«زوربا» الروائيين العرب بامتياز.. شوقي بغدادي شوقي بغدادي

 «زوربا» الروائيين العرب بامتياز.. شوقي بغدادي
        

حين أتحدّث عن «حنا مينه» أبدو كمن يتحدث عن نفسه، فما عساني أغرف من خزّان ذكرياتي الطافح عنه شخصًا وأديبًا؟

          سأتحدث عن الشخص، أما الأديب المبدع فيعرفه القراء والنقاد مثلي أو أكثر مني، أعود إذن إلى أوائل الخمسينيات وكنت ما أزال في عامي الأخير في كلية الآداب - جامعة دمشق - حين تقابلنا لأوّل مرة.

          حدث ذلك بناء على طلبه إيّاي بالهاتف وكنت بعد لا أعرف عنه سوى أنه صحفي يعمل في جريدة «الإنشاء» اليومية لصاحبها وجيه الحفّار. ولم يكن حنا بعد كما أعتقد قد كتب أو نشر شيئا من القصص أو الروايات.

          كنتُ عهدئذ قد بدأت أغدو معروفا في الوسط الأدبي بسبب كتاباتي المبكرة في الشعر والأقصوصة والتي نُشِرَت لي في الصحف المحلية ونال بعضها جوائز عن فوز لهذه القصيدة، أو تلك القصة في واحدةٍ من المسابقات المحلية إضافة إلى حوار ضافٍ نشرته لي  جريدة «النصر» أجرته معي الآنسة «فلك طرزي» أحد الأسماء المهمة وقتئذ في الشارع الثقافي الدمشقي.

          تمّ اللقاء يومئذ في غرفة الضيوف في شقةٍ صغيرة. في الطابق الثالث في حيّ السبكي بدمشق، وما كدت أختلي به حتى بادرني بالتعبير عن إعجابه بالحوار المنشور لي في «النصر» سائلا إياي بعدها عن مطالعاتي وأفكاري حول الالتزام في الأدب كما أذكر. وعدد آخر من الموضوعات الثقافية لم أعد أتذكرها جيدا.

          كان واضحا كما استنتجتُ بعدئذ من هذا اللقاء أن الكاتب الصحفي كان يختبر إمكاناتي كمثقّف وكاتب واعِد للدخول في المشروع الذي كان يفكّر فيه حنّا، حول إنشاء رابطة للكتّاب في البلاد.

إنسان استثنائي

          طالت الجلسة يومئذ أكثر من ثلاث ساعات كما أذكر وحين خرجت توجهت على الفور إلى مقهى «الهافانا» حيث يجتمع الأصحاب في مثل تلك الساعة من أول المساء كي أحدثهم عن لقائي بحنّا مينه. كنتُ متأثرا إلى حد بعيد بما تركه في أعماقي من انطباعات لطيفة مثيرة إذ استطاع في جلسة واحدة أن يملأ روحي بنظراته النفّاذة المتخصّصة، وبتكوينه الجسدي النحيف المشحون بالحماسة والصدق والذكاء، وأن يغدو منذ اللقاء الأول صديق العمر.

          أوّل ما اكتشفت في شخص حنا مينه، وتأكّد لي بعدها أنه إنسان استثنائي نادر المثال من حيث حيويته المتأججة باستمرار، واهتماماته العميقة بالحياة الجارية حوله وفي العالم أجمع، وما يعترض هذا النهر المتدفق من طموحاتٍ وعقبات وآمال كبرى. والطريف في كل هذا أنه كان يعبّر عن رؤاه تلك بأسلوبٍ حماسي يمتزج فيه الجدّ بالهزل، والتحليل المعمّق بالنكتة, والتعليق الساخر الضاحك مع مَيْلٍ واضح لتمجيد روح المغامرة، والتصّرف بعفوية آسرة، وجنوحٍ أصيل للكرم والعطاء والحبّ الغامر للحياة بكل ما تعنيه من علاقات وأشواق ومسرّات ومكابدات.

          كان «أبو سَعْد» - وكنا نناديه عهدئذ «أبو سليم» قبل أن يُرزق بصبيّ بعد البنات سمّاه «سَعْدا» - كان نموذجا إنسانيا يذكّر بأبطال الروايات الروسية الشهيرة بنكهتها الشعبيّة التي تجمع بين صخب المرح والهدوء التراجيدي العميق، والجدّ والإخلاص في أيّ عملٍ يُسند إليها مثل أبطال تولستوي وجوركي على الأخصّ، وقد تبدّى ذلك واضحا في الدور الأساسي الذي لعبه بعد لقائنا الأوّل بقليل في تأسيس أوّل تجمعٍ أدبي مُلتزمٍ في البلاد سميناه «رابطة الكتاب السوريين» وكان «الجميع يعرفون جيدا - كنا في مرحلة التأسيس أحدَ عشر كاتبا على ما أذكر - كانوا يعرفون أن «الدينامو» الذي كان يحرضُ نشاطنا في معظم إجراءاتنا هو «حنا مينه» فهو الذي كان يتصل، ويذكّر، ويحمّس، ويحدّد المواعيد، ويكتب التعليقات حول نشاط الرابطة من دون أن يضع اسمه عليها. كان يحبّ باختصار أن يبقى في الظلّ، وكان يُسعده ذلك، بالرغم من أنه إذا أردنا الحقّ هو المؤسّس العملي لرابطة الكتاب السوريين التي غيّرت اسمها بعد إشهارها عام 1952، بعامين أي في 1954، إلى «رابطة الكتّاب العرب» حين تكاثر المنتسبون إليها من مختلف الأقطار العربية، وفي ختام المؤتمر الكبير الأول من نوعه في البلاد الذي عقدته الرابطة في سبتمبر 1954 تتويجا للتوسّع الذي طرأ عليها ولإشهار اسمها العربي الجديد.

قدرته على الإقناع

          في ذلك المؤتمر ظلّ حنا مينه على عادته وراء معظم الأنشطة والجلسات والندوات والقرارات التي دارت طوال أسبوع كامل وعلى الأخص وراء اختياري شخصيا لمنصب الأمين العام الجديد للرابطة باسمها الجديد مع أنني كنت لاأزال صغير السن بالنسبة إلى عددٍ لا بأس به من الأعضاء الأوزن مني عمرا وشهرة، إلا أن «حنا» هو الذي، في اعتقادي, أقنع الآخرين بضرورة اختيار الشباب لقيادة الرابطة في عهدها الجديد، ومع ذلك فقط ظلّ «حنّا» طوال السنوات التي تلت من عمر الرابطة إلى حين توقفها عن العمل بقرار تعسفي من السلطات. آنئذ في مطلع عام 1959 ظلّ «أبوسعد» أو أبو سليم - طوال هذه الفترة لا يغيب عن اجتماع، ولا يتأخّر عن موعد، ولا يكفّ عن ملاحقة الآخرين لتذكيرهم بضرورة عدم الانقطاع الطويل عن الكتابة. وحين ذهبت إلى مصر عام 1957 في عداد الوفد السوري الرسمي الذي كان برئاسة الكاتب الكبير «فؤاد الشايب» لم يلبث حنا مينه، وعادل أبو شنب - القصاص والروائي المعروف - أن لحقا بنا إلى القاهرة على نفقتهما الخاصة، وأكاد أقول إن حنا مينه، وبالرغم من أنه لم يكن في عداد الوفد الرسمي كان أنشط الكتّاب السوريين في التعامل، والتواصل، وعقد اللقاءات، وتنظيم الزيارات والحفلات الخاصة لما كان يتمتع به من خبرة وعلاقات طيّبة مع عددٍ من العائلات المصرية، ومع الصحف والمجلاّت والأدباء المصريين المعروفين.

          لم يكن حنا شعلة هذه المجالات وحدها، بل كان من الولائم التي يدعونا إليها في داره الأرضية في «الزبلطاني» - وما كان أكثرها - وخاصة في حديقتها الواسعة، تلك الولائم التي كانت «مريانا» زوجته أبرع الطهاة في تحضير صحون المازة الشهيّة والمتنوعة و«الكبّة» النيئة وأقراصها المقلية والمشوية، وكان حنا لا يفتُرُ عن مساعدة النساء في تنظيم المائدة وخدمة الضيوف ورفع الأنخاب العجيبة فإذا حَمِيَ وطيس المأدبة كان أمهرنا في رفع صوته الرجولي، وكان مقبولا، بأغاني الميجنا والعتابا، فإذا سَخُنَت السهرة أكثر نهض واقفا محرّكا قامته الرشيقة على الإيقاع في رقصة مجيدة لا تقلّ لطافة عما وصَفَها «كازنتزاكي» في بطل روايته «زوربا» حتى صار بعضهم يشبه حنّا بـ «زوربا» البلد، وكم كان يبدو سعيدا بهذا اللقب الخارق. ومن هنا يمكن القول إن كثيرا من شخصياته القصصية والروائية كان يستقي صورها النشيطة الأصيلة من تركيبته الشخصية، عامدا أو غير عامد، مما أضفى على أدبه عامة أصالة عميقة الجذور، ونَفَسا واقعيا ملتهبا.

المرأة.. الميدان

          وربما كانت المرأة هي ميدان حنا مينه الأحفل والأجمل في التعبير عن البراكين التي كانت تتّقد في أعماق هذا الصديق العجيب. وفي ذكرياتي بعضٌ مما يمكن أن أرويه ويتّسع له المجال هنا كذكرى تلك السفرة التي قمنا بها من دمشق إلى حلب في مهمّة ثقافية، وكنا أربعة رفاق كان حنّا واحدا منهم في سيّارة أجرة عادية، إضافة إلى فتاة جميلة كانت تعمل - كما عرفت منها فيما بعد - في أحد ملاهي حلب. ويشاء الحظّ السعيد أن يمنحني متعة الجلوس إلى جوارها قرب السائق وهو مكان ضيّق كما تعرفون يتّسع لاثنين بصعوبة تقتضي أن يتلاصق الجسدان، وكم كانت ممتعة هذه الصعوبة في سفر يدوم أربع ساعات لا تُحس بها إلا كأنها دقائق إلى جوار امرأة جميلة!.. ما أزال أذكر حتى اليوم كيف كان حنّا يُطِلّ علينا بتعليقاته المثيرة مشجّعا إياي على أن أوغل مع شريكتي في المكان أعمق مما كنت أصنع، فإذا تباعدتُ عنها لسببٍ من الأسباب كان يقرصني من كتفي هامسا: «غبيّ!..» فإذا التحمت بها في ما يشبه العناق من دون أن ألقى ممانعة تُذكر هتف حنّا وحده بأعلى صوته: «برافو!..» ولولا أن مساءنا في حلب يومئذ كان مليئا بالواجبات إذن لما تأخّر عن أخذي معه إلى الملهي الذي كانت تعمل فيه رفيقة السفر عملا بشعاره عن الجمال في زخم الحياة القائل إن المرأة هي السعادة الأولى للرجل، وما تبقّى ليس سوى مكمّلات لها!

          لقد شاخ «حنا» الآن كما شخنا معه، غير أنه يبقى أكثر الباقين على قيد الحياة من جيلنا احتفالا بالحياة حتى ليبدو بالرغم من الأوجاع التي تلاحقه، ولا يعبأ بها، كأنه في كل صباح يفتح الستارة عن مشهد طازج لحياة واعدة. فهو لايزال يدخّن ويعارك ويكتب ويُشارك بهمّةٍ عالية وكأنّ الصبا الذي ولّى قد أبقى في روحه وجسده على جذوة لا تخمد مادام في أعماقه نَفَسٌ يتردّد.

حياته

          - ولد في مدينة اللاذقية في سورية عام 1924.

          - هاجر صغيرا، مع عائلته، إلى لواء الإسكندرونة، وبعد ذلك انتقلت العائلة للعمل في الريف السوري.

          - عاش حياة صعبة في الفقر والتنقل وراء الرغيف من مكان إلى مكان، عمل في مهن شتى واكتسب تجارب غنية.

          - عمل حمالا في المرفأ، وعاشر البحارة في ميناء اللاذقية، وخبر حياة البحر والسفر.

          - عمل حلاقا منذ أوائل الأربعينيات. وكان يشارك في الحركة النضالية ضد الفرنسيين، وشارك في المظاهرات. وقد اعتقل وسجن مرات عدة. وبدأ بالكتابة والنشر منذ تلك السنوات حين كان يعمل في مهنة الحلاقة. ومن أوائل ما نشر: قصة قصيرة بعنوان «طفلة للبيع» نشرتها له مجلة الطريق في عدد ديسمبر 1945.

          - عام 1947، انتقل من اللاذقية إلى دمشق، حيث أتيح له العمل بالصحافة.

          - كان من مؤسسي «رابطة الكتاب السوريين» عام 1951 وهي الرابطة التي أسست للأدب التقدمي الطليعي في سورية. من أعضائها... سعيد حورانية، شوقي بغدادي، صلاح دهني، فاتح المدرس، مواهب كيالي، وحسيب كيالي، وغيرهم. ونظمت الرابطة عام 1954 المؤتمر الأول للكتاب العرب بمشاركة عدد من الكتاب الوطنيين الديمقراطيين الطليعيين في البلاد العربية، وأعلن فيه تشكيل أول رابطة أدبية على النطاق العربي باسم «رابطة الكتاب العرب».

          - ابتداء من العام 1959 اضطرته الظروف السياسية إلى الرحيل عن سورية، عاش فترة في لبنان، ثم سافر إلى الصين فالمجر، وإلى الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان أخرى فترة عشر سنوات.

          - بعد عودته إلى سورية، عمل في وزارة الثقافة، خبيرا في مديرية التأليف والترجمة.

          - إلى جانب إنتاجه الإبداعي الأساسي: الرواية، كتب حنا مينه المقالة، والقصة القصيرة، والدراسة الأدبية، وفصولا عن تجربته الروائية.. وفي كل هذا رفع راية الواقعية الفنية المتطورة والمنفتحة على كل الآفاق.

          - ترجمت معظم أعماله إلى اللغات الأجنبية، وأعيدت طباعتها أكثر من مرة.

 

شوقي بغدادي   




وسط الكتب والأوراق. هذا هو المستقر الحقيقي لحنا مينه بعد سنوات المنفى والتنقل





تأمل حزين وحياة صعبة في زمن عربي صعب