السيرة الذاتية.. في ثلاثية

السيرة الذاتية.. في ثلاثية
        

في ثلاثية «بقايا صور» (1975) و«المستنقع» (1977) و«القطاف» (1986)، يقدم لنا حنا مينه سيرة ذاتية روائية. فما الذي ميّز هذه الروايات الثلاث حتى أمكننا اعتبارها سيرة ذاتية، وما معنى أن تكون لهذه السيرة الذاتية سيرة ذاتية روائية.

          بداية، نشير إلى أن الرواية، وكما هو معروف، جنس أدبي تخييلي تلتبس صدقيته، حين يروي سيرة ذاتية، بسبب التجنيس الفني الذي يمارسه السرد الروائي، والذي يضع المحكي موضع المحتمل،أي موضع ما يقتضيه بناء الخطاب الروائي لعالمه من انزياحات عن المرجعي. وقد تمعن هذه الانزياحات في التخييل على حساب هذا المرجعي، وهو ما يجعل الصدقية مرهونة، بشكل أساسي، بصياغة التخييلي وفنيته أكثر من التزامها بنقل المرجعي والأمانة له.

          أما سرد السيرة الذاتية فإنه ينتمي إلى نظام مرجعي يأخذ فيه الالتزام الأوتوبيوغرافي،حسب فيليب لوجون، قيمة ميثاق. ويفترض الميثاق وجود اتفاق مشترك بين المؤلف والقارئ، يظهر المؤلف، على أساسه، التزامه بما يروي، أي التزامه، بأمانة، بالمرجعي.

          إذن ما الذي يجعلنا نعتبر الثلاثية سيرة ذاتية؟

          لعلّ ما يلفتنا في هذا الصدد هو أن الثلاثية تشكّل متنًا واحدًا يلتزم فيه السرد بالتوالي الزمني الذي تلتزم به، عادة، السيّر الذاتية. تحرص الثلاثية على إظهار هذا التوالي للقارئ، وذلك عندما يجعل المؤلف «المستنقع» تبدأ من حيث انتهت «بقايا صور».

          تنتهي «بقايا صور» برحيل عائلة الراوي إلى المدينة، وتبدأ «المستنقع» بوصول هذه العائلة إلى المدينة. كذلك تبدأ «القطاف» من حيث انتهت «المستنقع»، أي بالعودة إلى اللاذقية وقد غادرتها العائلة في نهاية «المستنقع».

          نحن إذن أمام سرد يتوالى توالي زمن الحكاية التي ترويها الثلاثية والتي يسترجع  فيها الراوي سنوات طفولته ويفاعته. 

الطفل.. هو أنا

          فالحكاية هي حكايته. ثم إنّ هذا الراوي لا يخفى علينا أنه هو الطفل الذي يروي عنه.

          يقول:

          «كبر الطفل الذي هو أنا» (بقايا صور ص295).

          بل نجده يذهب أبعد من ذلك، ليخبرنا بأن هذا الراوي الذي يحكي عن طفولته هو الكاتب نفسه، حنا مينه، كاتب الروايات العديدة. يقول:

          «ولكم كرهت نفسي، طوال حياتي أيضًا، لأني قصّرت عن أن أكون في بعض المواقف، مثل هؤلاء الرجال الذين عوّضت تقصيري بتمجيدي لهم في كتاباتي» (المستنقع ص295).

          ثمة إعلان واضح داخل الثلاثية، عن أن أنا الراوي هو الكاتب الذي يروي سيرته، والذي عوّض عن تقصيره في بعض المواقف في حياته، بالشخصيات التي مجّدها في ما كتبه من روايات: الطروسي مثلاً في «الشراع والعاصفة»، والمرسنلي في «الياطر».

          لكن لئن كانت الثلاثية سيرة ذاتية للكاتب، فما معنى ان يسميها حنا مينه روايات، أي أن ينسبها، لا إلى تراجم السير الذاتية، بل إلى جنس (أو نوع) أدبي تخييلي تلتبس صدقيته من حيث علاقة المروي بالمرجعي، وبالتالي من حيث الصدقية في أن تكون الحكاية المروية هي سيرة الكاتب الذاتية؟

          يبدو لي أنّ لكتابة السيرة الذاتية، عند حنا مينه، كتابة روائية، وظيفة مزدوجة، متداخلة، تتجاوز مسألة الميثاق الأوتوبيوغرافي الذي اكتفى الكاتب بإشارات سريعة، وعابرة، له:

          ترتبط هذه الوظيفة بعلاقة الأنا بذاتها وما حكم هذه العلاقة من شروط تاريخية وقيم وتقاليد اجتماعية معيقة. كما ترتبط، وفي الآن نفسه، بنمط الخطاب الروائي العربي ومسعى حنا مينه، آنذاك، إلى تخصيصه مرجعيًا وتمييزه فنيًا.

          كأنّ كتابة السيرة الذاتية كتابة روائية كان بالنسبة إلى حنا مينه، بمنزلة تقديم برهان تمثيلي لخطاب روائي عربي له خصوصيته، أو هويته الخاصة، القائمة بالمرجعي التاريخي المعيش، أي السيرة الذاتية بما هي تاريخ الذات وحياتها في مكان وزمان محدّدين، وبالمقابل يمكن للروائية، وبما هي جنس أدبي فني، أن تكون سبيلاً للتعبير عن سيرة الذاتي الخاص تعبيرًا إبداعيًا مميزًا. وبذلك تبدو الثلاثية أمثولة للإبداع العربي الروائي يعيد الاعتبار للعامل الذاتي ويضعه موضع المرجعي. ربما لهذا يقول حنا مينه إن ما تحكيه الثلاثية هو «ترجمة ذاتية وغير ذاتية في آن»، وأن اليافع الذي حكى المؤلف سيرته هو بدوره «نموذج أدبي».

          لكن ما حكاية هذا اليافع، وما أبرز الخصائص الدلالية التي ميزت سرد سيرته الذاتية سردًا روائيًا؟ 

من الأنا إلى الذات

          يتشكّل زمن الحكاية في الثلاثية على قاعدة الشرط الاجتماعي المعيش، وفي معادلة تختصر حياة الطفل وعائلته في هذا البحث المضني عن مأوى ولقمة عيش. إنها صورة «عاصفة من الهجرة والتمزق والألم» (بقايا صور ص56/57).

          يتلازم زمن السيرة الذاتية، في نموه السردي، مع حركة التنقل في المكان، بل إن زمن هذه السيرة ليس سوى زمن الحركة المرهونة كليًا بالبحث عن مكان يأوي. إن فقر العائلة هو المحرك، به يتحدّد فعل التنقل كفعل قسري لا إرادة لأصحابه فيه. لذا فهو يشبه الضياع. إنه حركة رحيل في الزمن المجهول تفتقد معه الأنا القدرة على أن تكون ذاتًا فاعلة في هذا الزمن، أو قابضة على انتمائها إليه، وبالتالي محصّنة ضدّ ويلاته، وسلطانه، وقيمه الأخلاقية التي تخترق الذات وتضعضع تماسكها:

          - أم تستسلم لسلطة الرب والغيب والوالد.

          - ووالد يستسلم لسلطة جسده وغرائزه.

          - وطفل يعاني خوفه، ولا يعرف كيف يقاوم ذلّ الجوع ومشاعر العار من سلوك أبيه.

          إن عدم الاستقرار في المكان، وعدم الشعور بالطمأنينة، حتى عندما يستقر المقام - وهو غالبًا استقرار مهدد بالرحيل - له في الثلاثية دلالة فقدان الأنا لذاته، وفقدان الإنسان حياته: حياة يمحوها الجوع باستمرار، وضياع يتلازم فيه فقدان المأوى الذي يتكرر هدمه ماديًا ومعنويًا، مع فقدان الدواخل لمعنى وجودها وقدرتها على أن تكون.

          من اللاذقية إلى السويدية، وقره أغاش، والأكبر (هي قرى في لواء الإسكندرونة. وقد حكى صاحب السيرة عن حياته مع عائلته في هذه القرى في «بقايا صور»)، إلى اللاذقية من جديد.

          ومن كوخ في حقل التوت، إلى كوخ بجوار المستنقع، إلى الإقامة في العراق، وعلى قارعة الطريق. يفتقد الطفل المكان الأول بما يعنيه من احتضان رحمي ومن حماية بالمعنى الباشلاري لمفهوم المكان. وهو بذلك يفتقد معنى التجذّر الطبيعي الذي تبنيه الألف ومشاعر الاستقرار.

          تفقد الذات حصانتها. وتبدو الأنا وكأنها خارج الزمن الطبيعي للحياة. كأنها خارج الحياة. فالزمن يسير من دونها. يتركها في قاع تشعر فيه بأن كل شيء فوق قدرتها: العيش وسبل المعرفة، أي ما يجعلها قادرة على الانتصار على محنتها ومواجهة ما يسلبها الأرض والرزق وفرصة العمل.

          تتعرض ذات الطفل المتبرعمة لاختراقات الخارج. وشأن الإنسان الأول، يخاف هذا الطفل الريح والعتمة والزواحف. وشأن الفقراء والمحرومين من المعرفة، يشعر بالذل من جوعه وبالعار من وضعه العائلي.

          يحكي المؤلف سيرته يوم كان طفلاً ويافعًا، وباعتماده الخطاب الروائي في استعادة هذه السيرة، يبدع في التعبير عن صوت الذات المكبوت في تنوّع مستوياته اللسانيّة. فلقد أدخل حنا مينه، بأسلوبه الروائي، الكلام الشفوي إلى لغة الأدب، وجنّح سرده بالكلام الحيّ الذي هو منطوق المنبوذين وملفوظ الناس غير المعترف بهم وبوجودهم في الحياة. وبذلك بدت الثلاثية ذاكرة لا للطفل وحده، بل للغة الذات الشعبية الواسعة والمتنوعة.

الروائية ليست قناعًا

          ويمكن القول إن الخطاب الروائي لحكاية السيرة الذاتية لم يكن، في الثلاثية، قناعًا يختبئ خلفه صاحب هذه السيرة، أو يستر به مكبوته، أو يخفي وراءه حقيقة دواخله ومشاعره، الجريئة، والمؤلمة، تجاه وضعه، أو يتستّر على نقمته وخجله من سلوك أبيه، واستسلام أمه للقدر.

          لقد أقرّ حنا مينه، داخل الثلاثية، وفي بعض مقابلاته، وبعض كتبه غير الروائية («هواجس في التجربة الروائية» و«كيف حملت القلم»)، إنّ ما رواه في الثلاثية هو سيرته وسيرة عائلته، مؤكدًا بذلك وقوفه، في سرده، خارج أي قناع تخييلي. وهو حتى بعد أن عبّرت أخته عن استيائها مما قاله في «بقايا صور» و«المستنقع»، عن أبيه وعن العائلة، وطلبت منه أن يقف عند هذا الحد (هواجس في التجربة الروائية ص 103). رفض أن يقف، وتابع كتابة سيرته على النحو نفسه. لا يريد مالاً عرضته عليه أخته لقاء صمته، ولا يحاول أن يختبئ خلف قناع اللغة، أو قناع التخييل الذي يتيحه الجنس الروائي. لقد كان للتجنيس الروائي الذي توسله حنا مينه في كتابة سيرة الطفل الذي كانه، وظيفة أخرى هي بناء المتواليات السردية بناء نقديا يظهر صراع الذات لا فقط مع ذاتها، بل وبشكل أساسي، مع محيطها ومجموعة القيم الظالمة. وبذلك كان للتجنيس الروائي دور أوسع من حكاية سيرة ذاتية، هو هدم المحرمات والمسلمات التي تحول دون قول الحقيقة، وكشف معنى القمع، وعواقبه. القمع الذي تمارسه أكثر من سلطة. هي، في الثلاثية، سلطة الأب، وسلطة المختار، وسلطة القيم العفنة، وسلطة الفقر والجهل، وسلطة الغيبيات، وسلطة ذوي النفوذ على تعدد مستوياتهم.

خلاصة

          لقد أبدع حنا مينه ما يمكن تسميته بخطاب السيرة الذاتية الروائية وهو خطاب روائي تلوّن بطابع محلي تجذّر به المحكي في واقعه الخاص. كأنّ السيرة الذاتية، بخطابها هذا، كانت تؤسس للغة روائية حية لا تتغرّب عن ملفوظها الشفوي الشعبي، ولا تتنكّر لذاكرة أبناء الشعب الفقراء، لمعاناتهم وللسانهم المغرّب في الثقافة، ولدلالاته في الأدب.

          ويمكننا القول إن الخطاب الروائي كان، في الثلاثية، يتنمّط بخصوصية السيرة الذاتية التي يرويها، وكان، في الآن نفسه، يفتح الترجمة الذاتية، أو حكايتها، على ما هو أوسع منها: على محيط وذوات أخرى تربط دائرة الأنا بدائرة المجتمع عبر دائرة العائلة. («حاكية زنوبة» مثلا).

          هكذا تبدو الذات في هذه السيرة الذاتية الروائية، ومن حيث انتماؤها إلى مجتمع وتاريخ، ذاتًا متباينة، بل ومتناقضة ومتصارعة، حتى في صمتها وعيّها. ويبدو الصراع صراعًا بين الذات وذاتها، وداخل الـ «نحن»، من جهة، ومع آخر يتواطأ مع هذه الـ «نحن»، وضدها، من جهة ثانية. ويمكن القول إن رواية السيرة الذاتية، وفق ما أفصحت عنه ثلاثية حنا مينه الروائية، هي مسعى إبداعي يضمر إحلال العامل الذاتي مكانة أولى، بحيث تشكّل الحكاية، بما تعنيه من هويّة وانتماء، مرجعًا به تميّز الرواية العربية خطابها باعتباره خطابًا ينهض بقوانين الجنس الروائي العامة. ما يعني أنّ حنا مينه لا يقدّم حكاية سيرته الذاتية وحسب، بل أيضًا، وفي الآن نفسه، تجربة روائية مميزة.

 

يمنى العيد   





في الكويت في ندوة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب وبجانبه الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل





نماذج من عالم حنا مينه الروائي الفني