الفتاة والدراق نزار ضاهر

الفتاة والدراق

فالنتين سيروف 1865-1911

يكتسب التيار الأكاديمي الروسي أهمية خاصة في تاريخ الفن التشكيلي الأوربي. وقد لعب فنانون كبار دورا مهما في تطوير المدرسة الأكاديمية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويعتبر فالنتين سيروف من أبرز الأسماء التي حملت هموم الحياة التشكيلية في روسيا, في محاولة لدفعها إلى الأمام لتتناسب مع طبيعة التطوّر الفني الذي شهدته الساحة الأوربية.

ولد فالنتين الكسندروفتش سيروف عام 1865 في محيط عائلي فني, فقد كان والده مؤلفا موسيقيا مشهورا وناقدا فنيا, كما عملت والدته أيضا في التأليف الموسيقي, إضافة إلى كونها عازفة بيانو.

كان له من العمر تسع سنوات فقط عندما بدأ بتعلّم الرسم خلال إقامة عائلته في مدينة ميونيخ الألمانية, انتقلت العائلة بعدها إلى باريس, حيث عمل سيروف إلى جوار (ريبين), وكان (ريبين) إذ ذاك, أستاذاً للتصوير في أكاديمية الفنون يقيم في العاصمة الفرنسية لمتابعة دراساته العليا التي بدأها في أكاديمية سان بطرسبورج للفنون, والتي تسمّى اليوم باسمه.

في عام 1880 انتقل سيروف للدراسة في أكاديمية الفنون بسان بطرسبورج عملا بنصيحة أستاذه (ريبين), والتحق بمحترف حيث كان يتمتع بحرية نسبية, إذ كان الانصياع الكامل للمناهج الأكاديمية الصارمة يتناقض مع طبيعته الخاصة, وربما كان تقديره لأستاذه شستياكوف أحد أسباب متابعته للدراسة في تلك الأكاديمية إلى حين نيله شهادة التخرج.

سافر سيروف بعدها إلى أوربا الغربية بنية الدراسة والتعرف عن قرب على كبار الفنانين في هولندا وإسبانيا وإيطاليا. ولاشك في أن الإقامة في أوربا قد ساعدت على شحذ موهبة سيروف. ولابد هنا من القول إن مظاهر النضج المبكر كانت قد برزت لديه في سن الخامسة عشرة, لتتطوّر وتتعمّق بفعل الدراسة. وبعد عودته إلى روسيا احتل موقعاً خاصاً في صفوف الحركة التشكيلية الروسية خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. قام سيروف بإصلاحات مهمة, ومهّد لاتجاهات فنية جديدة بربطه بين مرحلتين من مراحل الفن التشكيلي الروسي, مما يدفعنا إلى القول, دون مبالغة, إن الفن الروسي شهد بفضله انطلاقة جديدة في بداية القرن العشرين.

بدأت الانطباعية بالظهور في أعمال الرسامين الموسكوبيين حوالي عام 1880. ولقد لفتت أعمال سيروف انتباه هؤلاء, وعلى وجه خاص مشاهده الريفية الحافلة بالضوء وسحر الريف وبالمظاهر الحياتية اليومية. كانت هذه الأعمال توجهات انطباعية, وربما تعدّتها إلى مرحلة أقرب إلى التعبيرية. وفي مطلق الأحوال فقد حاول سيروف التوفيق ما بين الأصولية الأكاديمية والتيارات الجديدة. ولذا فقد كانت أعماله, وبشكل خاص في مجال البورتريه, تنال إعجاب الرسّامين التقليديين الروس لما كانت تحتويه من عناصر واقعية تذكّر بأساتذته, وعلى رأسهم ريبين, وتعامل المجددون بإيجابية مع نتاجه بعدما رأوا فيه تأثير تيارات الحداثة. ولقد كان منهج سيروف التوفيقي مثار إعجاب النقّاد أيضا, وقدّر جميع هؤلاء موقف الفنان الذي لم يقبل يوما التخلي عن التراث وعن إسهامات من سبقه من رسّامين, بل عمل على إحيائهما على طريقته الخاصة, وبأسلوبه الخاص.

لو شئنا الحديث عن فن سيروف بكل تفاصيله لوجدنا ذلك مستحيلا عبر أسطر أو صفحات, ولذا سنكتفي هنا بالحديث عن أحد جوانب إبداعه كرسّام وجوه (بورتريتيست).

من أحسن أعمال سيروف المبكّرة ما يحتفظ به متحف (تريتاكوف) وهما لوحتا (الفتاة والدراق) و(الفتاة تحت نور الشمس). وفي عرضنا للوحة (الفتاة والدراق) نجد أن سيروف لم ير أنها صورة شخصية فحسب, بل تعدى ذلك بكثير لما تحتويه من العناصر الفنية, حتى إنه لم يكن يذكر اسم الفتاة وحتى لا تكون مجرد نسخ لشكل معين بل أبعد عمقا عن غرض التصوير العادي للشخصيات, ففي اللوحة نشعر بأن هناك لحظة استراحة, توقّف سوف تعقبها حركة تنقل الفتاة من مكانها إلى مكان آخر, فالحركة الضمنية يبرزها سيروف بسطح الطاولة التي يظن المشاهد أنها تنتقل إلى البعيد, وبمثلث القميص الوردي الذي يوازن هذه الحركة وبتعادل المسافات بين الأشياء التي تبدو وكأنها وضعت صدفة في الغرفة في حين أن تنظيمها اقتضى درسا دقيقا.

وكأنه يهتم بالتقاط الطبائع المحتجبة وراء ملامح الوجوه ليبدو وكأنه محلل نفسي خبير في النماذج البشرية. كان عمله يستغرق وقتا طويلا, وكثيرا ما كان يعمل في حال من الألم, وقد قال: (إن رسم الوجه يعذّبني كما يعذّبني المرض). وقد أجاب (سيروف) على (إيجور جرابر) الكاتب الناقد الذي أرّخ لحياة هذا الفنان (إن غرضي من هذه اللوحة, كان يهدف إلى ما أشعر به دائما من جمال الطبيعة ونضارة الحياة وقد قضيت أكثر من شهر منكبّاً على عملي, لدرجة خشيت معها أن أكون قد عذّبت الفتاة وآلمتها, ولكن كيف لي أن أحتفظ بتفجّر حيويتها ونقاء وبهجة روحها ونفسيتها, دون أن تمس ذلك شائبة, كما كان الأساتذة القدامى الروّاد يفعلون.

 

نزار ضاهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





الفتاة والدراق (وجه فيرا مامونتوفا) 1887, زيتية - قماش 91x85سم غاليري تريتاكوف - موسكو