هل ننكأ الجراح .. أم نعالجها?

هل ننكأ الجراح .. أم نعالجها?

قرأت باهتمام بالغ مقالة معنونة بـ (مشكلة الهوية والانتماء القومي عند العرب) في العدد (537) أغسطس 2003 للأكاديمي والخبير الاقتصادي د.جورج قرم.

في مقالة (مشكلة الهوية والانتماء القومي عند العرب) يقول الكاتب متحسرا على أوضاع أمته العربية المتدهورة: (غير أنه لابد من الاعتراف بأن مشهد هذه المنطقة سياسيا وعلميا وتكنولوجيا واقتصاديا, ليس بالمشهد الذي يمكن أن نعتز به أو ندافع عنه بطريقة مقنعة..... وباستمرار وجود أنواع مختلفة من تقييد الحريات العامة والممارسة الديمقراطية وبوجود حركات التشدد الديني أو الحركات السياسية التي ترفع شعار التمسك بالدين بتعدديتها وممارساتها المختلفة وما يمكن أن يحصل من صدام مع الحكومات والأجهزة الأمنية والذي يأخذ طابع العنف في بعض الأحيان) المؤسف هنا أن الكاتب ربط ربطا مباشرا بين التخلف العربي والحركات الدينية متجاهلا بذلك العديد من الأسباب الحقيقية التي كانت سببا رئيسيا في وصولنا إلى هذه المرحلة, بل إن التخلي عن تطبيق أحكام الإسلام كان سببا مهما جدا في تفكيك عرى الأمة عربيا وإسلاميا. ومنذ فجر التاريخ لم يحدث أن اتحدت الأمة العربية ووصلت إلى أوج عزها ومجدها إلا حينما حدث تطبيق كامل وشامل لاحكام الإسلام.وفي القرن الماضي فشل العرب فشلا ذريعا في إذكاء روح القومية العربية بعيدا عن الإسلام. وكان من ثمرات ذلك ظهور الحركات والجماعات الدينية التي حاولت الثورة على الأنظمة العربية في محاولة يائسة لتطبيق الإسلام, ولكن الذي حصل أن هذه الجماعات حادت عن مبادئ الإسلام السامية واتصفت بالغلو والتشدد مما جعل دعاة القومية العربية والعلمانية يستغلون هذا الوضع ويكيلون سهامهم للإسلام ويلصقون به صفة التشدد والغلو. وفي مقطع آخر من مقالة الكاتب يقول فيها (.... هذا التضامن الإسلامي لم يمنع الخلافات الحادة باسم الإسلام بين الدول الإسلامية وداخل بعض الدول العربية, كما أن تسخير الشعور الديني هذا في محاربة الشيوعية والجيش السوفييتي في أفغانستان ثم في البوسنة والشيشان وكوسوفا باسم الرابطة الدينية لم يكسبنا الصداقة الأمريكية الحقيقية, وقد أدى ذلك إلى خسارة صداقة الشعب الروسي) وهنا أحب أن أؤكد للكاتب أن خسارة الصداقة الأمريكية الحقيقية لم يكن نتيجة للسبب الذي ذكره إنما بسبب استهجان العرب للتأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل واستخدام حق النقض (الفيتو) عند كل شاردة وواردة تمس إسرائيل, مما جعل صورة أمريكا كراعية للسلام تهتز في نظر العالم, أما خسارة صداقة روسيا فكان لسبب مشابه لما حدث مع أمريكا وهو احتلال روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقا) لأفغانستان دون وجه حق, وهذا الوضع دفع الكثير من الشباب العربي والمسلم لشد الرحال للقتال هناك, وعندما عادوا كانت هناك أشياء كثيرة قد تغيرت في أوطانهم وفي أذهانهم, حاولوا أن يطبقوا الإسلام وفق مفهومهم الخاص للإسلام ومع غياب دور العلماء الفاعل واتساع الهوة بينهم وبين حكوماتهم لاسيما ان حكوماتهم تدين بالولاء بدرجات متفاوتة لروسيا والغرب وامريكا, كل ذلك جعلهم يعيشون حالة من التناقض مع الذات, مما كوّن في داخلهم تربة صالحة لنمو أفكار التطرف.

التعليل والتسليم

وليس صحيحا ما أورده المقال في بداية المقطع السابق من أن التضامن الاسلامي فشل في نزع الخلافات باسم الإسلام لأن منبع هذه الخلافات أصلا كان إعفاء الإسلام من سدة الحكم وارتضاء الأحكام الوضعية بديلا له, فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يحوي تشريعات ربانية شملت كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة ترتكز على ركائز من العدل والمساواة والشمولية والمرونة وفتح مجالات واسعة من الاجتهاد والتطوير ونبذ الجمود, لتتناسب مع تغيرات الزمان والمكان إلى جانب إعجاز الإسلام المتمثل في وسطية أحكامه بعيدا عن التشدد أو الانفلات. وفي مقطع جديد يقول د.قرم (... وتدل كل تجارب الشعوب في التاريخ على أن النجاح العلمي والاقتصادي هو الركيزة الأساسية للوصول إلى الثقة بالهوية الجماعية, فأمثلة النهضة القومية الناجحة في أوربا وفي آسيا الشرقية أو في أمريكا الشمالية تشير جميعا إلى أهمية ممارسة العلم والتقنيات كرابط أساسي للمجتمع الناهض...) وكان الكاتب قبل هذا المقطع قد ربط بشدة بين تهميش العلم والتقنيات في مجتمعاتنا واهتمامنا بالجوانب الدينية والسياسية!! وأنا هنا أترك الرد لديفيد بروكس مؤلف كتاب (الإقلاع عن العادة العلمانية) الذي كان له رأي مغاير حول العلمانية التي يدعو إليها الدكتور قرم ليقول لنا: (لقد كنت قبل 11 سبتمبر أقبل الفكرة التي تقول إن العالم كلما أصبح أكثر غنى وتعليما أصبح أقل تدينا.... إن هذه النظرية جاءت من خلال الاستنتاج من عينة إنسانية محدودة وغير ممثلة (بعض أجزاء من أوربا الغربية وأجزاء من أمريكا الشمالية).... بل إن التاريخ كلما تقدم إلى الأمام, فإن العلم يحل مكان التسليم الاعتقادي, والتعليل السببي يحل بديلا عن التسليم غير الخاضع للتعليل العقلي وإن أي منطقة لم تنل حصتها بعد من الإصلاح والتنوير- كالعالم العربي مثلا- لابد أنها سوف تنالها عاجلا أو آجلا..) ثم يقول: (إن من الواضح الآن أن نظرية العلمنة هذه غير صحيحة فالجنس البشري لا يصبح بالضرورة أقل تدينا كلما أصبح أكثر غنى, أو أفضل تعليما... إننا نعيش اليوم في ظل واحدة من أعظم فترات التقدم العلمي وتخليق الوفرة وفي الوقت نفسه فإننا في قلب الازدهار الديني... إن الإسلام يموج بالحركة.... واليهودية والأرثوذكسية تنموان في الأوساط الغنية من المجتمع), ثم يقول مؤكدا (إن العلمانية ليست هي المستقبل, إنها رؤية الأمس الخاطئة للمستقبل.. هذا الإدراك يدفع بنا نحن العلمانيين في طور التعافي إلى محلات بيع الكتب أو المكتبات العامة في محاولة يائسة لاكتشاف ما الذي يحدث في العالم).

تحديد الهوية

وفي موقع أخر يرد اتهام جديد وباطل ضد الإسلام عندما قال د. قرم (وقد أقامت الأقطار العربية شتى أنواع الأنظمة الاقتصادية, ومنها أنظمة مبنية على سعي في تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية التي تم تطويرها في زمن ما قبل انفجار الثورات الصناعية, ولكنها لم تتغلب على السمات الاقتصادية السلبية التي ذكرناها), هنا مجانبة للحقيقة فالتاريخ سجل لأول مرة في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز غياب الفقر والبطالة وتحقق المساواة الاجتماعية لدرجة أن الزكاة كانت تدار في طرقات المدينة ولا يجد القائمون عليها أحدا يستحقها, ولم يتم ذلك إلا بعد أن تم تطبيق تعاليم الإسلام السامية بمختلف جوانبها, فحدثت هذه النهضة الاقتصادية الإسلامية المشرقة, ولو تم اليوم تطبيق شعيرة الزكاة بمفهومها الإسلامي السامي لاندحرت جحافل الفقر ولتقلصت الفروق الطبقية بين المجتمعات لاسيما مع وجود أثرياء عرب يملكون ثروات تعادل ميزانيات بعض الدول. وقد فشلت الاشتراكية الشيوعية في حل مشكلة الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي ولم تكن الليبرالية الرأسمالية على الطرف الآخر بأفضل حال من الأولى في حين نجح الإسلام في تحقيق المعادلة الصعبة وضمن التوزيع الصحيح للثروة بترسيخ أحكام الزكاة وتشجيعه للتبرعات والكفالات والترابط الاجتماعي, وعندما حادت بعض الحكومات العربية والإسلامية عن منهج الإسلام الصحيح, وحكّمت العلمانية ظهر التمزق الاجتماعي والاقتصادي واتسعت الهوة بين طبقات المجتمع.

أخيرا, يربط المقال في مقطع جديد تأجج الصراعات العقائدية والتناقضات حول تحديد الهوية بغياب القومية الاقتصادية, وكأن الاقتصاد أصبح عصب الحياة الذي لا يقوم للناس من دونه قائمة, ملغيا باقي الجوانب الإنسانية الأخرى كالاجتماعية والفكرية والثقافية والعقائدية في حين أن الواقع الاقتصادي الزاهر الذي تعيشه أوربا وأمريكا لم يشفع لهما في خفض معدلات الجريمة أو القضاء على مشكلات الفقر والبطالة المتزايدة, ولم ينجح أيضا في هدم الهوة السحيقة بين طبقات المجتمع, ولم تستطع أن تقضي على العنصرية البغيضة والدعارة وتجارة الرقيق الأبيض واستغلال الأطفال جنسيا. فهل تريد الأطروحات الاقتصادية لنا أن نتحول إلى مجتمعات عربية خاوية روحيا ونسخة مكررة لما يحدث في الغرب?! وهل نكون أمة تحصر نفسها برباط القومية التي ستحصرنا في جسد واحد تتنازعه الروح المسلمة واليهودية والمسيحية والوثنية!! وحتى لو ألغيت الأديان - وهذا شرط أساسي من شروط القومية - فإن الأمة العربية ستخسر مبادئها وأخلاقها وإنسانيتها التي طالما نمت وترعرعت بماء الأديان السماوية.

إن من الخطأ الاعتقاد بأنه لا يمكن بناء قومية سياسية واقتصادية على أساس الدين, فالإسلام استطاع أن يتجاوز حدود القومية الواحدة ولم شمل الأقطار الإسلامية بإطار أكثر شمولية من إطار القومية العربية ونجح في ذلك والتاريخ أكبر شاهد على هذا النجاح.

منيرة مهدي العنزي
السعودية

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات