بين التسجيل والفرز والتوفيق.. هل هناك مؤرخ محايد?

بين التسجيل والفرز والتوفيق.. هل هناك مؤرخ محايد?

طالعت في مجلة العربي العدد 531 فبراير 2003م موضوع (الحقيقة التاريخية.. هل هي مطلقة?) بقلم الروائي محمد جبريل.. وانتهى الكاتب إلى القول (فإن عملية التأريخ يصعب أن يقوم بها شخص واحد? إنما هي - إذا أردنا لها الاقتراب من الحقيقة ما أمكن - مسئولية جماعية أو جماعات متنوعة الهموم والتخصصات. فللعديد من المؤرخين نظراتهم المختلفة, وللمشارك في الأحداث - إذا كانت معاصرة ذكرياته أو مذكراته, ولعالم الاجتماع رؤيته التي تتفهم الظروف ومألوف الحياة, وللكاتب السياسي تحليلاته التي قد تعبر عن فكر أيديولوجي أو انتماء حزبي..) الخ.

وأحب أن أضيف إلى ما سبق بعض الملاحظات:

أولاً: لا يوجد إنسان محايد تماماً وبالتالي ليس هناك مؤرخ محايد فلا بد أن يكون منحازًا بشكل أو بآخر سواء لعقيدته الدينية أو انتماءاته السياسية والأيديولوجية.. حتى الجبرتي الذي يعده البعض من أعظم المؤرخين صدقًا ونزاهة كان منحازًا لوطنه ومخلصًا لعقيدته وهو يرصد خطوات الفرنسيين على أرض مصر, وكان مدفوعًا بكراهية شديدة لجبروت محمد علي وبطشه, وإن لم يمنعه ذلك من تسجيل بعض المناقب والمحاسن لمن يكرههم ويقف في الخندق المعادي لهم.

وابن خلدون (درة علم الاجتماع) خانه التوفيق في بعض المواضع في مقدمته, فهو مثلاً حين يتحدث عن جابر بن حيان يسلكه في طائفة المنجمين والسحرة: (ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فتصفح كتب القوم واستخرج الصناعة وأكثرالكلام فيها, وفي صناعة السيما وهي من توابعها, لأن إحالة الأجسام من صورة إلى أخرى إنما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية).

وهي بالطبع ركاكة عقلية أوقعته فيها ظروف البيئة ونظرتها الساذجة إلى علم الكيمياء.. وفي النهاية لا يوجد كاتب محايد تمامًا, وإلا معناه أن يتجرد من إنسانيته ومشاعره وبيئته, وهو أمر مستحيل الحدوث من الناحية العملية.

وظيفة المؤرخ

خذ مثلاً تاريخ الحروب الصليبية.. كيف يرصدها المؤرخ الغربي كحرب مقدسة لتحرير الأرض المقدسة من المسلمين الهمج, وكيف ينظر إليها العربي المسلم الذي رأى مقدساته تنتهك وأرضه تغتصب تحت شعارات حماسية ودينية براقة وزائفة.

ولم يجد شيخ المؤرخين المسلمين (الطبري) حرجًا في الاعتراف في مقدمة تاريخه.. (فما كان في كتابي هذا مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة, فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قبلنا, وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا وإنما أديناه على نحو ما أدي إلينا..).

ويحدد الطبري نظرته إلى المادة التاريخية بقوله: (إذ لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج) أي أنه لا يروي هذه الأخبار ليحتج بها أو يرتب عليها حكمًا وقضية, إنما يسجلها كما يسمعها أو كما تنقل إليه, وعلى من يريد الاحتجاج بها أن يثبت ويتحقق ويستعمل قواعد النقد الصحيح.

وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن وظيفة المؤرخ في عملية التأريخ.. هل تقتصر على تسجيل الأقوال والأحداث كما يراها أو يسمعها أو تنقل إليه دون زيادة أو نقصان, أم يجب عليه التدقيق والفحص والتمحيص والمفاضلة?

لا شك أن ثمة فارقًا كبيرًا بين نظرة الأقدمين والمحدثين إلى عملية التأريخ.. فبينما يراها الأقدمون عملية تسجيلية بحتة (الطبري), يراها أغلب المحدثين أشبه بعملية الغربلة والفرز والتوفيق بين الروايات المختلفة.

وأنا أتفق مع الأستاذ جبريل في أن عملية التأريخ مسئولية جماعية, وهو شيء جميل ورائع من الناحية النظرية.. إلا أنه من الناحية العملية سوف يعيدنا إلى الدائرة المغلقة نفسها, في محاولة مضنية للتوفيق بين شتى الروايات التي تقع بين أيدينا من المؤرخ وعالم الاجتماع وكاتب المذكرات والكاتب السياسي.

وهي قد تتناقض وتتضارب فيما بينها لاختلاف المشارب والميول والانتماءات والأفكار واختلاف النظرة إلى الحدث الواحد.

وهو ما نعاني منه في قراءة تاريخنا العربي والإسلامي, حتى أصبحت قراءة بعض صفحاته محنة والدخول إليها مغامرة محفوفة بالمخاطر.. فكثير من صفحات تاريخنا العربي والإسلامي بحاجة ماسة إلى التنقيح والفرز والغربلة, فحوادث الفتنة الكبرى التي امتدت منذ أواخر عهد الخليفة عثمان بن عفان حتى نشأة الخلافة الأموية صفحة مليئة بالألغام والأشواك والمتفجرات.

وهل كان أحد يمتلك ترف, مثلا, تسجيل الأفعال فضلاً عن تسجيل الأقوال في تلك الفترة العصيبة الدامية - (برأي الدكتور طه حسين)

صلاح محمد أبوزيد
القاهرة - مصر

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات