الماضي كما يبدو من أعلى

 الماضي كما يبدو من أعلى
        

لماذا تختلف رؤيتنا للأشياء بحسب المسافة التي نرى من خلالها. لماذا يبدو المنظور أكثر وضوحًا وفهمًا كلما ابتعدنا عنه في المسافة، أفقيًا كما نفعل مع اللوحة، ورأسيًا كما هو الحال مع هذا المعرض الفريد من نوعه الذي شهده المتحف البريطاني بلندن؟

          التقطت صور هذا المعرض من الجو ومن خلال رحلات خاصة، ومن تلك البقعة العالية تبدو المواقع الأثرية الموغلة في القدم مختلفة تمامًا عما نراه ونحن ندوس على أرضها ونجول في أنحائها. نظرة عين الفنان المصور تشبه ما يراه الطائر المحلق فوق الكرة الأرضية من تفاصيل، طبيعية كانت أم من صنع البشر، فقد التقطها المصور الصحفي السويسري جورج غيرستر من فوق مقعده في الطائرة الخاصة وهو يجوب العالم خلال أربعين سنة من تاريخه المهني. وكانت النتيجة 8000 صورة هي أشبه باللوحات الفنية في جماليتها، ليس بالمعني المجازي بل بالمعني الحقيقي، ومن بينها مواقع أثرية في منطقة الشرق الاوسط.

          في هذا المعرض الأول من نوعه حتى بالنسبة للمصور نفسه الذي لم يجمع أعماله بهذا الشكل الاحتفالي من قبل، تحول المتحف البريطاني وسط مدينة لندن إلى مركز لزيارة المواقع القديمة، من خلال هذه الصور، وهي حوالي مائة وأحد عشر موقعا، إضافة إلى عرض بعض مقتنيات المتحف من لقى ومقتنيات دائمة تنتمي إلى حضارة الموقع المصور، لتذكرنا بمن صنعوا تلك الحضارة فتكتمل اللوحة في ذهن الزائر ويعيد رسم نظرته نحو الماضي بشكل جديد. من بين تلك المواقع الفريدة، مدن قديمة في بابل العراق، مدينة ليبتيز ماغنا الرومانية في ليبيا، سور الصين العظيم، مدينة طيبة المصرية وغيرها.

صدفة طريفة

          جورج غيرستر المصور الصحفي السويسري الذي يقترب من أواخر السبعينيات من عمره، لايزال تحت تأثير الانبهار من فكرة المقاربات الجديدة التي حققها خلال رؤيته للأرض من الأعلى. ويصف أول مرة جرب فيها تلك المحاولة، التي جاءت نتيجة صدفة طريفة.

          ففي صيف عام 1960 وبينما كان يصور موقع ستونهينج الأثري في بريطانيا الذي يعود إلى العصر الحجري، اقترب منه زجنتلمان انجليزيس يقود سيارة بنتلي فاخرة ليسأله إن كان يحب أن يصحبه في طائرته الصغيرة ويلقي نظرة على الموقع من الأعلى؟ ومن تلك اللحظة غير المخطط لها بدأت تتشكل مجموعة صوره الفريدة، مستغلاً المهمات، التي يكلف بها كمصور صحفي في أنحاء العالم ليمارس هوسه الفني, إذ يتحول فعلاً إلى مخلوق آخر وهو في الجو، فجمال بعض أشهر معالمنا الأثرية لا يمكن معرفته جيدًا سوى من مشاهدته من أعلى. إلا أن هذا الهوس لا يعني تفاؤلاً وابتهاجًا على طول الخط مما رأى غيرستر، لأن رؤية الماضي من أعلى تبين أن قدرة الإنسان على تغيير شكل ومظهر الأرض وتخريبها، ليست بالخطر الجديد أو الطارئ، كما قد يعتقد الكثيرون، فالمخاطر البيئية على كوكب الأرض ليست بجديدة بحسب المطروح حاليًا من تحذيرات، بل هي موغلة في التجاهل والإهمال. إذا نظرت إلى كيفية تغير كوكب الأرض، فمن الصعب أن تبقى متفائلا نحو الكيفية، التي سيبدو عليها بعد مئات عدة من السنين.

          يقول المصور الفنان: ومن بين الأمثلة التي يقدمها غيرستر صورة لموقع قصر أموي في بادية الأردن كان الخلفاء الأمويون ينزلون فيه لممارسة هواية الصيد، إنه محاط بالرمل الآن، بينما كانت الأراضي المحيطة به في القرن الثامن الميلادي متخمة بالعشب والطرائد. هناك أيضا منطقة كاسيرونس في تشيلي، حيث نرى مدينة مترامية الأطراف تعيش في وحشة غياب البشر بعد أن ضربها الجفاف في القرن السادس عشر، وأهملت منذ ذلك الوقت.

دور البشر في التخريب

          ليست الطبيعة وحدها هي الملومة دوما على التخريب الذي يصيب الأرض، فالإنسان أيضا مستمر في ترك تأثيرات سلبية على تلك المواقع القديمة. برج مئذنة جامع سامراء في العراق مثلا، دمره القصف الجوي في الحرب الأخيرة، وبعض مقتنيات المواقع الأثرية تمت سرقتها من المتاحف وتسربت خارج العراق بسبب تلك الحرب. في مناطق أخرى في العالم، ساهم تحويل مجاري الأنهار أو إقامة السدود الحديثة إلى تدمير المحاصيل التي كانت تزرع بالقرب من تلك المواقع  إلى إزالة الآثار التاريخية العريقة بسبب ابتعاد البشر عنها. وأحيانا يزحف التوسع العمراني المديني إلى تخوم المقابر الأثرية والمعابد ومواقع التنقيب عن الآثار، ويزيلها في طريقه.

          الصور الجميلة المعروضة في المعرض كلوحة فنية لا ترينا فقط ما اعتدنا أن نراه أو نزوره من مواقع سياحية، فقد جاب المصور أماكن التقطها بعينه الطائرة لمواقع شهيرة، مثل موقع إقامة ملوك سيريلانكا في سيغيريا الذي يعود إلى القرن الخامس الميلادي، كذلك موقع معبد بارثينون في أثينا، لتبدو تلك المواقع بعظمة ماضيها ورهبته دليلاً على التراث الإنساني في مجالات عدة، أقربها للعين الناحية المعمارية. إلا أن غيرستر يلوم نفسه من منطلق ضمير الفنان الواعي بيئًيا على أن صوره تشجع السياحة إلى تلك الأماكن وتزيد من زيارة القدم البشرية لها، وبالتالي تسهم في تخريبها. يقول: لقد دمرت السياحة أحيانا روحية وعظمة بعض المعالم الحضارية القديمة. لكن من جهة أخرى توفر تلك الصور لحظات قد يصعب على السائح تنفيذها بمفرده، كأن يزور موقعًا ما، مثل الأكروبوليس في أثينا في ساعات الفجر الأولى، بنية أن يعيش بهاء اللحظة التي يخلو فيها الموقع من البشر الآخرين. الصور التي يغطيها هو لتلك الحالة تكون بديلاً للزيارة الجسدية المباشرة، وتخفف وطء الإقدام عنها.

فهم أفضل

          معرض (الماضي كما يبدو من الأعلى) هو الأضخم من نوعه كمعرض صور يقيمه المتحف البريطاني العريق كما أشرنا، حيث التقطت صور لثمانمائة موقع في أكثر من مائة بلد موزعة على ست قارات. وتتراوح المواقع بين الظواهر الموجودة بفعل الطبيعة، ومواقع تلك الموجودة في العراق ويعتقد أنها حملت يوما جنائن بابل المعلقة.

          ومن بين المواقع الأولى التي التقط لها جورج غيرستر صور، معابد وأهرامات وقلاع في منطقة النوبة القديمة في السودان عام 1960. وتساعد تلك المجموعة على تصور فهم أفضل للحضارات القديمة من خلال آثارها المتبقية، ومن خلال فهم الطريقة، التي شكلت فيها البشرية مساحات الطبيعة من حولها، عمارة ونحتا.

          واستكمل المتحف البريطاني مهمة الفنان بأن أضاف إلى صور المعرض قطعًا ومقتنيات من صنع الإنسان لها علاقة بمواقع التصوير، لتكتمل صورة كل حضارة بالصورة والمادة، هناك مثلا فأس حجرية من منطقة أولدوفاي جورج في تنزانيا عرضت قرب صور لـ (واحات خارغة)، التي تقع في ذلك البلد الافريقي. أو عرض تمثال يمت إلى الميثولوجيا القديمة في آسيا قرب الصور الخاصة بموقع أثري في سيرلانكا.

          (الماضي كما يبدو من الأعلى) يرى آثار الإنسان والطبيعة على كوكب الأرض من فوق. نظرة تذكرنا بما باد وشحب من تلك الحضارات والإمبراطوريات بعد أن سادت وازدهرت حقبة من الزمن. وإن كانت الظروف لا تزال تسمح بوجود تلك الآثار فتجذب السياح والمهتمين، فإن التغيرات المناخية والحروب وكل ما يمكن أن يفعله الإنسان من أفعال، قد تجعل تلك المعالم تنتمي إلى عالم الماضي في الفترات الزمنية القادمة، التي هي ليست بالبعيدة، إن لم يتحرك البشر لحماية تراثهم الإنساني وذاكرتهم الجمعية.

 

غالية قباني   





واحات سوف في الجزائر عام 1966





مقر العائلة المالكة في سيرلانكا ويعود إلى القرن الخامس الميلادي. تاريخ الصورة 1969





سور الصين العظيم استغرق بناؤه الفترة ما بين القرن الثالث ق م إلى القرن السابع عشر ميلادي. تاريخ الصورة عام 1987





معبد رمسيس في مدينة طيبة في مصر بني عام 1250 ق م. التقطت الصورة عام 2000





كنيسة هينج في منطقة نولتون بإنجلترا بنيت في القرن الحادي عشر الميلادي والصورة التقطت عام 1971





موقع كندالابرو في البيرو التقطت الصورة عام 1976





زقورة أور بنيت في القرن الحادي والعشرين ق م والصورة التقطت عام 1973





موقع اولورو في أستراليا تاريخ الصورة 1974





المدينة القديمة في حلب شمال سورية وتبدو قلعتها الشهيرة.. المدينة تعود لمنتصف الألفية الثانية قبل الميلاد والصورة ملتقطة عام 1997