نازك الملائكة.. وداعا.. شوقي بزيغ

نازك الملائكة.. وداعا.. شوقي بزيغ
        

1923 - 2007

الشاعرة الثائرة تستكين للموت

بعد صراع طويل مع المرض، ماتت الشاعرة العراقية الكبيرة في أحد مستشفيات القاهرة في 20 يونيو 2007 عن عمر يناهز 84 عامًا، بعيدة عن وطنها الذي تشتعل فيه النيران، كانت الملائكة واحدة من طليعة الشعراء الذين أرسوا منهجًا وشكلاً جديدًا للشعر العربي وثارت على كل التقاليد التي تكبل حرية الشاعر وفكره. و«العربي» إذ ترثيها لقرائها، تنشر هذه المقالة التي كتبها شاعر لبناني معروف قبل موتها تحية لها بمناسبة مرور 60 عامًا على قصيدة «الكوليرا» التي كانت المقدمة لثورة الشعر العربي الحديث.

          لن أدخل هنا في سياق السجال الطويل والعقيم الذي دار بين النقاد والدارسين حول الأسبقية الزمنية لكل من قصيدة «كوليرا» لنازك الملائكة. وقصيدة «هل كان حبًا»؟ لبدر شاكر السياب وأيهما سبقت الأخرى. فكلتا القصيدتين قد استهلتا تاريخًا جديدًا من الكتابة الشعرية العربية لأن المسألة باعتراف نازك نفسها لا تتعلق بالمصادفة العابرة أو السبق العرضي بل بمشروع ثقافي ورؤية إبداعية متكاملة يحكمها الوعي وإرادة التغيير من جهة، والتحولات الاجتماعية العميقة من جهة أخرى. ولو لم يكن المشروع المستند إلى الوعي والدأب معيارًا في تحديد مفهوم الريادة الشعرية لوجب أن تعزى هذه الريادة إلى شعراء أسبق في الزمن من بدر ونازك مثل علي أحمد باكثير وبديع حقي ولويس عوض، فضلا عن العراقي أحمد مطلوب الذي تعتبره نازك في كتابها النقدي المميز «قضايا الشعر المعاصر» أول من كتب الشعر الحر في العام 1921م.

الشعر والأنوثة

          إنه لمن اللافت حقًا أن تكون نازك الملائكة قد ولدت في العام نفسه الذي ولد فيه نزار قباني، لا بسبب التشابه بين التجربتين بل بسبب الدلالات المختلفة التي ترسمها كل منهما في إطار الحداثة الشعرية الوليدة كما في إطار العلاقة بين الشعر والأنوثة. فهما يتقاطعان في كون كل منهما قد عمل على خلق حساسية مختلفة ومنظور جديد للكتابة يقترب من الحياة نفسها ويبتعد عن التصاميم الجاهزة وبلاغة القواميس والتأليف الذهني البارد. دون أن نغفل بالطبع أن شعر نازك كان يجنح أكثر نحو الأسئلة الفلسفية ذات البعد الوجودي في حين راح شعر نزار يغرف من معين الحواس والتفجر الشهواني والالتحام المباشر بالكائنات والأشياء. الدلالة الأخرى التي تستوقف القارئ المتأمل تتعلق بالحيز الذي تشغله الأنوثة في التجربتين المتغايرتين. فالأنوثة هي المجال الحيوي لشعر قباني الذي لايجد نفسه خارج جاذبيتها وإغوائها وموضوعها وحقل مفرداتها، ولو أن ذلك الأمر كان يتم من موقع «الذكر» الأوحد الذي يتوج مفهوم الفحولة القديم عند العرب. والذكر هنا هو الموكل، على غرار سلفه عمر، بالفتنة الأنثوية بقدر ما هو المخول بأن ينوب عنها في اللغة والتعبير. في حين أن ريادة نازك الملائكة للحداثة الشعرية هي نوع من حرب الاسترداد التي تخوضها الأنوثة لانتزاع حقها في الحياة كما في اللغة، وفق ما يراه الناقد السعودي عبدالله الغذامي. واللافت عند نازك أنها لم تقع في الفخ الذي وقعت فيه نساء كثيرات ولم تستدرج إلى منازلة لا تريدها مع الرجل - الذكر بل ذهبت إلى الأسئلة الأكثر عمقا التي تضع الرجولة والأنوثة في خانة واحدة أمام رعب المصير الإنساني.

          لا يغير من الحقيقة في شيء أن يكون بدر شاكر السياب شريكًا لنازك في ريادة القصيدة الحديثة. فشعر السياب من حيث ظلاله النفسية وتموجاته الإيقاعية الحزينة هو شعر أنثوي بامتياز.

          إنه شعر القلب المكسور والألم المحض الذي لا يحبس نفسه مكابرًا كما يفعل الذكور بل يتواشج مع حسراته مثقلاً بالبوح والترجيع كما هو الحال مع الإناث، ثمة أمر آخر يجمع بين السياب ونازك هو انتسابهما معًا إلى معهد المعلمين العالي، كما هو الحال أيضًا مع البياتي ولميعة عباس عمارة، إضافة إلى اطلاعهما على الآداب العالمية، ولو أن الأخيرة تفوقت على صاحب «أنشودة المطر» في مجال الثقافة والاطلاع والإلمام باللغات الأجنبية بحكم ظروفها العائلية المؤاتية من ناحية وبسبب إقامتها المتكررة في أمريكا لمتابعة تحصيلها الدراسي من ناحية أخرى. لكن ما يثير الدهشة في هذا الإطار هو أن أصول نازك الأولى تعود إلى عائلة «الجلبي» العريقة والثرية، في حين أن هذه العائلة نفسها هي التي أثارت شجون السياب العاطفية والنفسية والطبقية ووقفت وراء كتابه الشعري الشهير «شناشيل ابنة الجلبي».

الملائكة المهذبون

          في كتابها حول نازك الملائكة تروي الكاتبة اللبنانية حياة شرارة فصولاً مشوقة من سيرة الشاعر العراقية التي كانت تعيش في القاهرة مريضة وشبه وحيدة وبعيدة عن الأضواء والتي لم تأبه لبريقها في أي وقت من الأوقات. وما لفتني في هذا الصدد هو أن اسم الملائكة قد أطلق على العائلة قبل قرنين من الزمن بفعل التهذيب المفرط لأبنائها، في حين أن أباها صادق الملائكة أعطاها اسم نازك تيمنًا بنازك العابد، إحدى المناضلات السوريات ضد الاحتلال الفرنسي في الربع الأول من القرن العشرين. كما أن رد فعل والد نازك لدى سماعه قصيدة «الكوليرا» المكتوبة وفق نظام الشعر الحر بدا شبيهًا في غرابته بالذهول الذي أبداه ابن الخليل بن أحمد الفراهيدي لدى تلصصه على أبيه وهو يردد بصوت مسموع بعض بحور الشعر وتفعيلاته.

          وإذا كان طفل الخليل قد ذهب إلى أمه صائحًا «ويلتاه لقد جن أبي!»، لدى سماعه ما لم يفهم، فإن والد نازك المثقف والمحب للشعر العمودي لم يذهب إلى حد اتهام ابنته بالجنون، بل اكتفى بعدم استساغة تفعيلات «المتدارك» الجديدة والتي تتكرر معها مفردة (الموت) مرات عدة، وارتجل للتو بيته الشعري: «لكل جديد لذة غير أنني/ وجدت جديد الموت غير لذيذ».

          لم تترك نازك الملائكة الأثر الذي تركه السياب في نتاج الأجيال التي تلتهما. لكن القامة العالية للسياب لم تكن وحدها السبب في ذلك بل أرجح أن يكون السبب عائدًا إلى الفروق بين التجربتين، فالغنائية العالية لدى السياب وما تستتبعه من تفجر عاطفي وإيقاع عذب ومتدفق تغري اللاحقين باحتذاء النموذج السيابي واستسهال محاكاته، في حين أن شعر نازك يقوم على عناصر مغايرة كالتأمل الهادئ والمساءلة الوجودية والإيقاعات الأكثر خفوتًا. كما أن الشعراء الذكور، بسبب من ذكوريتهم الطاغية، يأنفون من محاكاة النموذج التعبيري الأنثوي، على الرغم مما حققته الحداثة من انعطافات وتغيرات. وإذا كنا نرى ظلالاً لتجربة نازك في بعض نماذج الشعر العربي «النسوي»، كشعر فدوى طوقان على سبيل المثال، فإن هذه الظلال ما لبثت أن خبت وتراجعت فيما بعد، خاصة وأن معظم الشاعرات العربيات المتأخرات قد انصرفن عن قصيدة التفعيلة باتجاه قصيدة النثر التي رأين فيها على الأرجح قطيعة نهائية مع النموذج الخليلي الفحولي.

قدرة على التحرر

          على أن المتأمل في شعر نازك يدرك أن قيمتها الفعلية لا تتمثل في قابلية شعرها للتقليد أو تحوله إلى نموذج أولي يقتدي به اللاحقون، بل في قدرتها الفائقة على التحرر من عقدة الثأر من الرجل من جهة ومن النزوع الأنثوي الأيروتيكي من جهة أخرى، على الرغم من أن لديها الكثير من الأسباب لكي تقع في هذا الفخ. وقد تكون تربية نازك المحافظة ونشأتها في أسرة متعلقة بأهداب القيم الموروثة هي من بين العوامل التي دفعتها إلى احترام العادات والتقاليد المحيطة بها من كل جانب. وعلى الرغم من إقامتها الطويلة في أمريكا فنحن لانلمح في شعرها ما يشي بالتجرؤ على الأعراف السائدة وتجاوز المحظورات. لا بل إننا نكاد لا نعرف شيئًا عن حياتها الخاصة أو عن علاقاتها العاطفية التي سبقت الزواج. واللافت أنها لم تقدم على كتابة سيرتها الشخصية على الرغم من أنها عاشت منذ عشرينيات القرن الماضي حياة مديدة وحافلة بالتجارب والأحداث. وتجربتها من هذه الزاوية تذكّر مرة أخرى بتجربة فدوى طوقان التي عاشت هي الأخرى في بيئة محافظة في مدينة نابلس. وبالرغم من أنها كتبت سيرة روائية شائقة في كتابيها «رحلة صعبة» و«الرحلة الأصعب» فإنها حذفت من سيرتها معظم ما يتعلق بحياتها العاطفية ولم تأت بكلمة على ذكر علاقتها بالناقد المصري أنور المعداوي، على الرغم من أن هذه العلاقة لم تخرج عن طابعها الرومانسي العذري كما يؤكد رجاء النقاش في أحد مؤلفاته.

          نستطيع تبعًا لذلك أن نذهب إلى القول بأن خروج نازك الملائكة على البنية الذكورية العمودية للشعر العربي كان يعني فيما يعنيه تعبيرًا رمزيًا عن توقهاإلى التعبير باللغة عما لم تستطع أن تعبر عنه في الواقع وما ظلت أسيرته على مستوى الأعراف والتقاليد.

          وقد يكون أدونيس قاسيًا بعض الشيء حين اعتبر في أحد حواراته أن «الشعر الحر بالنسبة إلى السيدة نازك الملائكة إنما هو في التحليل الأخير مسألة عروضية. وإذا كانت مشكلة الشعر العروضية منسجمة مع منطلقاتها، فإن الشعر الجديد أوسع وأغنى من أن يكون قضية عروضية. حتى فهمها للإبداع العربي موضع نقاش, فهو في رأيي فهم خاطئ، أو بتعبير أدق فهم محدود وقاصر»، لأن نازك تؤكد في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» أن الحرية في الشعر ليست محض مصادفة من المصادفات بل إنها ترتبط بعوامل عدة من بينها التعبير عن تحولات الحياة والنفور من النموذج النمطي والهرب من التناظر وإعادة الاعتبار إلى المعنى بعد طغيان الشكلية واستفحالها. ومع ذلك فلابد من الاعتراف بأن نازك، بسبب النشأة أو الخوف أو واقع المرأة العربية وظروفها، لم تذهب في الحداثة إلى نهاية الشوط ولم تحولها إلى مشروع شامل للتمرد والتغيير ورفض الانصياع للقيم السائدة، وإن كان علينا أن نأخذ بعين الاعتبار فظاعة الواقع العربي، والعراقي بوجه خاص، والقيود الهائلة التي يفرضها على المرأة.

          قد تكون هذه الظروف نفسها هي التي صبغت معظم قصائد نازك بلون الحزن والمرارة والحداد، وجعلت الموت يحتل موقعًا متقدمًا في نظرتها إلى الوجود والأشياء. لكن الجانب الإيجابي في هذه اللوحة القاتمة يتمثل في قدرتها على تحويل حزنها إلى مادة للتأمل الهادئ والتبصر العميق في أحوال النفس وأسرارها، وهو ما تكمن ملاحظته في قصائد من طراز «أجراس سوداء» و«مرثية يوم تافه» و«الشخص الثاني» و«الخيط المشدود في شجرة السرو» وغيرها.

          أما ما يحكى عن ارتدادها عن الحداثة فهو لا يغير شيئًا من جوهر الأمر، لأن الأم لا تستطيع أن تعيد إلى رحمها الطفل الذي أنجبته بل تصبح له حياته المستقلة، كما لا يستطيع مطلق النار أن يعيد الرصاصة بعد إطلاقها إلى مكانها الأول. ثم إن الشاعرة في مقدمتها للطبعة الثانية من كتابها «قضايا الشعر المعاصر» تنفي ارتدادها عن مبدأ الحداثة نفسه ولو أنها تبدي الكثير من التشاؤم إزاء مستقبل الشعر الحر الذي بات في رأيها نهبًا للتسيب والفوضى الشاملين. وإذا كنا لا نوافق على بعض أفكار الشاعرة كموقفها المتحفظ من القصيدة المدورة التي زاولت تطورها فيما بعد، أو موقفها السلبي من قصيدة النثر فإن ذلك لا يقلل من صوابية آرائها الأخرى ومن قراءتها العميقة لواقع الشعر العربي وآفاق تطوره في المستقبل، كما لا يعفينا من الاعتراف بأننا مقصرون إلى أبعد الحدود إزاء شاعرة رائدة ارتضينا نحن الأبناء والأحفاد أن نبادل عطاءها بالعقوق وأن نتركها وحيدة وعزلاء في مواجهة المرض والشيخوخة والمنفى.

اجتَنبنا في الأَرض إِن كُنت تَخشى إِن لَقَينـاك مَــرَّةً أَن تَخـونا
فَلَـك اللَـهُ وَالأَمانَـةُ وَالـميـ ثـاقُ أَن لا نَخونَكُـم ما بَقينـا
ثُم أَن لا يَزال مَن كُنتِ تَهـويـ نَ حَبيباً ما عِشت عِندي مَكينـا
ثُـمَّ لا تُحـرَبُ الأَمانَةُ عِنـدي أَغدَرُ الناس مَن يَخونُ الأَمينـا
ثُم أَن نَصرِفَ المَناسيبَ حَتّـى نَترك الناس يَرجُمـون الظُنونا
ثُمَّ أَن أَرفُـضَ النِسـاءَ سِواكُم هَل رَضيتُم? قالَت: نَعَم قَد رَضينا


عمر بن أبي ربيعة

 

شوقي بزيغ