الفنانة التشكيلية سامية حلبي.. زيتونة فلسطينية في قلب نيويورك

الفنانة التشكيلية سامية حلبي.. زيتونة فلسطينية في قلب نيويورك
        

على جدار مرسمِها، تنتصبُ شجرة زيتون، عملاقة في حجمها، لكنها منمنمة في تفاصيلها المنقوشة بالألوان الجواش. وحين تتذكر ما فعله مغتصبو أرضها بأشجار الزيتون، تقفُ الفنانة التشكيلية الفلسطينية سامية حلبي لتضيف غصنا بنيًّا هنا وورقة خضراء هناك بأقلامها الملونةِ، وكأنها تروي الشجرة الأم أو تواسيها. وهي لا تتوقف عن الرسم، لأنها لا تأخذ الفن مهنة، بل تنتمي إليه كرسالة. وتضع الهوية الفلسطينية على جبينها، بجانب هويتها كفنانة عالمية تقيم في قلب نيويورك.

          في كتاب يحمل اسمها، تحكي الفنانة والناقدة التشكيلية الفلسطينية سامية حلبي عن سيرتها الذاتية، في ألبوم مصور يمثل معرضا استعاديا قدمت له الكاتبة والمترجمة الفلسطينية عناية بوشناق. الكتاب (Samia Halaby) الذي صدر باللغتين العربية والإنجليزية في بيروت العام الماضي، يجمع المبدعتين اللتين فرقهما احتلال وطنهما وجمعتهما سماء مدينة نيويورك.

          ولدت سامية حلبي ـ كما تقول ـ مع «الضجيج المدهش للثورة»، خلال الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الانتداب البريطاني في ثلاثينيات القرن العشرين، وانتهت طفولتها الفلسطينية مع كفاح وطني آخر. لم تكن بعد قد بلغت الحادية عشرة من عمرها عندما بدأت المعارك عام 1948 ضد قرار الأمم المتحدة الظالم لتقسيم فلسطين ضد رغبات أهلها الفلسطينيين ليعطي مكانًا لدولة احتلال يهودية.

          سعيا وراء العمل ينتقل والد الفنانة، أسعد سابا حلبي، عام 1939 إلى مدينة يافا على ساحل البحر المتوسط، ويعيش وزوجته فتونية عبدالنور عطالله وأولادهما، ولينجح بعد عقدٍ كامل في بناء عمل مزدهر. لكنه في العام 1948 يجد نفسه نازحًا ومن دون منزل، مثله كمئات الألوف من الفلسطينيين؛ عندما هجّر صهاينة دولة الاحتلال الإسرائيلي بالقوة أكثر أهالي يافا، مما اضطر عائلة حلبي إلى الفرار تاركين البيت والعمل والوطن، وكان انتظارهم لأي حل ثلاث سنوات في لبنان، قبل أن يصيبهم يأس في العودة إلى ديارهم، فيتجه رب الأسرة مع أبنائه إلى الولايات المتحدة وليبدأ من الصفر مرة أخرى.

          في عام 1951 تجد سامية ذات السنوات الأربع عشرة نفسها في ولاية سنسيناتي مع والديها وأخويها اللذين يكبرانها وأخت تصغرها، والقليل من اللغة الانجليزية. هنا بدأت إقامتها في الولايات المتحدة التي أضحت مكان إقامتها الدائم. لكن ذكريات الأيام الفائتة في فلسطين لم تبهت. ربما الجرح الذي تركته الخسارة المفاجئة لكل ما هو عزيز عليها جعلها تتمسك بذكريات الماضي - كزرقة شبابيك المنزل في يافا، والأزهار البيضاء على ياسمينة جدتها، وأطفال الأقرباء يركضون بحرية في حديقتها وشرفتها، حياة مترعة بالحب والمعرفة - التي بقيت واضحة في ذهنها كذكرياتها الحديثة لسنوات الدراسة والعمل في الولايات المتحدة.  

ذكريات جدتي

          إحدى أجمل ذكرياتها عن  جدتها لأمها ـ التي اعتبرتها الشخص المميز في طفولتها ـ تقول عنها «كان اسمها مريم عطالله، كانت جميلة ووقورة، قوية وحازمة، أحفادها من أبنائها كانوا يهابونها، وأما أنا، حفيدتها من ابنتها، فقد شعرت بسعادة حبها. كانت بطلتي ومثالي الأعلى». الشعور بالعزلة والغربة الذي مرت به الفنانة كمهاجرة حديثة العهد إلى الولايات  المتحدة زاد من وعيها لهويتها ووطنها، لكنها لم تتمكن من التصرف كفلسطينية وعربية حتى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.

          في جامعة إنديانا، حيث درست وعادت للتعليم لمدة ثلاث سنوات، أخذت تلتقي فلسطينيين ولبنانيين ممن دخلوا الولايات المتحدة بعد رفع حظر الهجرة عام 1965، وكلهم جاءوا من الشرق الأوسط مسيسين بنضال ما بعد الاستعمار من أجل الهوية القومية، ومنكوبين من اغتصاب دولة الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين عام 1967، وكان نشاط هؤلاء من أجل القضايا القومية وراء إيقاظ وعي سامية حلبي سياسيًا. عندما انتقلت في السبعينيات إلى محترفها في نيويورك التحقت سامية حلبي بالمجموعات الناشطة في نيويورك، وأخذت تعرض في معارض ذات صبغة سياسية، كمعرض «الفن ضد التفرقة العنصرية»، وآخر في المركز الثقافي العراقي في لندن.

نضج ثوري

          في هذه المرحلة برزت طاقات سامية حلبي السياسية، في حين أخذت الحركة الثورية بالمخيمات الفلسطينية في لبنان تلفت نظر العالم، وتفاعلت سامية حلبي، كفلسطينية وكفنانة مع هذا النضج المقاوم،  وبدأت اتصالاتها بفنانين في لبنان. والتقت في العام 1979 بالنحاتة منى السعودي التي أصبحت زميلة وصديقة حميمة، ساعدتها في المشاركة بمعرض في المتحف الشرقي في موسكو.

          مع زيادة دعم حكومة الولايات المتحدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ـ بعد حرب 1967 ـ  تحولت صفة «فلسطيني» إلى صفة سلبية، وأصبح الاعتراف بحق الفلسطينيين في وطنهم موقفًا ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، وضد  السامية! ولكن في ظل هذا المناخ اكتشفت سامية حلبي أن مؤسسات كبيرة مثل المتاحف لم تمانع في ضم فنها إلى معارضها ومجموعاتها، لكن تجار الفن تجنبوا الترويج لأعمال فنانة فلسطينية!

          نجاح سامية في تأكيد هويتها كفنانة معاصرة في أهم المؤسسات الفنية الأمريكية ونشاطها السياسي دفعاها إلى السفر في صيف 1985 إلى مراكش لتشارك في مهرجان الفن والموسيقى في أصيلة، وفي الخريف التالي قامت بالتعليم كأستاذة زائرة في جامعة هاواي في هونولولو، وأقامت خلال 1986 معرضًا فرديًا لرسومها في غرناطة في إسبانيا، عرضت فيه أعمالاً ألهمت بالخضرة الغنية التي رأتها في هاواي، وفي عام 1989 دخلت لوحتها في البينالي الثالث في العاصمة الكوبية هافانا، وفي عام1002 عرضت أعمالها في ستراسبورغ، وفي عامي 2002 و2003 عرضت بين اليابان وكوريا.

صنع في فلسطين

          في ديسمبر 2002 التقى جيمس هاريثاس، مدير متحف المحطة في هيوستن ـ بمساعدة سامية حلبي ـ بفنانين فلسطينيين يقيمون في فلسطين وسورية والأردن بمرافقة منظمين من المتحف. كانت نتيجة هذه الرحلة الاستكشافية معرض «صنع في فلسطين» الذي استمر لمدة ستة أشهر، وخلال هذه المدة عرض جيمس هاريثاس أفلامًا لمخرجين فلسطينيين وقدم برامج فنية فلسطينية أخرى، وعرضت سامية ثلاث لوحات أبرزها «فلسطين من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن» مصنوعة من 25 قطعة، كل منها مركبة من قطع قماش بأشكال غير منتظمة.

          نظمت سامية معارض عدة تشتمل عناوينها على كلمة فلسطين: في عام 2002 نظمت معرض «فلسطين: فن المقاومة» في غاليري ترايبس في نيويورك ومعرض «موضوع فلسطين» في متحف جامعة «دي بول» عام 2005 وأثار كتيّبه الذي صاغته حلبي جدلاً كبيرًا.

          عن أشجار الزيتون التي تملأ معرضها وبيتها في أحد أحياء نيويورك، تدرك سامية حلبي أن هذه الأشجار القوية والرجال والنساء الجبارات الذين يعتنون بها هم «جزء من روح فلسطين». في أحد الأيام، عندما كانت ترسم شجرة قديمة من أشجار حديقة الجسمانية سألها كاهنان إذا كانت تمت بالقربى إلى صوفيا حلبي. وقد أروها لوحة في إحدى أبنية الكنيسة بتوقيع صوفيا. رأت سامية بأن قريبتها السالفة رسمت المنظر نفسه مثلها، لكن مع التركيز على المنظر خلف الشجرة وليس على الشجرة نفسها. مفكرة سامية تقول عن ذلك اليوم: «شعرت فجأة بثقة كبيرة في نفسي. لقد ولدت هنا في القدس، وإنني متجذرة بقوة في الأرض مثل هذه الشجرة».

          ألفت سامية في عام 2004 وفدًا باسم «فنانون ضد الاحتلال» لزيارة بساتين الزيتون في فلسطين لإنتاج أعمال تشكيلية عن أشجار الزيتون ولفتت نظر العالم خارج فلسطين عن فاجعة هذه الأشجار. ولايزال مشروع «شجرة الزيتون» مستمرًا. تستند إلى حائط في المحترف ملصقات قديمة من مظاهرات سياسية أصبحت هدف هواة جمع التذكارات. رسالتهم: «أنهوا الحرب». «حرروا فلسطين»، «لا للاحتلال» مكتوبة وملونة بشكل صارخ كأنها لوحات فنية بسيطة.

          تحمل جدران محترف الفنانة أعمالاً في مراحل مختلفة من التنفيذ وتتدلى من السقف أعمال ثلاثية الأبعاد مصنوعة من قصاصات الورق المطلي تبدو كانفجارات لونية بالهواء وتلطخ الجدران عناقيد ألوان عشوائية تشكل أعمالاً تحررت من مستطيل الإطار. أعمال سامية حلبي، كائنات حية لا تهدأ وكل زيارة لمحترف الفنانة تأتي بمفاجأة على شكل لوائح من ورق رسمت عليه خطوط حبر تقشفية أو لوحات واسعة مفعمة بالألوان والحيوية أو أعمال مازالت في طور التأمل ليس فيها سوى خطوط مستقيمة وطبقات من المساحات اللونية الشفافة. ويدل هذا الكم والتنوع في أعمال الفنانة على فيض إنتاجها والتزامها بالبحث المتواصل في فنها.

في شارع القناة

          في مقال كتبته في عام 1997 تقول الفنانة سامية عن مجموعة أعمال تناولت شارع القناة الذي تسكنه، بعد أن تحول في ثلاثين عامًا من مكان مهجور ليس فيه سوى الورش إلى منطقة تفيض بالحياة: لشارع القناة شعور نفاذ أشبه بالاستوائي بألوانه الغامقة المشبعة كالأحمر والأزرق والأخضر على خلفيات من اللون الصحراوي والرمادي والبني، عالم من الألوان تكحله إيقاعات بطاقات الأسعار المتطايرة وومضات الألوان الفاقعة كأصفر سيارات التاكسي. يختلف مظهر الألوان بين الخارج في الضوء الطبيعي عنه في الداخل حيث الإضاءة الكهربائية من ألواح النيون والكشافات ومن بين هذا الكم من الألوان والأضواء والعمارات ومظلات المحلات تطل قطع زرقاء من السماء الساكنة. في شارع القناة ضجة الشاحنات وأبواق السيارات والموسيقى الصاخبة المنبعثة من مسجلات يحملها بعض المشاة في أيديهم المتأرجحة. تتداخل روائح محلات السمك بروائح الفاكهة والخضار والمقالي والأوز المشوي والقمامة وعوادم السيارات. أما المحلات فتغطيها بضائع من سقفها إلى جدرانها وترفرف بطاقات أسعارها وفي الخارج تعج عربات الباعة المتجولين بالبضائع وتكتظ الأعمدة بإشارات المرور والملصقات والإعلانات بعضها كتبت بفرشاة باللغة الصينية فوق إعلانات قديمة وتتمايل المناديل المعلقة على مظلات المحلات المختلفة وتتطاير كأنها أزهار مرقطة غامضة. في الليل عندما تقفل المحلات ويخلو شارع القناة من المشاة يشعر المرء بوحدة المدينة المخيفة لكن كل يوم يزدهر الشارع من جديد كأمل الصباح.

 

أشرف أبو اليزيد   





الفنانة الفلسطينية المقيمة في نيويورك سامية الحلبي





عمل جداري (221 × 396 سم) باسم فلسطين من البحر المتوسط إلى نهر الأردن (2003)





غلاف الكتاب - الألبوم





مدينة صينية في شارع القناة (1996)





انتفاضة عالمية، أكليريك على ورق وقماش، 1989





ضمن فيلم المخرجة الفلسطينية ليانة بدر (زيتونات) ظهرت الرسامة خلال العمل ترسم وسط أحجار الوطن وأشجاره