقه غير السليم بسبب خلل بيولوجي. لكن المتابعة النقدية لغالبية أفلامه، تكشف أنه لم يكن ممثلا محترفا بقدر ما استفاد من عضلاته المفتولة لتقديم أفلام انتمت إلى التشويق والمغامرة والمطاردات، خصوصا في سلسلتي «روكي» (الملاكم) و«رامبو» (المقاتل في الجيش الأمريكي). هناك استثناء واحد على الأقلّ: «أرض الشرطة» (كوبلاند)، الذي حقّقه جيمس مانغولد في العام 1997، والذي برهن فيه ستالون، بشكل مفاجئ، على براعة أدائية لافتة ومهمّة، إلى جانب روبرت دي نيرو وهارفي كايتل وراي ليوتا. غير أن هذا الاستثناء ظلّ يتيما بين كَمّ لا بأس به من الأفلام العادية. ثم إن عدم احترافه التمثيل ظاهرٌ في مسألة ثانية: نجاح آرنولد شوارزينغر، مثلا، في اختبار تنويعات سينمائية تراوحت بين الخيال العلمي والكوميديا والأفلام البوليسية، بشكل جدّي، في حين أن ستالون لم يستطع تقديم أدوار كوميدية أو درامية ناجحة ومهمّة. أما جان كلود فاندام وستيفن سيغال، اللذان اختارا مواد درامية مرتبطة بقضايا البيئة والمناخ والنفايات السامّة في بعض أفلامهما، فلم يخرجا عن السمة التي طبعتهما منذ البداية: عضلات مفتولة، وانتصار فردي دائم على الجماعات الفاسدة والعصابات، من دون أدنى تطوّر أدائي ودرامي وجمالي. شوارزينغر مختلفٌ: تمكّن من تطويع عضلاته، التي لا يتخلّى عنها في أفلامه، في خدمة مسائل وأنواع سينمائية أخرى. ففي ثلاثة أفلام كوميدية أنجزها إيفان رايتمان، «توأم» (1989) و«شرطي حضانة الأطفال» (1990) و«جونيور» (1995)، بدا شوارزينغر متمكّنا من حضوره الكوميدي الممزوج باستخدام تلك العضلات المشهورة في بعض المواقف واللحظات، وقابلا لأن يكون ممثلا محترفا إلى درجة لافتة للانتباه. ذلك كلّه على نقيض السيرة المهنية الخاصّة بسيلفستر ستالون، الذي لم يستطع يوما أن يتحرّر من صورة المقاتل في الحلبة (روكي بالبوا) وفي حقول القتل (جون رامبو)، على الرغم من أنه مثّل في فيلمين كوميديين اثنين فقط: «توقّف! وإلاّ فإن والدتي ستطلق النار» لروجر سبوتيسوود و«أوسكار» لجون لانديس في العام 1992. أما الأنواع السينمائية الأخرى، فظلّت دون المستوى الأدائي والفني المطلوب.

بين الشر والحق

          بين روكي بالبوا وجون رامبو، أمضى سيلفستر ستالون (مواليد نيويورك، في السادس من يوليو 1946) أعوام السبعينيات والثمانينيات في محاربة الشياطين القادمة إلى الغرب من أقطار عدّة في العالم، وفي تثبيت المقولة الشهيرة التي تفيد بأن الفرد قادرٌ على الانتصار لحقّه الشرعي في فرض حضوره الإنساني. وإذا تضمّنت هاتان السلسلتان نقدا (مبطّنا وواضحا في آن واحد) للقيادة الأمريكية، ومقارعة جلية للشرور الناتجة من دول ومجتمعات «أدنى» مستوى من الحضارة الأمريكية، إلاّ أن بعض أفلام السلسلة الأولى حافظت على مسافة كبيرة من هذه العناوين، بتوغّلها في تصوير السيرة الذاتية للملاكم، وإن مرّت في السياسة والاقتصاد والمجتمع. مع هذا، يُمكن القول إن شخصيتي روكي ورامبو ارتكزتا على محاربة العدو، سواء على الحلبة أو في حقول القتل الممتدة من فيتنام (الجزآن الأولان من «رامبو: دم أول» لتد كوتشيف في العام 1982 ولجورج بان كوزماتوس في العام 1985) إلى أفغانستان (الجزء الثالث من «رامبو» لبيتر ماكدونالد في العام 1988)، ومن الشيوعية إلى المتحدّرين من أصول وأعراق أضعف وأخطر. في السبعينيات والثمانينيات، كان الصراع بين الشرق الشيطاني الشرير (الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية) والغرب الديمقراطي والمنفتح (الولايات المتحدة أولا وأخيرا) محتدما. وكانت القيادة الأمريكية محتاجة إلى دعم سينمائي لم تبخل به هوليوود في تاريخها السينمائي والتلفزيوني العريق، وإن مارست هذه الأعمال نقدا لها في بعض خطواتها السياسية أو العسكرية، في محاولة بصرية للإشارة إلى وجود فاسدين في السياسة والقيادة، لا تتخلّص القيادة الأمريكية منهم إلاّ بفضل بطولات فرد واحد. مع هذا، لا بدّ من الإشارة إلى أن أفلام السلسلتين (ستة أفلام لروكي وثلاثة لرامبو) يُمكن مشاهدتها بعيدا عن أي إسقاط سياسي، لأن روكي بالبوا حاول أن يكون بطلا في الملاكمة، وإن غلّف مساره المهني والحياتي بتلميحات سياسية واجتماعية يسهل على المُشاهدين الانتباه إليها، خصوصا في الجزء الرابع، حين واجه الملاكم الروسي المتعجرف إيفان دراغو (دولف لاندغرين) في الفيلم الذي أخرجه ستالون في العام 1985، انتقاما لمقتل مدرّبه وصديقه أبّولو كريد (كارل ويثرز)، الذي كان «عدوّه» اللدود في الجزئين الأولين، وقد أخرج جون جي. آفيلدسن الأول في العام 1976، بينما تولّى ستالون تحقيق الجزء الثاني في العام 1979.

          في العام 2006، أطلّ ستالون مجدّدا في الشخصية التي «كافح» طويلا للتحرّر منها، بعد أن وسمته بسماتها، علما أنه «ناضل» كثيرا ليُسمَح له بتجسيدها على الشاشة الكبيرة عند ولادتها للمرّة الأولى. فبعد ثلاثين عاما على كتابته السيناريو الأول في تلك الغرفة الضيّقة جدا، التي «كان يفتح بابها بيد ويُغلق نافذتها باليد الأخرى»، وبعد سنين طويلة من مرارة الفشل والضياع والظهور في أفلام عادت غالبيتها بخسائر مالية على منتجيها، ومعنوية عليه هو، وبعد ستة عشر عاما على تحقيقه الجزء الخامس (أكثر أفلام السلسلة خسارة مالية، إذ بلغت إيرادات الصالات الأمريكية أربعين مليون دولار أمريكي فقط، بعد أن بلغت الإيرادات نفسها التي حقّقها الجزء الرابع 127 مليون دولار أمريكي)، وجد ستالون أن المحاولة تستحق جهدا وكفاحا جديدين: استعادة روكي بالبوا من غياب طويل، كأنه يريد أن يروي، بالطريقة التي يريدها، الفصل الأخير من تلك السيرة، في جزء سادس حقّقت إيراداته الأمريكية خمسة وسبعين مليون دولار أمريكي. لكن المفاجأة كامنة في أن ستالون، الذي بلغ عامه الستين عندما حقّق هذا الجزء، بدا متعبا و«عجوزا» ومثقلا بكمّ هائل من الذكريات المتناقضة والانكسارات والخيبات، وهو يرتدي زيّ الملاكم لمرّة أخيرة في حياته، ربما.

          إذن، في العام 1976، أمضى ستالون أسابيع عدّة في كتابة السيناريو الأول (حكاية شاب يعمل مُحَصِّلا للديون لحساب أحد رجال العصابات الصغيرة، ويمارس الملاكمة ليجني بعض المال، قبل أن يجد نفسه في مواجهة بطل العالم للوزن الثقيل أبولو كريد، المعروف بأنه «سيّد الكوارث»، والباحث عن «ضحية» جديدة يؤكّد بفضل هزيمتها أمامه استمرار تربّعه على عرش البطولة)، كما أمضي ستالون أشهرا أطول في بحث دءوب عن منتج للفيلم، ويُقدّمه في تلك الشخصية التي لم يستسغ كثيرون أن يمثّلها هو على الشاشة الكبيرة، إلى درجة أن البعض حاول أن يدفع له مبلغ 330 ألف دولار «كي لا يؤدّيها سينمائيا». لكنه أصرّ، ووافق على أن يتقاضى 23 ألف دولار «فقط لا غير» لقاء تمثيله الشخصية، وأُنجز الفيلم الذي حقّق في السوق الأمريكية وحدها 117 مليون دولار، ونال عشرة ترشيحات لجوائز «أوسكار»، فاز بثلاث منها، أبرزها أفضل فيلم وأفضل إخراج. ومع انتصار روكي، سُمح لـ«الفحل الإيطالي» (شهرة روكي بالبوا) أن يلاكم أبولو كريد نفسه الذي لم يستسغ هزيمته، فكان الجزء الثاني من توقيع ستالون أيضا (حقّق 85 مليون دولار)، وهو الجزء الذي كشف أن البطل تعرّض لإصابات دفعت طبيبه إلى التمنّي عليه بالابتعاد عن حلبة الملاكمة. غير أن الهزيمة كانت من نصيب كريد للمرّة الثانية، فتحوّل إلى مدرّبه وصديقه في جزء ثالث أخرجه ستالون، وروى فيه مقتطفات من سيرة الملاكم (125 مليون دولار إيرادات الصالات الأمريكية)، في حين أن مقتل كريد على يدي الروسي دراغو شكّلت محطّة لتجسيد الصراع الدائر بين الشرق الروسي والغرب الأمريكي، الذي انتصر في النهاية (طبعا)، محقّقا 127 مليون دولار أيضا. أما الجزء الخامس، الذي شهد عودة جون جي. آفيلدسن إلى كرسي الإخراج، فسلّط الضوء على روكي متعبًا ومريضًا، ومدرّبًا لملاكم شاب تخلّى عنه سريعا، بعد أن تذوّق طعم الشهرة والمجد.

          «كافح» ستالون كثيرا للحصول على الدور الذي كتبه في السيناريو الأول. ثم «كافح» أعواما طويلة للتحرّر من شخصية روكي بالبوا في الأوساط السينمائية والجماهيرية والنقدية معا. لكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا، فهو أدرك أن لا فرار منها: «في خلال الأعوام كلّها التي مرّت، أدركتُ أنها (أي الشخصية) ستظلّ ملتصقة بي مهما فعلت. لهذا، تعلّمت قبولها، وبتّ فخورا بها. لنكن صادقين: عندما أموت، ستصدر الصحف في اليوم التالي بعنوان واحد كبير: «رحل روكي بالضربة القاضية»، أليس كذلك؟».

خانَكَ مَن تَهوى فَلا تَخُنهُ وَكُن وَفِيّاً إِن سَلَوتَ عَنهُ
وَاسْلُك سَبيل وَصلِه وَصُنهُ إن كان غَدّارا فَلا تَكُنـهُ
عَسى تَباريح تَجيءُ مِنه فيرجِعَ الوَصلَ وَلَم تَشِنهُ


عمر بن أبي ربيعة

 

نديم جرجورة   





روكي.. الإطلالة الأولى للملاكم القوي





ملصق فيلم «أرض الشرطة» من بطولة سيلفستر ستالون وإخراج جيمس مانغولد





سيلفستر ستالون مجسّدا روكي بالبوا في الجزء السادس من السلسلة السينمائية.. هل تكون هي الإطلالة الأخيرة?