رحلة 40 عملاً روائيًا

رحلة 40 عملاً روائيًا
        

إنه واحد من أبرز الروائيين العرب الذين عالجوا قضايا الوجود القومي من خطاب الذات إلى حوار الآخر في أعماله الروائية التي قاربت الأربعين رواية.

          كانت روايته الأولى «المصابيح الزرق» عام 1954 ثم تلتها «الشراع والعاصفة، الثلج يأتي من النافذة، الشمس في يوم غائم، الياطر، وثلاثية بقايا صور، المستنقع، القطاف» ثم رسخ فنه الروائي في أبعاده الوطنية والاجتماعية والإنسانية في رواياته «حكاية بحار، الدقل، المرفأ البعيد، مأساة ديمتريو، نهاية رجل شجاع»، وازدادت عنايته بالحوار الحضاري عبر رواياته «الربيع والخريف، حمامة زرقاء في السحب، الولاعة، فوق الجبل وتحت الثلج، حدث في بيتاجو». واستغرق المنظور الروائي في التخييل والفانتازيا في رواياته «النجوم تحاكم القمر، القمر في المحاق، عروس الموجة السوداء، الرجل الذي يكره نفسه، الفم الكرزي، حين مات النهد، صراع امرأتين».

          كما اهتم حنا مينه بالقضايا الفكرية والأدبية عند ناظم حكمت فأصدر عنه ثلاثة كتب تناول فيها قضايا السجن والمرأة والحياة إلى جانب الثورة في حياته وأدبه، وتبدو خلاصة فكر ناظم حكمت - حسب رؤية مينه - التطابق الذي يكاد يكون تاما بين فكره وسلوكه وبعد الرؤية الزمنية لديه.

          كما جاهر مينه بتجليات إبداعه وسيرته الذاتية في كتابه «هواجس حول التجربة الروائية»، وظهرت الواقعية الاشتراكية في «كيف حملت القلم» حيث تقوم على التفاعل بين العام والخاص. وعالج قضايا الكفاح الوطني ومقاومة الاستعمار في مؤلفاته المشتركة مع الدكتورة نجاح العطار «من يذكر تلك الأيام، أدب الحرب»، وبلغ أدب المقاومة ذروته في روايته «المرصد».

البحر مجنونًا وعاقلًا

          يمثل البحر موضوعا أثيرًا لدى حنا مينه، إذ على مدار أعماله الروائية «حكاية بحار، المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الربيع والخريف، الرحيل عند الغروب، الثلج يأتي من النافذة، النجوم تحاكم القمشعر، نهاية رجل شجاع..» تتوالى، وتتعدد مفردات البحر، أسماء، وشخوصا وعناوين.. ويظهر البحر رمزًا؛ وجزءًا من الذات التي لا يمكن أن تكتمل إلا به، إنها تتوحد به / وفيه، وكونًا واقعيًا مضادًا لحالة الجدب، والخواء التي تضرب بأطنابها الوجود العربي. «لكني أدري، يا بحر، أنني عشتك مجنونًا وعاقلاً، فما ازددت جنونًا وعقلاً إلا منك وفيك، وأنني، يا بحر، رعيتك شابًا وشيخًا، وكنت وفيا لك في الحالين، ثم يا بحر تنسكتك طهرا وفحشت فيك، فما بقي في الكف لهب قدسي، ولا في الجارحة هوى عذري، ذلك أن عشقك، على القرب والبعد، ظل يقتات من قلبي ونفسي». وهذا ما منحه امتياز التمثيل الحق لوجوده بكل مرجعيات هذا الوجود، وتدخلاته المعقدة ؛ ونحسب أن هذا الامتياز جعله دائم التجدد، متواصلا مع الأجيال حتى زمن قادم بعيد.

          هذا هو حنا مينه الذي عرفته في «الربيع والخريف، الرحيل عند الغروب، المصابيح الزرق، الدقل، حمامة زرقاء في السحب» قبل أن نلتقي في منتصف العام 2005، حين ذهبت إليه محاورة بمناسبة حصوله على جائزة الكاتب العربي من اتحاد أدباء مصر، وكانت هذه الجائزة، هي المرة الأولى التي تمنح فيها إلى كاتب من خارج مصر.

          حدثني عن طفولته التي ضاعت بالشقاء، حيث عمل أجيرا... في أكثر من مهنة، بحارا على المراكب الشراعية... حلاقا في حارة القلعة في مدينة اللاذقية... حدثني عن شبابه الذي أمضاه في السجون والمنافي، ومناضلا ضد الفرنسيين، في دفاعه عن البؤساء والفقراء والمعذبين في الأرض أينما وجدوا، والدفاع عن مكانة سورية الحضارية والإنسانية، وسر اللهب القدسي المنطلق منها هو شغله الشاغل ومنتهاه، وقبل أن أغادره همس في أذني «اكتبي واقرأي من أجل ذاتك أولا، ومن ثم للآخرين، اكتبي قناعاتك دون خوف فالعمر واحد»، ومنذ ذلك الحين وأصداء تلك الكلمات القليلة لا تبارح ذاكرتي. 

عزز المطابقة بينه وبين أبطاله

          في روايات حنا مينه اهتمام واضح بالشخصية التي تكاد تستقل بالنص أو بمرتبة البطولة فيه.. كما هي حال «فارس» في المصابيح الزرق، و«الطروسي» في الشراع والعاصفة، و«كرم» في الربيع والخريف، و«فياض» في الثلج يأتي من النافذة، و«صالح وسعيد حزوم» في ثلاثية البحر / حكاية بحار، الدَقل، المرفأ البعيد /. وقد طابق بعض النقاد بين حنا مينه وأبطال رواياته، فهو الفتى في «بقايا صور والمستنقع»، وفياض في «الثلج يأتي من النافذة». بل إنه سعيد حزوم الذي كان «فتى» في بقايا صور والمستنقع، فأصبح رجلا يسترجع سيرة أبيه صالح ويجسد وصيته: «البحر سيد الوجود، فخذه على أنه كذلك، وأحبه على هذا الأساس. أحب البحر تحبني، وأحبني تحب البحر».

ذكريات لا تنطفئ

          والواضح أن حنا مينه قد أسهم في تعزيز المطابقة بينه وبين أبطاله حين صرّح بتوظيفه بعض سيرته في رواياته، إذ قال على سبيل المثال: «إنه لاحظ وهو يتقدم في العمر أن وقائع طفولته البعيدة تنطفئ في مخيلته شيئا فشيئا. ولهذا السبب عمل على جمع الوقائع والصور في عمل أدبي روائي هو بقايا صور» مسترجعًا في ذاكرته الأشياء كما وعاها، أو كما سمعها من والده وأقاربه في ما بعد. هذا الأمر الذي دفع بالنقاد إلى التصريح بأن رواية «بقايا صور» هي سيرة روائية لحنا مينه وأسرته، وأن يمدوا هذه المحاكمة إلى أي نص روائي فيه شبهة السيرة أو إيهام بها.

          وعلى الرغم من أن حنا مينه نفسه قد نفى أن يكون بطلا لأي من رواياته، وأن البطل لديه نموذج أدبي محكوم بأربعة أطراف رئيسية هي «الأم، والأب، والعشيقة، والمعلم أو المرشد» وقد تحدد هذا المنوال شيئا فشيئا من خلال تجربة روائية طويلة بدأت بالمصابيح الزرق، وظهرت صورتها الأكمل والأبلغ في ثلاثية البحر، وقد تتنوع صورة هذه الشخصيات الرئيسية من رواية إلى أخرى ولكنها لا تخترق هذا المنوال إلا نادرا...!! وقد عزز هذه المقولة الناقد «غالي شكري» حين نفى أن تكون روايات حنا مينه سيرة ذاتية له. وكذلك الناقد «صدوق نور الدين» حين تحدث عن رواية «الرحيل عند الغروب» فذكر أنه من الصعب اعتبار هذه الرواية سيرة ذاتية، فهي تتأطر زمنيا مع العام «1952»، ومثل هذا التأطير يجعلها قريبة من حروب ونضالات شعبية، وفي الآن ذاته ثورات عرفتها مناطق معينة، لولا أن الروائي لم ينشغل بالسابق أو اللاحق، وإنما تركّز اهتمامه أساسا في الصلة القائمة مع «البحر، المرأة، الخمر» وجعل من المرأة المحور الأساس الذي تدورفي فلكه أحداث عمله الروائي وشخصياته، وربما يعود ذلك إلى الدور الكبير الذي لعبته أمه في تكوين شخصيته، وتشكيل أخلاقياته،فمنذ الطفولة ربته على التقوى، وحب الله، والناس والفقراء، وحب الوالد واحترامه، والتمسك بالعائلة، تعلم منها معنى العمل، والاعتزاز به وحب الشجاعة والقدرة على العطاء والكرم. من هنا تجلى احترامه الإنساني للمرأة في حياته الخاصة، وكذلك، في أدبه. وهذا ما أصبغ على روايته ظلالاً ذاتية قوية جسدّها الخيالي دون التقيد بالواقعي الموضوعي الذي يجعل منها محطات في حياة المؤلف، ولهذا نرى شخصياته جزءا من تكوينه الفكري والاجتماعي وانعكاسًا مطابقًا للبيئة التي عاشها والتي شكلت وعيه الإنساني والسياسي.

جمالية النموذج

          لا يمكن لأي قارئ لأعمال حنا مينه أن تفوته ملاحظة وردت في نصه الذي حمل عنوان «النجوم تحاكم القمر» فلأول مرة يخص الكاتب قراءه بصفحة يوضح فيها نهجه في كتابة روايته فيقول: «هذه رواية ومسرحية معا، فمن شاء أن يقرأها رواية ففي وسعه ذلك، ومن شاء أن يقرأها مسرحية ففي ميسوره أن يفعل، وهو مشكور في كلا الحالين - إن التجريب، مع الابتكار، ليس صرعة قصدية بالنسبة إليَّ، بل هو هدف أنتحي إليه مجتهدًا، وقد تعدد وتنوع في رواياتي العشرين التي كتبتها حتى الآن، وصدرت كلها عن دار الآداب، ويمكن الرجوع إليها أو إلى بعضها، خاصة الذي صدر في السنوات الأخيرة، ليتأكد مما قلته في مناسبات سابقة عن تقلص مساحة السرد في رواياتي، ليتسع مجالها للحوار الذي أرى فيه تعبيرا أعمق عن الذات، وهذا النهج ليس اتباعا للرواية التي دعا إليها توفيق الحكيم وإنما هو محاولة في الرواية التي تمزج السرد بالحوار، وتعطي للشخصيات أن تقول سريرتها في مكاشفة تنبني على أرحب مدى من الحرية».

          وتكمن أهمية هذه الملاحظة في أن حنا مينه يذكر لأول مرة عبارة «تجريب» بمعناها الإيجابي، فعلى الرغم من محاولة التمييز بين التجريب والابتكار كأن التجريب ليس إبداعًا متواصلاً وابتكارًا مستمرًا، فإنه على كل حال ينبه إلى أنه لم يعد يتعامل مع هذا المفهوم تعاملاً يحمل معنى «الرفض»، أفليست روايته « النجوم تحاكم القمر» في بعض وجوهها، وكما يراها الكاتب تحمل بعدا تجريبيًا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى معظم رواياته.

          استطاع حنا مينه أن يجمع في معظم أعماله كل الحركات الأدبية التي تنأى عن الواقعية الخلاقة أي الواقعية الاشتراكية بروافدها المختلفة ووفق النموذج الذي صاغه لها، بضرب من النقد القاسي الذي يتحول في كثير من الأحيان إلى رفض واضح، فكل الأشكال الأدبية التي تحيد عن الواقعية كالوجودية، والعبث، وحتى الرواية الجديدة: تتصل حسب الكاتب، بالمد الرجعي في الوطن العربي، ويعتبرها من نتائج هزيمة العرب في يونيو (1967)، وهو بالوقت نفسه يرفض الرواية الجديدة باعتبارها رواية شكلانية....! إن أعمال حنا مينه عامة تجسد تجسيدًا بليغًا جمالية النموذج، إذ لا تزال مثل هذه الأعمال تُستقبل استقبالًا واسعًا، قراءة ونقدًا، وستظل تُقرأ ما دمنا نحيا على هذه الأرض.

 

عزيزة السبيني  





لقاء في الكويت بين حنا مينه والأديبة الكويتية ليلى العثمان





 





مازال حنا مينه يدخن ويشارك في كل المعارك رافضا الاعتراف بالشيخوخة