عبدالعزيز التويجري بين السياسة والأدب والتاريخ

عبدالعزيز التويجري بين السياسة والأدب والتاريخ
        

يعد عبدالعزيز التويجري شخصية عربية وسعودية نادرة. مزج بين السياسة والشغف بالأدب. وتجلت في حياته العديد من المواقف الصلبة التي كانت تحتاج إليها المملكة في أيام نشأتها الأولى.

          مضى على بداية تكوين المملكة العربية السعودية قرن وستة أعوام ميلادية، عندما انطلق مؤسسها الراحل الملك عبدالعزيز من الكويت عام 1902، ليعيد عبر مسيرة جهادية وسياسية - دامت، دون توقف خمسة وخمسين عامًا - مجد الدولة السعودية التي بدأها جده الخامس (محمد بن سعود) في منتصف القرن الثامن عشر (1744).

          كان عبد العزيز بن سعود - ولمّا يبلغ الثانية والعشرين - قد تجرّع مرارة انقسام بعض أعمامه، وتشتت أسرته، وتفلّت الدولة الثانية، فأقدم مدفوعًا بالعزيمة والعبقرية الفطرية المبكرة، مجيدًا لعبة شطرنج السياسة، وبراعة النزال، وتكتيك التعامل مع القبائل، وفن احتواء الناس، حتى استطاع في غضون عقدين ونصف العقد من حكمه الذي دام خمسة وخمسين عامًا، أن يخلي الجزيرة من الأتراك، ويجمع أطراف البلاد في دولة مهيبة واحدة، لم يكن يُعينه في ذلك سوى الأقدار والتوفيق، والحنكة والسيف والخيل، والرجال الأوفياء المخلصين في أسطورة لم يماثلها سوى نماذج نادرة من قصص التاريخ.

اصطفاء الرجال

          أحاطت بالإمام، كما كان يسمى، منذ بداية مسيرته التوحيدية نخبة من رجالات نجد، ومن أبناء عمومته، من رافقه رحلته الأولى وكان منهم زعماء قبائل ورؤساء عشائر، ثم أمراء أقاليم يتوقون إلى إنهاء سنوات من التفكك والضعف، ثم أحاط به أصهاره وأعيان من البلدات التي أعاد ضمها، ومهاجرون كانوا تعلموا في البصرة والهند وبلاد الشام، وانضم إليه مع تقدّم فتوحاته ونجاحاته رجال كانوا موالين لخصومه في تركيا والأحساء وحائل والحجاز وعسير، ثم تحولوا لنصرته، ومع الأيام اجتمعت لديه منظومة من المستشارين من سائر الأقطار العربية والأجنبية، كان من بالغ المهارة أن تجدهم، ومن البراعة أن توظف قدراتهم، ومن الكياسة أن تمزج خبراتهم، وتحافظ على إيقاع حماستهم وشدّ ولائهم.

          هنا، نقف أمام عينة من رجاله، الذين شهدوا مولد الدولة الجديدة (في عهدها الثالث) وأسهموا في تأسيسها، وأدركوا بعض العقود الخمسة والنصف التي حكم فيها (حتى عام 1953)، كانوا بالمئات، فقدتهم المملكة - وفق سنة الحياة - واحدًا واحدًا، حتى لم يبق منهم الآن - سوى أعداد يسيرة من المسنّين.

          كان من أواخر هؤلاء أربعة أشقاء من أسرة التويجري، التي تتحدر من قبيلة عنزة، وتتركز في المجمعة (بإقليم سدير) شمال الرياض وفي القصيم وغيرهما.

          كان أولهم حمد الذي تولى مالية إقليم سدير ثم مالية القصيم، من أبرز طواقم العمل المالي في عهد الملك عبدالعزيز.

          وكان الثاني محمد الذي توفي مبكرًا، ثم عبدالعزيز، موضوع هذا المقال، الذي توفي فجر يوم الأحد ( 10 / 6 / 2007)، ثم عبدالله حفظه الله، الذي تقلّب في عدد من الوظائف في الديوان الملكي السعودي في عهد الملك عبدالعزيز، كان آخرها عمله في الشعبة السياسية.

سيرة ومسيرة

          ولد صاحب هذه الترجمة، وفق أرجح الأقوال، في مطلع العقد الثاني من القرن الميلادي المنصرم، وهو ما يتصادف زمنيًا في سلسلة الحوادث الواقعة في نجد مع انتهاء الحكم العثماني في الأحساء، وعودة الإقليم إلى الحكم السعودي، وكان التويجري - شأن كثير من النابهين من جيله، مثل الشيخ حمد الجاسر وعبدالكريم الجهيمان - لم ينل حظًا من التعليم الحديث في القرى والبلدات التي ولدوا فيها، فانصرف الأخيران (الجاسر والجهيمان) إلى طلب العلم في الحجاز بعد نهاية حكم الأشراف فيه بينما اتجه التويجري متأثرً بأخيه الأكبر (حمد) نحو الإدارة،فخلفه في الإشراف على مالية سدير في مطلع الثلاثينيات الميلادية، (وهي فترة إعلان توحيد المملكة تحت اسمها الحالي)، وكان في الوقت نفسه يحتك بالأدباء والمثقفين، ويطوّر نفسه بنفسه، وقد تأثر كثيرًا بأدب المتنبي وبكتابات ابن خلدون في تتبّع تساؤلات التاريخ، ولم يستثن في علاقاته أي طائفة أو صاحب رأي مختلف معه.

التويجري سياسيًا

          استمر في عمله الإداري والمالي نحوًا من ثلاثة عقود، حتى قادته الظروف إلى أن يلتحق في مطلع الستينيات برئاسة الحرس الوطني السعودي ملازمًا لرئيسه آنذاك (الملك الحالي) عبدالله بن عبدالعزيز، الذي منحه ثقته الكبيرة، وتوطدت بينهما عرى من المحبة الصافية.

          وهنا توافرت للتويجري فرص رفادة رئيسه بالرأي الناضج والمشورة المخلصة والعون الصدوق، في حين كان الأمير - الرئيس يتهيأ لتسنم ولاية العهد، ومن ثم قيادة البلاد.

          لقد تحوّل التويجري من مدير مالية ومجنّد في جيش الموحد إلى واحد من صنّاع القرار السياسي، وأنجب نخبة من الأنجال أكملوا مسيرة والدهم في الوفاء للقيادة والعمل التنويري، واستمالة القلوب.

الفروسية الثقافية

          سعى التويجري، يعاون رئيسه، لتغيير الوجه العسكري والبدوي للحرس الوطني، بحيث ينحو وجهة المزج بين الفروسية والثقافة والخدمات الاجتماعية، وليصبح صرحًا أمنيًا وصحيًا وعلميًا واجتماعيًا، فكان أحد مهندسي ما يعرف اليوم بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) الذي بدأ في عهد الملك خالد في شكل مهرجان لسباق الهجن (الإبل) ثم صار معلمًا ثقافيًا بارزًا يضاهي أمثاله في أصيلة وقرطاج وغيرهما.

          لقد بلغ من اهتمامه، ومَنْ ساعده من مسئولي الحرس الوطني، أن جعل من هذه المؤسسة ذات الطابع العسكري أكاديمية للتراث والثقافة والإبداع الفني، والتدوين التاريخي والمعارف المتنوعة، صدرت عنها كتب غاية في الأهمية من توثيق التاريخ الشفوي والتحريري، مستفيدة من عمق معرفتها برجال القبائل وزعماء العشائر وصلتها الوثيقة برموز البادية وقدامى المسئولين.

المؤرخ والأديب

          وبالإضافة إلى النشاطات الفكرية المتعددة، التي أسهم التويجري في تنفيذها تلبية لرغبة رئيسه في تبني بعض المشروعات الثقافية الوقفية، ومنها - على سبيل المثال - مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بفرعيها في الرياض والدار البيضاء، فلقد برز في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته عاشقًا للأدب، متيّمًا بالتراث، وشغوفًا بالتاريخ، متميزًا بثلاث سمات:

          الأولى: أنه وقد رحل عن عمر قارب القرن، وأدرك فترة التأسيس وعاش ظروفها، كان أحد الشهود المخضرمين على عصرين: عصر  التوحيد السياسي وعصر النهضة، فضلاً عن كونه قد غرف من مخزون عميق من التجارب والظروف الاقتصادية والاجتماعية، التي مرت بنجد قبل أن ينبثق البترول على وجه الأرض.

          الثانية: أنه عشق وطنه، وتغنّى بأمجاده، وأحب موحّده، وهام بتاريخه، وتذوق طعم الأمن والرخاء، وأحسّ بطعم التوحيد السياسي والاستقرار الذي ساد بعده.

          الثالثة: أنه حاول خلال تلك العقود الثلاثة الأخيرة من حياته أن يترجم عشقه لتاريخ المؤسس بأعمال توثيقية بالغة الجودة، والصنعة التدوينية الراقية، ما هو معروف من آثاره وكتبه.

وبعد..

          لقد كان التويجري قامة فكرية وسياسية، وعلامة مضيئة في تاريخ شبه الجزيرة العربية، وأحد أعمدة الثقافة فيها، ومن عمالقة الرأي والنهضة التنويرية والتصالحية فيها، ولو لم يكن من أعماله، التي خلّفها لنا سوى كتابة التاريخ التوثيقي الذي قدم له هيكل ونشرته دارا رياض الرّيس والساقي بعنوان: لسراة الليل هتف الصباح، وملحقه: عند الصباح حمِد القومُ السُّرَى (الأول 1997 والثاني 2004) لكفى.

 

عبدالرحمن الشبيلي   





 





بعض مؤلفات التويجري وهي عشرة كتب