كيف نتجاوز الصدمة?

كيف نتجاوز الصدمة?

تمحورت مقالتا كلّ من د.الحبيب الجنحاني (لماذا ينتكس التنوير العربي?) والأستاذ خالد زيادة (العرب والصدمة الحضارية متى نتخطاها) المنشورتان بالعدد (530) يناير 2003 حول سؤال مركزي مازال يلحّ بشدة على المفكرين العرب والمسلمين: لماذا تقدم غيرنا, وبقينا نحن نراوح في المكان نفسه, بعد تجربة تحديثية استمرت أكثر من خمسة عقود?

ولئن أرجع الكاتبان - مثل غيرهما- أسباب انتكاسة التنوير أو فشل تجربة التحديث إلى غياب الديمقراطية ومؤسسات الدولة الحديثة وغياب المجتمع المدني, وذلك نصف الحقيقة - وهو جزء من فشل التجربة التحديثية -, فإنهما أغفلا النصف الثاني من الحقيقة, فما هذا النصف الثاني من الحقيقة? إنّ المشروع التحديثي/التغريبي, الذي أسميناه تعسّفا بالمشروع الإصلاحي تارة, وبالمشروع النهضوي تارة أخرى, كان يحمل في أحشائه جرثومة فشله منذ الولادة, ولشرح ذلك, لابدّ أولا من التوقف عند تمحيص مفاهيمي لكل من مصطلحي النهضة والتحديث.

سحق الشخصية

فالنهضة - اصطلاحا - هي تحقيق الاعتدال الحضاري بعد الانحطاط دون أن يكون الاعتدال مقيسا على نموذج حضاري آخر, فالنهضة نشاط فكري حضاري ينشأ داخل الكيان الثقافي وينقض طبيعيا وضعية انحطاطه.

أما التحديث - اصطلاحا - فهو نقل نموذج النموّ السائد عالميّا, وهو العمل على تقليد الغرب, أي إعادة إنتاج البنى الغربية في الشرق - إنّه تعبير عن ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب, وهو ولعٌ يؤدي إلى التقليد والاقتباس.

لقد عمل تيّار التحديث منذ ظهر في البلاد العربية - قبل وبعد تسلّمه السلطة - على استنساخ مفاهيم الغرب وآلياته الفكرية, وفكّ الارتباط مع التراث, وتبنّي منهج علماني غربي, الأمر الذي أحدث انسحاقًا للشخصية الوطنية وفقدانًا للتوازن واستلابًا كاملاً للغرب المتفوّق. نظر إلى مشاكل العالم العربي والإسلامي- لأنه منبتّ من جذوره ومتنكّر لهويته ومتعالٍ عليها - من خلال إشكاليات العالم الغربي, فكانت أجوبته بلا علاقة بمسيرة الواقع, وصادر بذلك أي إمكانية لتصوّر نموذج آخر للتطور, أو نموذج آخر للقيم الاجتماعية وللتقنيات, وفكر هذه خصائصه هو فكر عاجز عن الإبداع ولا يحسن إلاّ التقليد والاستهلاك والتغنّي بمنجزات الآخر المتفوق, وبقي حتى اليوم - بعد أن أحكم تمسّكه بالسلطة - غير مستعد لمراجعة نظرياته ومواقفه رغم الهزائم والنكسات التي مُني بها, وهو يقف اليوم ومنذ عقود من الزمن أمام تحديّين كبيرين لم يستطع تجاوزهما: التنمية في الداخل وإسرائيل في الخارج.

زاوية الطقوس

وظهر إفلاس المشروع التحديثي جليّا على المستوى الثقافي, حيث قادته نخبة قفزت على ثقافة الجماهير وتقدمت في اتجاه معاكس لها, وتبنّت مفاهيم للهوية ذات طابع فولكلوري احتفالي تقصي الإسلام الفاعل - دين الجماهير - عن الدولة وعن الحياة الاجتماعية وتحشره في زاوية طقوسية, وبرز تبعًا لذلك مفهوم الأمة القطرية لتأصيل الإقليمية والانعزالية وتأصيل شرعية الدولة على حساب شرعية الأمة, ذلك أن أكبر خطأ ارتكبته نخبة التحديث هو الفصل بين التحرير الوطني والتحرير الثقافي, وهو خطأ مازالت الأمة تدفع ثمنه غاليًا.

إننا نقول إنّ عملية التنوير لن تتمّ, ولن نتخطى الصدمة الحضارية إلا متى تبنّينا المشروع الذي بدأه رجال النهضة الأوائل والذي لاقى مقاومة شديدة من طرف المستعمر أولاً, ثم, وعند وصول الطرف التحديثي إلى السلطة, سعى هذا الأخير إلى كسر شوكته, بوسائل متعددة, لأنه مشروع نقيض للمشروع التحديثي, يرى في الغرب كيانًا استعماريًا مرهوبًا وكيانًا علميًا مرغوبًا, ويرى أن العلاقة بين الشرق والغرب ضرورية, ولكنها لا تكون اندماجية لمصلحة العالمية الأوربية, مشروع يرى أن الانبعاث الحضاري لا يعني الرجوع إلى الماضي وتوقيف مجرى التطور, لذلك فلا مانع من اقتباس كل العلوم التي ساهمت في تقدم أوربا دون المساس بجوهر ثقافتنا, لأن عملية النهضة التي يُراد منها إدخال العلوم العصرية والتكنولوجيا لا يمكن أن تحقق الأهداف المتوخاة منها إلا بمقدار ملاءمتها للمجتمعات المنقولة إليها وحفاظها على تراثها الثقافي, وهي الحقيقة التي سعى تيّار التحديث إلى طمسها والتعتيم عليها كلما وظّف أبواقه لمحاربة الفكر النهضوي, واصفًا إيّاه بالظلامية والرجعية والتمسك بمنجزات الماضي.

التنمية ليست سلعة

يمكننا أن نقرر في اطمئنان أن الطرح النهضوي يشتمل من حيث الهدف المعلن فيما يتعلق بمصير الأمة على الحظوظ الوفيرة للارتقاء بها, فهو طرح واعد بذاته بخير مستقبلي, إذ تتوافر فيه من حيث المنظومة الفكرية منطقية الصلة بين المضمون والهدف, إنّ الازدهار الحضاري والتنمية الشاملة غاية لا تتحقق إلا بشروط تقوم مقام المعدات التي يُتذرّع بها إليها والتي يؤدي اختلالها أو فقدانها إلى قصور عن إدراكها أو إلى إدراك مظهر مشوّه يُظن أنه ازدهار وهو في الحقيقة ليس كذلك, وأهمّ هذه المعدات أن يخرج المشروع التنموي الحضاري من قلوب الجماهير حضاريّا وعقيديّا وفكريّا, تتفاعل معه وتتبنّاه وتدافع عنه وتصنعه, أمّا التصوّر أنّ ذلك يمكن أن يتحقق بالنيابة عن الشعب, أو بالوكالة, أو عن طريق نخبة متنوّرة, وبالصراع مع الشعب بفرض ما لا يتماشى ومعتقده وتاريخه ووعيه وضميره ونهجه الحياتي, فهو تصور غير علمي, ذلك أن التنمية - كما الحضارة - وبتعبير مالك بن نبي, ليست سلعة يمكن استيرادها في صناديق أو بين دفّتي كتاب ونقلها من مكان إلى آخر, وليست إحدى لوحات الرسم التي ننقلها من مسمار الجدار الذي علّقت عليه إلى مكان آخر, وأي مشروع لا يحترم تاريخ الأمة ومقوماتها الثقافية ويتعارض معها, هو مشروع فاشل مهما وظّفت له من أموال وطاقات, وبإلقاء نظرة سريعة على التجربة اليابانية التي انطلقت في ظروف أكثر سوءًا من ظروف مجتمعاتنا العربية, والتي حوّلت اليابان في مدة وجيزة إلى دولة عظمى يخشاها الغرب الاستعماري ويعمل لها ألف حساب, يتبيّن لنا جديّة ما نقول, وأنه ليس كلامًا عاطفيًا, ذلك أنّ التجربة اليابانية انطلقت من الشروط والأسس نفسها التي وضعتها الحركات النهضوية في الوطن العربي وفي مقدمتها تجربة خير الدين التونسي. لقد نجحت اليابان في إنجاح نهضة فريدة من نوعها خارج نادي التحديث الغربي بشقّيه الأوربي والأمريكي, بينما سقطت جميع تجارب التحديث الأخرى في الاقتباس السهل للتكنولوجيا والعلوم العصرية, دون بذل جهود كافية لتوطينها والمشاركة في تطويرها والإبداع فيها, وكان من أهمّ العوامل التي عملت على إنجاح نهضة اليابان اختيارها طريق العزلة شبه التامة عن المؤثرات الغربية, واختيارها الانكفاء على الذات, كما لعبت المعتقدات الدينية - هذه التي يرفضها دعاة التحديث في أوطاننا - حتى الأسطورية منها, دورًا مهمًا في تسريع نهضة اليابان, كما تجلّى النجاح الأكبر للتجربة اليابانية في رفض اقتباس الثقافات الغربية التي تقود إلى الترغيب في المسكن والمأكل واللباس والتعليم والتخاطب اليومي وتغيير المفاهيم على غرار ما فعل التحديثيون في البلاد العربية, فنجحت حركة النهضة اليابانية في اقتباس تكنولوجيا الغرب فقط, حين عملت على توطينها واستيعابها وتطويرها, دون أن تغادر تقاليدها الاجتماعية وعاداتها المتوارثة وفنونها الرائعة وثقافتها الإنسانية, وذلك لاعتقاد اليابانيين أن التحديث الذي يقود إلى التفريط بالثقافة التراثية, هو أقصر السبل للتغريب, ولا يقود أبدًا إلى النهضة الحقيقية.... أليست هذه الشروط نفسها أو المعدات التي ألحّ عليها رجال النهضة في وطننا العربي, عمل بها غيرنا فنجح, وطاردناها نحن فبقينا نراوح في المكان نفسه من التخلف والانحطاط لنسأل من حين إلى آخر في حال من اللاوعي: لماذا ينتكس التنوير في الوطن العربي? أو متى يتخطى العرب الصدمة الحضارية?

محمد الصالح عزيز
تونس

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات