«التعليم العالي» هل يدعم الجامعات الخاصة?

«التعليم العالي» هل يدعم الجامعات الخاصة?
        

          جاء التحقيق الذي نشرته مجلة العربي في عددها رقم (580) مارس 2007 تحت عنوان «انطلاقة متميزة للجامعات الخاصة في الكويت» ليدفعني إلى الكتابة عن واجبات وزارات التعليم العالي في الدول المختلفة نحو التعليم الجامعي الخاص الذي انتشر في بلادنا العربية من خلال جامعات ومعاهد خاصة كثيرة يربو عددها في جميع بلادنا العربية على مائة وخمسين جامعة وأكثر من ضعف هذا العدد معاهد ولكني أتردد في الكتابة في هذا الموضوع خوفا من ثلاثة أسباب رئيسية وبعض الأسباب الفرعية. أما الأسباب الرئيسية فيمكن إجمالها بما يلي:

  • سوء فهم للأسباب الحقيقية لمقترحاتي.
  • اتهامي بعدم الواقعية في مطالبي للكلفة المالية التي تتطلبها.
  • التشكيك في تحقيق المستوى والأهداف التي أقترحها بسبب ضعف المستوى العلمي لكثير من الطلبة.

          وقد جاء التحقيق المفيد جدا في مجلة العربي مشجعًا لي على الكتابة في هذا الموضوع. وسوف أكرس هذه المقالة لما أتصوره واجبًا أن يكون عليه التعليم العالي في أي بلد كان سواء كان في بلادنا العربية أم في بلد آخر. 

أهداف التعليم العالي

          تختلف أهداف الجامعات الخاصة عن أهداف الجامعات الحكومية، فالحكومية منها تهدف إلى تسهيل كسب العلم لشباب وطنها كي يتخرجوا في مختلف الاختصاصات لتوظفهم في الوظائف المختلفة التي تساعد تلك الحكومة في تنفيذ خططها التنموية في مختلف المجالات مثل المجال الطبي والمجال التعليمي والمجال الهندسي والمجال الصناعي.....إلخ المجالات المختلفة. أما الجامعات الخاصة فأهدافها مختلفة ويأتي في أولها الكسب المادي، والقليل منها تقدم هدف المساهمة في التطور العلمي لأجل المساهمة في تحريك عجلة التطور والتنمية في بلدها على هدف الكسب المادي.

          أما أهداف الطلبة فكثيرة ومتنوعة ولكن يمكن حصر أهمها في الآتي:

          1- الحصول على وظيفة لأجل كسب راتب وتأمين متطلبات العيش.

          2- كسب مكانة اجتماعية.

          3- الحصول على العلم حبًا بالعلم.

          4- الحصول على أغلب أو كل ما ذكر أعلاه. 

واجبات وزارات التعليم العالي

          يجب على وزارات التعليم العالي في مختلف الأقطار والبلدان أن تراقب سير العمليات التدريسية والتربوية والبحثية في مختلف الجامعات الحكومية والخاصة لأجل السيطرة النوعية والمحافظة على مستوى متقدم ومقبول في الجامعات كافة، لأن أي تهاون في مستوى الأداء سينعكس سلبا على البلد بعد سنوات قليلة عندما يتخرج طلبة هذه الجامعات ويلتحقون بسوق العمل ويظهر أداؤهم الضعيف لينعكس على مجمل الخطة التنموية لذلك البلد. هنا يحق للجميع أن يتساءل: إذا كانت الجامعات الحكومية لها ميزانيات عالية نوعًا ما وتستطيع الصرف على المشاريع البحثية والتربوية فمن أين للجامعات الخاصة ذلك؟ الجواب أن على وزارات التعليم العالي، أي الحكومة، أن تدعم الجامعات الخاصة بالصرف على المشاريع البحثية والتربوية ومساعدتها على جلب أفضل الأساتذة لها ودعمها في تسديد جزء من رواتبهم.

الجامعات كما يجب أن تكون

          إذا أردنا أن نحصل على تعليم ممتاز فعلينا أن نسعى إلى ربط التعليم بالبحث منذ المراحل الأولى في التعليم الجامعي، وليكن من السنة الجامعية الثانية إن لم يكن من السنة الأولى، أقول ذلك لأن السنة الدراسية الأولى يجب أن نعلم فيها أولئك الطلبة الذين اعتادوا الحفظ كيف يفكرون، وليس كيف يحفظون، إن لم يكونوا قد تعلموا ذلك أثناء دراستهم في الثانوية. ويجب كذلك السعي لإفهامهم أهمية الدراسة ولماذا يجب على المؤسسات التعليمية كافة أن تتشدد في تدريسها وخطورة التساهل على الخطط التنموية وعلى مستقبل البلد. فالأجدر أن يرتبط بكل قسم مركز متابعة أو مركز بحوث متخصص واحد على الأقل فيرتبط مثلًا مركز بحوث اللغة العربية بقسم اللغة العربية ومركز دراسات الفقه والشريعة بقسم التربية الدينية ومركز بحوث الاقتصاد الحر ومركز بحوث الاقتصاد الإسلامي ومركز بحوث التمويل والتسويق بقسم أو عدة أقسام للاقتصاد والتجارة وإدارة الأعمال وترتبط مراكز البحث الإعلامي بأقسام الإعلام ومراكز البحث العلمي والبحث الهندسي بأقسام كليات العلوم وأقسام كليات الهندسة....إلخ من الأقسام المختلفة ومراكز البحوث أو مراكز المتابعة.

          فالطالب الجامعي سيفهم أكثر من خلال البحث وسيتعود تدريجيا على التفكير العلمي بالمسألة المعروضة أمامه بدل الحفظ والإتيان بحلول جاهزة قد لا تلائم المشكلة المعروضة أمامه. قد يسأل البعض من أين نأتي بطالب يدرك معنى وأهمية البحث أو المتابعة؟ والجواب على ذلك ليس بالسهل إطلاقا وسأعدد بعضًا مما يجب على الطالب الإيمان به ولكن قبل أن أفعل أُذكّر بأهم شيء وهو أن المادة العلمية التي يدرسها الطالب خلال سنوات الدراسة هي معلومات تراكمية أي أن ما درسه خلال السنوات السابقة مؤكد سيحتاجه الآن ومستقبلا. 

لماذا الربط؟

          أما أسباب اقتراح ربط التعليم العالي بالبحث العلمي حتى وإن كانت الجامعة جامعة فهي تتمثل في الآتي:

          1- إن أول هدف تعليمي للتعليم الجامعي يجب أن يكون في تعويد الطالب على التفكير في المشكلة قيد الدرس وليس البحث عن حلول جاهزة لها، فمثلا على المدرسين إقناع الطلبة بأن استنتاجات القوانين الموجودة في كتبهم الغاية منها تعليمهم كيفية إيجاد صيغة جديدة من صيغ أخرى موجودة ولكنها لا تخدمهم بشكلها الذي يعرفونه.

          2- إن تعويد الطالب على المتابعة والبحث تجعله متلهفًا للاطلاع على تجارب الآخرين في نفس المجال التخصصي أو في المجالات القريبة منه، وهذا بحد ذاته غاية من غايات التعليم ويساعد على خلق موظف مستقبلي ناجح إلى حد كبير في عمله.

          3- إنّ وجود أعداد كبيرة من مراكز البحث ومراكز المتابعة سيؤدي إلى تقليل البطالة وهذا تقليل حقيقي وليس تقليلاً مقنّعًا.

          4- إنّ وجود مراكز البحث يساعد على إعداد دراسات مهمة يحتاج إليها البلد لأجل التوثيق ووضع الخطط التنموية المستقبلية.

          فمثلا في منطقة شبه الجزيرة العربية يجب التوثيق لكل نباتات المنطقة، وتوثيق اللهجات المختلفة ومحاولة الوصول إلى أصلها كما يجب توثيق الطب الشعبي ويجب توثيق الاحتفالات الدينية والشعبية...الخ من الأشياء والمواضيع الواجب توثيقها، وأستطيع أن أعدد ما لا يقل عن مائة من المواضيع في مختلف فروع المعرفة، كي تصبح لدى كل بلد قاعدة معلومات غنية يرجع إليها رجوعًا علميًا عند وضع الخطط التنموية في أي حقل من الحقول. 

الجامعات الخاصة ورفد البلد بالكفاءات

          للجامعات الخاصة دور مهم جدا في تقدم البلد عليها أن تدركه جيدًا وأن تعمل على تحقيقه بجميع الطرق المشروعة والمتاحة لها. ومع كل الأسف نجد أن بعض هذه الجامعات تفكر بالربح المادي أولا والربح الأكاديمي يأتي في الدرجة الثانية. طبعًا أنا لا أدعو إلى التقليل من التفكير بالربح المادي أو إلغائه من تفكير القائمين على هذه الجامعات، ولكني أدعوهم إلى التركيز أكثر على الجانب الأكاديمي وسيأتي الربح المادي كتحصيل حاصل وأكثر بكثير مما يتصورون عندما يساهمون في رفد البلد بالدراسات والبحوث المهمة فيحصلون على الدعم المادي من وزارة التعليم العالي أو من وزارات أخرى تشتري دراساتهم وبحوثهم. أكيد هنا سيقفز السؤال... كيف ذلك؟ الجواب ليس بالسهل إطلاقا ولكنه يحتاج إلى خطوات مهمة جدا من جانب وزارات التعليم العالي والمساعدة في إعداد الطلبة علميا للتعليم العالي. فكيف يكون ذلك؟ الجواب على حسب اعتقادي سيكون كالآتي:

          1- أن تربط وزارات التعليم العالي مقدار مساعداتها المالية لهذه الجامعات مع ارتباط تخصص هذه الجامعات بخطط التنمية لذلك البلد. فمثلا تزيد من مبالغ الدعم والمساعدة المالية للجامعات ذات الاختصاصات الطبية والهندسية لأن هكذا اختصاصات تحتاج إليها أية دولة كانت إذا أرادت لشعبها أن يعيش في مستوى صحي لائق ومستوى معيشة راق من حيث نوع السكن وسرعة المواصلات وبيئة سليمة ونظيفة...إلخ من مواصفات العيش الرغيد.

          2- أن تتعاون وزارات التعليم العالي بشكل أكبر مع وزارات التربية.

          3- العمل على تحسين طرق التدريس وزيادة انضباطه في جميع المراحل الدراسية من الابتدائية إلى المتوسطة إلى الثانوية إلى الجامعية. فكيف يكون ذلك؟ ربما تساعد النقاط التالية على ذلك:

          1. يجب على القائمين على الأمر أن يدركوا أن الله خلق الإنسان بمهارات مختلفة، فهذا بارع في العلوم، وذاك بارع في الأدب والشعر، وهذا له القدرة على الحفظ السريع وذاك بارع في الأعمال اليدوية، وهذا بارع في الموسيقى وكل ما يتعلق بالصوتيات من ترتيل وأناشيد وغناء وذاك بارع في السياسة...الخ مما نعرفه من مهارات. ويجب عليها إفهام الطلبة بذلك كي يتخلصوا من عقدهم الدراسية، حيث إننا نجد أن بعض الطلبة لديهم عقدة من الرياضيات، والبعض عقدته اللغة الإنجليزية والبعض الآخر عنده عقدة من العلوم...الخ من العقد الدراسية. أما كيف يتم إفهام الطلبة ذلك، وكيف يتم اكتشاف الميل الطبيعي عند الطالب لذلك الفرع من فروع المعرفة وكيف نجنب الطلبة الإصابة بعقدة نفسية من ذلك التخصص أو ذلك الفرع من فروع المعرفة، فهو موضوع شائك ومتشعب وطويل وإن شاء الله سيكون موضوع دراسة جديدة لنا لاحقًا، ولكني أذكر هنا وعلى وجه السرعة أن بعض هذه الطرق يتطلب اكتشاف موهبة كل طالب من قبل المدرسين في وقت مبكّر قد يكون من الصف الخامس أو السادس الابتدائي. ويجب ألا نجعل الطلبة يشعرون بالإحباط لأنهم ضعفاء أو غير متميزين في موضوع ما كالرياضيات أو اللغات مثلا.

          2- يجب اختيار الأساتذة والمدرسين بعناية فائقة سواء في التعليم الجامعي أو ما قبل التعليم الجامعي فللمدرس الدور الأساس في تكوين شخصية الطالب وفي اكتشاف ميوله الدراسية الحقيقية وتوجيهه نحوها. وهنا أيضا نتساءل كيف يتم اختيار المدرسين لذلك؟ الجواب أيضا ليس بالسهل وسيكون موضوع دراسة مقبلة إن شاء الله. ولكن وعلى سبيل المثال يجب اختيار المدرس ذي الشخصية القوية وذي المنطق والمظهر اللائق مضافًا طبعًا إلى تميّزه في اختصاصه وإلى سمعته كتربوي ناجح وليس فقط كمدرس ناجح.

          3- يجب أن تتشدد المدارس ووزارتا التربية والتعليم العالي أكثر في إعطاء العلامات للطلبة لأن التساهل في منحها يؤدي إلى نتائج قد تكون كارثية مستقبلاً عندما يتولى بعض هؤلاء بعد تخرجهم مناصب مهمة مستقبلا ويتساهلون كثيرًا في قياداتهم تماما كما تم التساهل معهم عندما كانوا طلبة.

العربية أم الإنجليزية في التدريس؟

          ورد في استطلاع مجلة العربي عن الجامعات الخاصة، وكذلك في مقالات كثيرة أخرى خصوصا عن الجامعات الخليجية أن الدراسة في أغلب الجامعات هي باللغة الإنجليزية وليست باللغة العربية. وكان هذا يرد من باب التفاخر أحيانًا وللضرورة أيضًا بسبب وجود طلبة من غير العرب أحيانا أخرى، وأنا هنا لن أخوض بعمق ولا طويلا في هذا الموضوع ولكن أود أن أسجل موقفًا من هذا التوجه. وأرجو من القارئ الكريم ألّا يتصور أنّ هذا الموقف نابع عن صعوبة أو عجز في استعمال اللغة الإنجليزية فأنا أقرأ وأكتب وأتكلم الإنجليزية بطلاقة، كما أنني خريجة قسم الفيزياء الشهير باسم مختبرات كافندش في جامعة كمبردج الإنجليزية الشهيرة، ولكنني أقول إنه يجب أن يدرس الطالب باللغة العربية كي يفهم دقائق وخفايا أي موضوع يدرسه. والأسباب لهذا توجه عديدة وسبقتنا إليها أمم كثيرة فمثلا الفرنسيون يدرسون بالفرنسية والألمان بالألمانية والسويديون بالسويدية والإيطاليون بالإيطالية والصينيون بالصينية...الخ. وأنا هنا لا أقلل من أهمية اللغة الإنجليزية أبدا ولكن على الطالب أن يتعلمها عن طريق آخر غير طريق دروس الاختصاص، مثلا مطالبته بأداء اختبار «التوفيل» أو ما يكافئه، ويمكن أيضا تدريس القليل من الدروس باللغة الإنجليزية، كما يمكن مطالبة الطالب بتقديم قسم من التقارير باللغة الإنجليزية. أما الطلبة غير العرب فهم بأعداد كبيرة ويمكن فتح شعب خاصة بهم تدرس باللغة الإنجليزية.  ولا أريد أن أطيل هنا أكثر وأرجو أن تسمح الظروف مستقبلا كي أكتب في هذا الموضوع وأذكر بعض الحالات التي صادفتها خلال مسيرتي في التدريس الجامعي التي امتدت لقرابة ثلاثين عامًا.

 

ليلى صالح محمود