مساحة ود

مساحة ود
        

ذاكرة الصفيح

          لا نساء...

          المرأة الأخيرة أحرقت منذ أسبوع، وأطباء التوليد المخلصون يوافون السلطات بآخر الأنباء المتعلقة بولادات الإناث، لذلك فالوأد يسير سيرًا حسنًا.

          لا نساء.

          صحيح أننا لم نحقق هذا الإنجاز الحضاري إلا بالكثير من الجهد، لكننا وصلنا أخيرًا.

          في البداية كانت عقدة الذنب وخاصة فيما يتعلق بالأمهات، العاطفة، تلك الثغرة في كياننا الصناعي الوليد، لكننا انتصرنا، قتلنا في البداية كل من بلغت الستين، كانت مجزرة صغيرة، لكن الأمر مر بسلام، فاختراع القلوب المعدنية كان فعالاً إلى أبعد الحدود.

          كان لابد من إزالة كل الشبهات، كل العواطف الساذجة، التي قد تعود بنا إلى الوراء.. وهكذا، وبموجب نظام تقني متطور محونا من الأذهان كل ما تفوّه به البشر القدماء عن الأم وحنانها، عن قهوتها وطيبة قلبها، أشياء كثيرة لم نعد نذكرها الآن، بالأصح لم نعد نحتاج إليها، ففي مجتمع تتكون ذاكرته من الرقائق المعدنية يغدو التعلق بالرومانسية عملاً مشينًا لا يليق بأحد.

          كنت أحدّثكم عن عصر (اللا نساء) إنجازنا الكبير، في الواقع اضطررنا إلى ذلك، كان العشق يقتل كل يوم العشرات من خيرة شبابنا، يحبون بشغف، يذوبون رقة ويفنون ذواتهم في طلب الوصال، ويتركون أعمالهم للإهمال والتسيب، ويومًا بعد يوم كانت معالم حضارتنا المعدنية تعاني شحوبًا ينذر  بالخطر، حاولنا إيجاد علاج ملائم عن طريق التأهيل النفسي، لكن جمال نسائنا المذهل كان عصيًا على الترويض، كن بديعات التكوين كآلهة الإغريق، ناعمات الملمس كالحرير، رائعات الحضور كأجمل الأحلام، لذلك كان لابد من علاج، اتخذنا القرار الأقرب للمنطق، لا نساء، علماؤنا أجابوا عن سؤال البقاء، كان الاستنساخ هو الحل، صرنا نستنسخ رجالنا الأشداء ونمنحهم قلوبًا معدنية متطورة، مضخات حقيقية من معادن لا تصدأ، وعلى مراحل دُرست بعمق بدأنا المسيرة الكبرى، أحرقنا نساءنا الرائعات، صرنا مجتمعًا من أولاد الحضارة الحقيقية، حضارة المعدن، صارت حياتنا أكثر انتظامًا، لا أمهات يحترفن الطيبة، ولا عشيقات يخضبن حياتنا بالحناء، ولا نساء يرصفن الأزقة بالعطور.

          ها أنا أكتب عن تلك المرحلة القديمة، زمن النساء الجميلات، أنا (الروبوت) المجتهد، أحمل قلبًا من الصفيح المصقول، وأتلقى بانتظام الإشارات المخية التي تحمل التعليمات إلى كل أعضائي المثابرة، أستنشق غبار الأسمنت العالي الجودة، وأتنفس هواء المصانع المنعش، أمتطي الآلات الخرساء بساطًا أسطوريًا من ريح مجنونة، وفي داخلي تولد كل يوم صورة بعيدة، باهتة التفاصيل، بعيدة الملامح، لامرأة بديعة التكوين كآلهة الإغريق، ناعمة الملمس كالحرير، رائعة الحضور كأجمل الأحلام!!

 

الصديق بودوارة