أمين معلوف وجهاد فاضل

أمين معلوف وجهاد فاضل

كتبت بالفرنسية لأصحح فكرة الآخر عنا

  • انطلاقة أوربا في القرنين 15و16 كانت على حساب العالم العربي مباشرة

أمين معلوف كاتب لبناني يعيش في باريس صدرت له باللغة الفرنسية روايات عدة نال بعضها جوائز أدبية رفيعة, ونُقلت جميعها إلى ما يزيد على ثلاثين لغة عالمية. وقد شكلت هذه الروايات عند صدورها حدثا أدبيا وثقافيا لا لمتعتها التي تعيد إلى الذاكرة قصص ألف ليلة وليلة التي كتبها أجداد أمين معلوف, بل لأنها نقلت إلى الغرب, ومباشرة عبر لغة من لغاته, وجهة نظر شقيق له, هو الشرق, ساهمت الغربة وبعد المزار, وكذلك الحروب القديمة والحديثة التي نشأت بينهما, في إحداث فرقة أدت مع الوقت إلى جهل أحدهما للآخر وانطوائه على وجهات نظر عن هذا الآخر ليست دائماً صحيحة أو دقيقة. وما فعل أمين معلوف في أعماله الروائية المتكئة في أكثرها على التاريخ, هو أنه نقل إلى الغربيين وجهة نظر الشرقيين, كما قدم لهم جوانب مشرقة في حضارتنا, هدف من ورائها إلى إقامة حوار من نوع مختلف, كما إلى مراجعة الكثير من صفحات التاريخ المشترك فهمها الغربيون, في الأعم الأغلب, على نحو مشوه.

وقد احتفى الغربيون أيّما احتفاء بكتب أمين معلوف: (الحروب الصليبية كما رآها العرب), و(ليون الإفريقي), و(سمرقند), و(حدائق النور) وسواها من الأعمال التي أضافت إلى المتعة والفائدة صفة أخرى شديدة الأهمية, هي أنها ألفت فصلاً جديداً  في الحوار بين الشرق والغرب, وهو حوار قديم وحديث ومتجدد باستمرار. وإذا شئنا التخصيص قلنا إن هذا الحوار الذي بدأ به أمين معلوف في كتبه إنما كان حواراً بين العرب والمسلمين وبين أوربا بالذات, وهما عالمان قريبان وبعيدان في آن, يفصل بينهما, كما يجمع بينهما, بحر طالما ازدهرت حضارات مشتركة بينهما على ضفافه, كما قامت حروب مدمّرة. وإذا كان مارون عبود قد أطلق مرة اسم (صقر لبنان) على الرائد النهضوي أحمد فارس الشدياق استناداً إلى دوره في النهضة, وهو دور تجاوز لبنان إلى آفاق بعيدة, فإن أمين معلوف يستحق اللقب نفسه في وقتنا الراهن نظرا للدور الفائق الأهمية الذي أداه للبنان والعرب في ديار الغرب, ولنبل الخطاب الوطني والثقافي الذي حمله.

في هذا الحوار مع (العربي) الذي جرى في العاصمة اللبنانية, وشارك فيه رئيس التحرير الدكتور سليمان العسكري, يتحدث أمين معلوف عن هذه العلاقة المعقدة بين أوربا والعالم العربي, وعن مستقبل هذه العلاقة. هو يرى أن العالم العربي قريب من أوربا وبعيد عنها في آن, والذي ساهم في إحداث الشرخ بينهما هو أن أوربا عندما (انفجرت) في القرنين الخامس عشر والسادس عشر, كان العالم العربي هو أول من تلقى الضربة منها بصورة مباشرة, وتعذر عليه بعدها أن ينهض على قدميه لأن الذي تلا هذه الضربة هو الاستعمار الذي خضعت له بلادنا, وامتنع عليها بعده النهوض من كبوتها وقيام أي تطور مستقل لها. وفي الوقت الراهن مازالت الهوّة شاسعة بين العالمين, ومن مظاهرها أن مدينة في جنوب إسبانيا محاذية لمدينة في شمال المغرب لا يفصل بينها سوى مضيق بسيط, هي أقرب إلى ليتوانيا منها إلى هذه المدينة المغربية.

ولكن أمين معلوف يرى أن أوربا والعالم العربي يحتاج كل منهما إلى الآخر حاجة ماسّة , ويحلم بقيام رابطة وثيقة بينهما يتمنى أن تصل إلى حدّ (الشراكة العضوية) بحيث تقوم (وحدة عربية - أوربية) من شأنها أن تحقق لدول العالم العربي, وفي خلال فترة زمنية قصيرة, فورة حضارية واقتصادية واجتماعية غير متوقعة, تلحقنا بالعصر, تماماً كما حصل في إسبانيا واليونان وقبرص التي انتقلت بعد عملية (تلاقح) مع أوربا من حال إلى حال.

يقول أمين معلوف: (علينا نحن العرب أن نتخذ المبادرة, أن نخرج من تزمّتنا. إنني أحلم بوحدة أوربية متوسطية تشمل حزمة من الدول المجاورة لأوربا مثل تركيا, ومعظم دول الشرق الأوسط, ودولة مثل المغرب, تمهيدا لالتحاق كل دول المغرب, وحدة أو شراكة عضوية بين أوربا والعالم العربي).

يقيم أمين معلوف في فرنسا منذ 27 عاماً, ترك لبنان في خضم الحرب اللبنانية إلى فرنسا التي يجيد لغتها, وعمل في الصحافة الفرنسية قبل أن يتخصص بهذا النوع من الكتابة الروائية الذي لقي إقبالا عالميا منقطع النظير, والغريب أنه يتحدّر من أسرة لبنانية تخصص أبناؤها بالأدب العربي, وقد قدّمت هذه الأسرة للشعر العربي وحده أكثر من سبعين شاعرا يأتي في طليعتهم شفيق المعلوف صاحب (عبقر) وفوزي المعلوف صاحب (على بساط الريح). وكان والده رشدي المعلوف صحفيا وأديبا وشاعرا أيضا.

نقل أمين معلوف للقارئ الغربي صورة مشرقة عن الحضارة العربية, صورة أمينة بالدرجة الأولى. روى جوانب من سيرة بغداد, وسمرقند, وبخارى, وغرناطة, والأندلس عموما. قدّم للقارئ الغربي وجهة نظر المسلمين في الحروب الصليبية لتكون لديهم صور مختلفة عمّا سمّاه المؤرخون العرب بـ(حروب الفرنجة). لم يتملق القارئ الغربي أو يدغدغ غرائزه بالقول إن تاريخ العرب كان تاريخ الدم والمجازر والمذابح, وإنما ترك هذا الحديث لسواه من بعض الكتّاب الصغار الذين يعيشون في الغرب, وانطلق يروي تاريخ منطقته وحضارته رواية مشرّفة ونبيلة.

وهذا هو نص الحوار مع الكاتب اللبناني الكبير الذي يؤلف نوعاً من جسر بين حضارتين, بين ضفتين.

ظاهرة جديدة

  • بدايةً لماذا كتبت باللغة الفرنسية مع أنك تعرف العربية جيدا, وبذلك خرجت على تقاليد آل المعلوف الأسرة التي قدّمت للغة العربية والأدب والشعر العربي العشرات, بل المئات من الأدباء والشعراء.

- اختياري الكتابة باللغة الفرنسية له أسباب مختلفة, السبب الأولي, وربما الأساسي, كان الحرب في لبنان, واضطراري للانتقال إلى مجتمع آخر, وربما استسهال الكتابة بلغة المجتمع الذي انتقلت إليه.

في لبنان درست اللغة الفرنسية ولكن في الوقت نفسه, كانت اللغة الطبيعية بالنسبة إليّ هي اللغة العربية, وقد بدأت حياتي المهنية في جريدة (النهار) باللغة العربية. كنت في مرحلة معينة من عملي فيها أكتب مقالا يوميا تقريبا بالعربية, وفي مواضيع سياسية. وأتصور أنني لولا ظروف الحرب والهجرة, كنت استمررت بالكتابة بالعربية, وكان من المفروض أن يحصل هذا بشكل تلقائي.

عند انتقالي إلى فرنسا, وجدت من السهولة أن أكتب بالفرنسية إذ كانت لدي معرفة مسبقة وجيدة بها. في لبنان درست في مدرسة كانت اللغة الفرنسية تُدرّس فيها تدريساً جيداً, وربما بصورة أفضل من اللغة العربية.

بالنسبة لي شخصياً, كان مناخ اللغة العربية في المنزل, يؤمّن لي نوعا من التوازن في علاقتي باللغة الفرنسية. ويومها لو كنت منصرفا إلى اللغة الفرنسية وحدها, لكانت هذه اللغة بالنسبة إلي أقوى بكثير من لغتي العربية. ولكن بيتنا كان يتوافر على تقاليد: في هذا البيت لم أتكلم مرة إلا بالعربية. كان والدي رشدي المعلوف كاتبا وأديبا وشاعرا وصحفيا يكتب طبعا بالعربية. وكان لدينا كأسرة نوع من الفخر بما قدمه آل المعلوف للغة العربية والأدب العربي. وبالطبع كان للأسرة تاريخ معروف وعريق بهذه اللغة, ولذلك كان لابد من توافر نوع من التوازن بين اللغتين, بعدهما جاءت الإنجليزية بالنسبة لي في الموقع الثالث.

كان السبب الأول لانصرافي إلى الكتابة باللغة الفرنسية, سفري إلى فرنسا. إن الشخص الذي يعيش في مجتمع, ويندمج في هذا المجتمع, لابد له من أن يتوقع ردود فعل على ما يكتبه في هذا المجتمع, وهذا أمر طبيعي, ولا ننسى أيضا أن الشخص الذي يعيش في مجتمع ما, ولا يكتب بلغته, لا يكون وضعه سهلاً أيضا. لهذا لم أشعر يوماً وأنا في لبنان, وقبل مغادرتي إلى فرنسا, بأن من الممكن أن أكتب بالفرنسية باستمرار, وكنت كتبت بالعربية أولا, كما كتبت بالفرنسية.

سبب آخر دفعني إلى الكتابة بالفرنسية هو أنني شعرت في فرنسا بحاجة إلى نقل أشياء معينة إلى قارئ أوربي. ليس صدفة أن الكتاب الأول الذي كتبته بالفرنسية كان عن الحروب الصليبية, كما رآها العرب. كان لدي شعور بأن هناك أشياء قدمت معي من المنطقة العربية التي عشت فيها, غير معروفة في الغرب, أو أنها معروفة ولكن بشكل خاطئ أو مشوّه. شعرت بضرورة نقل صورة أخرى عن الحضارة العربية والعالم العربي, هي غير الصورة الموجودة لدى الغربيين, أو غير الصورة التي كانت ترد تقليدياً إلى الغرب عن طريق الرحّالة الغربيين الذين كانوا يجيئون إلى الشرق ثم يصفونه عند عودتهم.

هذه الناحية بدأ بها قبلي كتّاب شرقيون آخرون كتبوا عن الشرق بلغات الغرب. ثمة ظاهرة بدأت تتكثف في العقدين الأخيرين من القرن الماضي تتمثل في كتّاب قدموا أصلا من دول بعيدة بدأوا يعبّرون بلغات أوربية كالفرنسية والإنجليزية  والإسبانية والألمانية عن تاريخهم وتراثهم وأحوال بلدانهم وتطلعاتهم. هناك - مثلاً - كتّاب أتراك يعيشون في ألمانيا ويكتبون بالألمانية. لأول مرة, بدأ القارئ الألماني يسمع بلغته أصواتاً قادمة من تركيا, أو من سواها, وعن قضايا كان يقرأ عنها من خلال الرحالة أو المستشرقين الغربيين.

هذه الظاهرة, ظاهرة جديدة تماما. كان الألمان في السابق يترجمون لكتّاب أتراك ولكن تلك الترجمات لم تكن مقروءة إلا من عدد محدود من الألمان, ولكن عندما يأتي كاتب أجنبي ويكتب بلغة أهل البلد, فإنه يخلق علاقة أخرى. وهذا الأمر شعرت به لأول مرة عندما انتقلت من لبنان إلى فرنسا. شعرت بداية بأن هناك سوء معرفة بالاخر, وسوء المعرفة هذا متأتٍ من الضفتين معا: من هنا ومن هناك أيضا. ثمة صورة مشوّهة, وغير واقعية, عند الغربيين عن العرب, تقابلها صورة مشوّهة وغير واقعية عند العرب عن الغربيين, لذلك أرى أن من واجب أيّ كاتب ينتقل من هذه الضفة إلى تلك, أن يعمل على تقديم الصورة الصحيحة عن بلده, أو أن يعمل على الأقل على تصحيح هذه الصورة ولو في إطار الممكن والمعقول.

أول كتاب كتبته انطلق من هذا الشعور, وكذلك كان الكتاب الثاني, وهو كتاب (ليون الإفريقي). جوهر هذا الكتاب الثاني هو ما ورد في صفحاته السبعين أو الثمانين الأولى, وهو عن سقوط غرناطة وبالتالي الأندلس, أردت أن أروي سقوط غرناطة  والأندلس. لا من وجهة نظر الإسبان المنتصرين المزهوين باسترداد غرناطة, بل من وجهة نظر الآخرين الذين طُردوا منها. وكانت هذه الفكرة هي السبب الموجب الأول بالنسبة إلي لوضع (ليون الإفريقي).

وأنا أتصور أن من الطبيعي أن يتم عرض وجهة النظر العربية هذه بلغة الغربي نفسه.

وهناك - بالطبع - أسباب أخرى كثيرة دفعتني للكتابة باللغة الفرنسية.

جوانب أصيلة

  • أول ما يلاحظه قارئ رواياتك هو أنك تحدثت بنزاهة عن الجوانب التي نقلتها للقارئ الغربي. لم تساير هذا القارئ, بل تعمدت أن تقدم وجهة النظر الأخرى, منطلقاً من انتسابك إلى الحضارة العربية.

- في مناخ البيت الذي تربيت فيه كان هناك شعور راسخ بالانتماء إلى الحضارة العربية, وشعور آخر بضرورة استخلاص ما هو مشعّ ونبيل وأصيل فيها, ثم نقله إلى الآخرين, وبالفعل عندما يكون هناك شخص مخلص لحضارة كبرى كالحضارة العربية الإسلامية, لا يمكنه أن يتقوقع ضمن (وضع خاص), هو وضع المجموعة الدينية أو الطائفية أو المذهبية التي ينتمي إليها, ثم يغسّل يديه من كل شيء آخر في هذه الحضارة, هذا أمر لم يرد في ذهني أبداً.

عندما نريد أن نتحدث عن الحضارة العربية لابد أن نتحدث عن كل جوانب هذه الحضارة, عن قرون من التاريخ, عن بلدان مختلفة ليست كلها عربية. عندما ينتمي المرء إلى الحضارة العربية. لابد أن يحب ابن سينا, والبيروني, وابن رشد. ويمكن أن يصل به المطاف إلى أواسط آسيا. ولاشك أن هذا المطاف سيصل به أيضا إلى أقاصي المغرب, ولابد أن يشعر بانتماء إلى شتى جوانب هذه الحضارة.

لذلك كان طبيعياً أن أعرض جوانب مختلفة من هذه الحضارة للغربيين بحبّ فُطرت عليه تجاهها, وليس لدي أي فضل في ذلك, فهذا من طبيعة ما ندبت نفسي له, وهو نابع من طبيعة المناخ العائلي الوطني الذي تربيت فيه.

لذلك لا يمكن أن أجزئ أو أقسّم هذه الحضارة, كأن أنتقي هذا الجانب منها وأستبعد الآخر, أو كأن أقول إن هذا الجانب يخص العربي (الآخر) ولا يخصني أنا.

هذه هي الحضارة العربية كما رأيتها, وكما تعاملت معها بشكل موحد ومتكامل. حضارة بدأت في مرحلة معينة في التاريخ. ربما كانت انطلاقتها ذات صلة بالدين, من الناحية التاريخية البحتة لا يمكن فصل هذه الحضارة عن الدين, فهو الذي أوصلها إلى أواسط آسيا وإلى أقاصي الغرب.

ثم إن الحضارة العربية التي بُنيت وكان لها علاقة بالإسلام, لا تقتصر على المؤمنين به من العرب, فهي أيضا حضارة الشعوب الأخرى التي ساهمت أيما إسهام في بنائها وصياغتها.

ولا ننسى أيضا أن الحضارة الغربية لها أيضا علاقة بالمسيحية, ولكن المسيحية لا تختصر وحدها الحضارة الغربية, ففي المسيحية جزء كبير لا علاقة له بالحضارة الغربية, وفي الحضارة الغربية أشياء أساسية لا علاقة لها بالمسيحية. الديمقراطية في أثينا وجدت قبل المسيحية, والقانون الروماني الذي هو أساس الحضارة الغربية إلى الآن, وجد قبل المسيحية, ولكن يبدو الآن وكأن الديمقراطية والقانون والحقوق هي عماد الحضارة الغربية.

  • وهذا ما حصل في الحضارة العربية أيضا عندما استوعبت ثقافات وحضارات سابقة عليها.

- طبعا. الحضارة العربية في أعظم لحظاتها استوعبت الحضارة اليونانية, كما استوعبت الحضارة الفارسية, والحضارة الهندية, وانفتحت أيّما انفتاح على المسيحية وبقية الثقافات الدينية.

لقد أصبحت الحضارة العربية حضارة كل شعوب المنطقة وهذا سرّ من أسرار عظمتها.

وسط الحضارات

  • بعد أن كتبت كتابك الأول: (الحروب الصليبية كما رآها العرب), وكتابك الثاني (ليون الإفريقي), هل جال في بالك خاطر حول الدور الذي يمكن أن تضطلع به في موضوع التقريب أو مد الجسور الثقافية بين المنطقة العربية وأوربا والغرب? هل كتبت ما كتبت وفي ذهنك أن تساهم في مسألة الحوار بين الشرق والغرب?

- هذه المسألة جاءت بشكل تلقائي من خلال خلفيتي الثقافية والفكرية وانتسابي إلى بلد هو حواري بطبيعته. هذه الخلفية تجعل مني, شئت أم أبيت, كاتبا متنبها لما ذكرت. ذلك أن مصير هذا الكاتب يتعلق بالاهتمام بالحضارات والثقافات والتقريب فيما بينها. وشئت أم أبيت, فأنا أحيا في وسط هذه الحضارات, أو على التخوم فيما بينها.

دخلت في صباي مدرسة كان معظم المدرسين فيها قادمين من فرنسا وهولندا وسواهما من البلدان الأوربية, لذلك وجدت نفسي لاحقا وبشكل تلقائي في خضمّ عملية تثاقف وتقريب. وفي مرحلة لاحقة عثرت على تنظير لهذه العملية. صرت أعتبر أن دوري ينحصر في النهاية في إقامة جسور بين ضفتين, وفي الأخر صرت أقوم بذلك بشكل تلقائي انطلاقاً من لبنانية في داخلي تهيئ لذلك. فمن يولد في لبنان ويتشرّب مناخه الثقافي الذي هو مزيج من ثقافات ومؤثرات وعوامل مختلفة, لابد أن يضطلع بهذه المهمة بصورة عفوية. لذلك عندما يلتقي أحدنا شخصا أجنبيا لابد أن يقول له في البداية: (ثمة أشياء تتعلق بنا لابد أن تكون قد وصلتك, أو فهمتها بشكل غير سليم. لابد أن تكون لديك صورة مغلوطة إلى حد ما عن بلادنا أو عن تاريخنا, فاسمح لي أن أعرض لك ما أراه هو الصورة الصحيحة عن بلادنا).

وهذا هو في الواقع ما قمت به بشكل عفوي, وبالذات في مسائل التاريخ. التاريخ كثيرا ما يُروى على نحو خاطئ. حول بدايات الحروب الصليبية, قرأت الكثير: ابن الأثير وسواه وقد ذكروا الذي سمعوه ورأوه. وكانت النظرة للحروب الصليبية بشكل عام, هي النظرة التي درسناها في مدارسنا بواسطة الكتب الغربية. وقد كان لدي أنا بالذات تعطّش لأن أروي قصصا من تاريخي وحضارتي من وجهة نظر هي غير وجهة النظر الغربية: قصة غرناطة, قصة الحروب الصليبية.

  • وقد رويت قصصا أخرى كثيرة كقصة ماني في (حدائق النور), وعرّجت على سمرقند, ولكن الحروب الصليبية بالذات كانت القصة اللافتة. الكتّاب العرب لم ينظروا إلى الحروب الصليبية النظرة نفسها التي نظر بها الأوربيون.

- وهذا أمر طبيعي.

  • السابقون لم يكونوا يستخدمون عبارة الحروب الصليبية, كانوا يقولون حروب الفرنجة, كانوا ربما أكثر تسامحا من الآن.

- الحروب الصليبية نتجت عن قرار, ناس تجمّعوا وقالوا يجب أن نأتي إلى الشرق من أجل أن ننجز أمرا جللا هو استعادة بيت المقدس, والناس الذين شاركوا في الحروب الصليبية كانت لديهم - بالطبع - فكرة واضحة عن المهمة التي قدموا من أجلها.

الشخص المقيم في حلب أو دمشق عندما رأى هؤلاء الناس, لم يكن مفترضاً به أن يدرك حقيقة مهمة هؤلاء القادمين, كان ذلك في مرحلة خالية من الإعلام والصحافة, طبعا اعتبر أهل الشام أن هؤلاء قادمون على الأرجح لاحتلال المنطقة, وكان  ذلك أمراً طبيعياً تقريبا على أساس أن الماضي أو التاريخ شهد فاتحين وجيوشا مختلفة أتت واحتلت.

لم يفكر أحد أن هناك خطة معينة عند هؤلاء مختلفة عن خطط المحتلين السابقين. البيزنطيون الذين سبقوا الصليبيين كانوا يرسلون أيضا جيوشاً, وكان في هذه الجيوش مرتزقة افرنج يجنّدونهم من أجل استعادة أنطاكية أو سواها من مدن الشام.

رأى أهل الشام جيوشا قادمة فقالوا: إنه ملك الروم يرسل جيشاً آخر.

تفهم حقيقي

  • ثمة رحلات عربية وشرقية مشهورة في القرن العشرين إلى أوربا: رحلة محمد عبده, رحلة الأفغاني, رحلة شكيب أرسلان, الطهطاوي في البداية. ذهب هؤلاء إلى أوربا فرأوا عالما آخر وصفوه فيما كتبوا عنه لاحقاً. وكانت هناك - بالطبع - رحلات في الاتجاه المعاكس.
    هل كانت رحلتك إلى أوربا شبيهة برحلات هؤلاء, أم كانت من نوع آخر? لاشك أنك الآن شرقي وأوربي معاً, لك أكثر من هوية, وهذه الهويات مصدر غنى وإلهام لأدبك. ولكن كيف تروي هذا الانشطار عندك في شرق وغرب, بين هوية وهوية, بين ضفة وأخرى?

- هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم جاءوا في مرحلة لم تكن شعوبهم خلالها تعرف أشياء كثيرة عن الغرب, وبالتالي فقد كانت لديهم مهمة, تتلخص بمشاهدة بلدان الغرب, ونقل صورتها لاحقا لبلدانهم.

أنا جئت متأخرا, نحن اليوم في عصر التلفزيون وانتشار الصحف والمجلات والكتب, لذلك تختلف مهمتي ومهمة أمثالي عن مهمة أولئك الروّاد الذين أشرت إليهم.

الأمر الأصعب الآن هو أداء مهمة من نوع آخر: أن يكون هناك تفهّم حقيقي لواقع حضارة أخرى. قد يستغرب أحدنا مدى عدم معرفة الغرب بالعالم العربي, بتاريخه وتراثه وبمجتمعاته الحديثة, معرفة الغرب بتاريخنا وبمجتمعاتنا لم تتقدم كثيرا. لا يوجد اليوم فهم أعمق وأفضل مما كان عليه هذا الفهم قبل مائتي سنة أو أربعمائة سنة.

لا يشعر أحدنا في الغرب اليوم بأن الغرب يعرفنا تلك المعرفة المعمّقة الحقيقية. طبعا هناك مجموعة أخبار كثيرة عن العرب والمسلمين ترد إلى الغربيين من مصادر مختلفة, ولكن المشكلة تكمن في تفسير هذه الأخبار, وفهم مقومات المجتمعات العربية وخلفيات ودوافع هذا العمل أو ذاك.

لا يشعر المرء - مع الأسف - بأن هناك فهما عميقا في الغرب لما يحدث عندنا.

الذي أحاول أنا أن أفعله, والحقيقة أنه لا أوهام عندي حول تأثيره, هو محاولة نقل شيء من معرفتي للمجتمع الذي عشت فيه, من فهمي لتاريخي وحضارتي, إلى أناس آخرين في حضارة أخرى. ولكني أحب أن أذكر أن مثل هذا العمل يحتاج إلى جهود كثيرة وطويلة ومتراكمة, لا إلى جهد فرد واحد. ولا حاجة للقول أن هذا الجهد يُفترض أن يكون جهد أجيال وسنوات.

وإذا سألتني أنا الذي هاجرت إلى أوربا منذ حوالي سبعة وعشرين عاماً, عما إذا كان هناك اليوم فهم أفضل لواقع العالم العربي في الغرب من الوضع الذي كان عليه قبل 27 سنة, لأجبتك بصراحة: لا.

ربما حصل بعض التقدم في نواح معينة, ولكن هذه الهوّة بين عالمين لاتزال واسعة. كل عالم من هذين العالمين يتصور أنه يفهم تماما ما يقوله الآخر. ولكن الحقيقة أن كلاًّ منهما لا يفهم كيف يتصرف الآخر بهذه الطريقة أو تلك, وكيف يحصل هذا الذي يحصل, ولماذا....

ثمة هوّة واسعة جدا بين هذين العالمين, وليس لدي أي اقتناع بأنها تضيق مع الوقت, فالواقع أنها لا تضيق أبدا.

والقصور ممن برأيك?

- هناك قصور من الغرب وقصور آخر من الشرق. إذا أخذنا ألف شخص في العالم العربي يهتمون بأوربا ويتابعون أخبارها, نجد أنهم يستطيعون أن يفهموا على التحديد الحياة السياسية في الدول الأوربية, وكذلك الحياة الاجتماعية والثقافية.  ولكنك لا تجد في عالم الغرب ألف شخص يتقنون لغات العالم العربي والإسلامي ولديهم معرفة واسعة بواقعه.

على صعيد فهم الآخر, والرغبة في معرفته, لاشك أن القصور هو غربي, على صعيد القدرة على نقل الواقع والمشاعر والأفكار والتصوّرات, الغرب قادر على نقل أفكاره واهتماماته إلى العالم كله, وإقناع هذا العالم بها. ويتم هذا في وقت يعاني  فيه العالم العربي والإسلامي قصورا حقيقيا على هذا الصعيد, أي في الوصول إلى ضمير الشعوب الأخرى.

مشكلة معقدة

  • على صعيد المشاركة التاريخية والجغرافية, نجد أن أقرب عالمين تشاركا في الحروب أو في غير الحروب, هما العالم العربي وأوربا. ومع ذلك, مع كل هذا التراكم التاريخي بين هذين العالمين: من عداء أو تنافس أو تعاون, لم يَنْبَنِ نوع من الثقة بينهما. لاتزال هناك شكوك وبخاصة من بعض الدول العربية التي تجاوزت أوربا وذهبت إلى أمريكا, ربما وثق هؤلاء العرب بالأمريكيين أكثر مما وثقوا بالأوربيين, طبعا فترات النزاع التاريخية الحادة قد انتهت الآن, ولابد من تجاوز الماضي وبناء علاقات جديدة سواء في الاقتصاد أو في الثقافة أو في غيرهما. ثمة بحر مشترك بيننا وبين الأوربيين هو البحر الأبيض المتوسط.

- إذا أراد المرء أن يختصر الأمر بنظرة مجملة, قال إن مشكلة العالم العربي في علاقته مع أوربا مشكلة معقدة. العالم العربي قريب من أوربا, كما هو بعيد عنها. عندما انفجرت أوربا ابتداء من القرنين الخامس عشر والسادس عشر, كانت قد بدأت تسيطر على العالم. العالم العربي تلقى الضربة مباشرة, الذين كانوا بعيدين, كانوا قادرين على المحافظة على تطور ما, أو على استمرار ما, ولو لفترة. في حين إن انطلاقة أوربا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر, كانت على حساب العالم العربي مباشرة. لقد كان في متناول الضربة الأولى, لذلك, ابتداء من بداية النهضة الأوربية وبداية تحول الحضارة الأوربية إلى الحضارة العالمية المسيطرة, لم تعد الدول العربية, وبخاصة الدول التي تقع في مواجهة أوربا مباشرة, قادرة على تطوير أي شيء مستقل. هذا بالإضافة إلى أن التطور الأوربي لم ينتقل إلى العالم العربي عبر الحدود المباشرة, كما انتقل إلى الشرق مثلا, أو إلى الغرب, بسبب عدم توافر التواصل الحضاري.

ثمة فاصل حضاري إذن بين عالمين, له طبعا علاقة بالدين, جعل العالم العربي عالما قريبا من أوربا, ولكن عاجزا عن التطور بالاستقلال عنها. كما جعل هذا الفاصل الحضاري من العالم العربي عالما بعيدا جدا عن أوربا. كان هناك خط فاصل منع عملية التفاعل والتمثل دون أن يخلق عند العرب والمسلمين تساؤلات . لم يكن باستطاعتهم أن يأخذوا أو يستوعبوا الحضارة الأوربية لأنه ظهر لهم بوضوح أنها حضارة وافدة من الخارج.

هي مشكلة لم نستطع أن نتخطاها حتى الآن. إن مدينة تقع في جنوب إسبانيا ومدينة تقع في شمال المغرب, يفترض أن تكونا مدينتين كل منهما قريبة جدا مع الأخرى ولكن من الناحية الواقعية نجد أن جنوب إسبانيا أقرب إلى ليتوانيا, على سبيل المثال, منه إلى شمال المغرب, وهو اليوم أقرب إلى ليتوانيا مما كان قبل أربعين سنة. أليس هذا غريبا?

  • وهل المقصود - برأيك - استبعادنا كمنطقة أو كـ(عالم آخر)?

- لا أعتقد أن هناك تخطيطا لذلك على الإطلاق, جاء وقت زحفت فيه أوربا, ولأسباب كثيرة, على العالم كله, وعلى كل صعيد: على الصعيد السياسي والعسكري والاستعماري. امتدت إلى العالم كله وانتشرت في كل مكان. في إفريقيا, على سبيل المثال, جرى نوع من تحطيم لمجتمعاتها. المجتمعات التقليدية في الأمريكتين, امحت ولم يبق منها شيء تقريبا, وفي فترة لاحقة حصل ضرر بالغ بمجتمعات الصين والهند وسواهما.

في جنوب المتوسط, كما في شرقه, جاءت الضربة بصورة مباشرة, فورا تهافتت كل محاولة للبناء, عندما تكون أوربا هي قلب الحضارة الكبرى المسيطرة في العالم, لا يعود هناك مجال لابن وهران أو مراكش أو تونس, أن يبني حضارة بديلة. ربما كان بالإمكان بناء (شيء) في شنغهاي أو في طوكيو, ولكن لم يكن بإمكان مدن وبلدان الخط الأول في الشمال الإفريقي أن تبني شيئا. لقد كان يتعين على هذه البلدان المجاورة إما أن تدخل في (جو) الحضارة الأوربية, وإما أن تمحى. وعمليا لم تستطع هذه البلدان أن تدخل في هذا الجو. لقد تحولت خلال فترة وجيزة إلى مستعمرات. وهذه مسألة لم نتمكن من تخطّيها حتى الآن, فإلى الآن لاتزال الأمور معقدة, جاء الاستعمار, وذهب الاستعمار ثم جاءت الحرب الباردة وكان لكل من هذه الظواهر دورها, ولكن الأمور لم تُحَلّ حتى الساعة. لقد توسعت بدلاً من أن تضيق!

  • هل تقترح صيغة ما لعلاقة جديدة أو بديلة بين العالم العربي وأوربا والغرب?

- أتصور أن كلاًّ من هؤلاء الفرقاء بحاجة إلى الآخر, وبخاصة في وقتنا الراهن. في السابق قد لا تكون حاجة أحدهما إلى الآخر, واضحة وضرورية كما هي واضحة وضرورية الآن.

أوربا قد تكون الآن هامشية بعض الشيء, فبعد أن كانت مركز العالم, بات دورها محدودا بعض الشيء, لذلك صارت بحاجة إلى الآخرين أكثر مما كان عليه الأمر في أي وقت سابق. لم يعد باستطاعة أوربا أن تبقى في علاقة أحادية ضمن العالم الغربي, لابد لها من أن تبحث عن موقع آخر لها في العالم.

وفي الوقت نفسه, أشعر بأن العالم العربي المعاصر سواء في المشرق أو في المغرب, ليس لديه إمكان للتطور المستقل إلا بالتفاعل الوثيق مع أوربا, تماما كما حصل مع إسبانيا والبرتغال واليونان وقبرص, أن يكون هناك تفاعل قوي, وضمن صيغة من الصيغ, تسمح للعرب بقفزة غير متوقعة إلى الأمام.

إذا لجأتُ إلى الحلم, قلت إن هذا التفاعل ينبغي أن يؤدي إلى وحدة أوربية متوسطية تدخل فيها حزمة لابأس بها من الدول العربية أو المجاورة لأوربا, ليست كلها, ولكن بعضها: تركيا, معظم دول الشرق الأوسط, دولة مثل المغرب, وربما بعد فترة كل دول المغرب. الحلم هو قيام نوع من (شراكة عضوية), إن جاز التعبير.

نحن بحاجة إلى مبادرة تكسر, وبشكل دراماتيكي, هذا التزمّت القاتل في مجتمعاتنا, وتسمح بقفزة هائلة على الصعيد الاقتصادي, لا بتطور بطيء وغير فعال. خلال عشر سنوات, أو خمس عشرة سنة, ينبغي أن تصل هذه البلدان التي ذكرت إلى حالة اقتصادية واجتماعية غير متوقعة من نوع ما حصل في اليونان أو في قبرص, أو في غيرهما.

وليس ذلك بأمر عسير علينا إذا ما تركنا الماضي جانبا, والتفتنا بعقلانية وجرأة إلى المستقبل.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




 





بعض الروايات التي ترجمت من الفرنسية إلى العربية





بعض الروايات التي ترجمت من الفرنسية إلى العربية





من أوائل ما ألف أمين معلوف والتي كانت مدخله للتاريخ العربي والاسلامي





من أوائل ما ألف أمين معلوف والتي كانت مدخله للتاريخ العربي والاسلامي