تاريخ سرقات الآثار المصرية إيهاب الحضري

تاريخ سرقات الآثار المصرية

كان نسق الحياة مختلفا, ورغم ذلك مضى كل شيء على المنوال نفسه. عندما أخذت الشمس تخطو خطواتها الأخيرة لتنهي يوما شاقا من العمل, كان مركب صغير يتجه ناحية الضفة الغربية لنيل الأقصر. الزمان كان صبيا والمكان أيضا, لكن الإنسان كان قد اخترع الشر منذ زمن بعيد. رسا المركب في لحظة ما اعتبرها ركابه أكثر أمنا من غيرها. هبطوا وتسللوا تجاه وادي الملوك, وبدأوا تنفيذ خطتهم التي لم يكن مكتوبا لها أن تكتمل بنجاح. كان يمكن أن تظل هذه القصة سرا لولا أن الظروف التي أحاطت بها جعلت البرديات تسجلها لتصبح واحدة من أقدم سرقات الآثار في التاريخ, وعلى سطح هذه البرديات تم تدوين اعترافات المتهمين:(هناك عثرنا على مومياء الملك المبجلة, ووجدنا الكثير من الشارات والحلي حول رقبته, وكان على رأسه قناع ذهبي, وكانت المومياء نفسها مغطاة بالذهب بكثافة, فنزعنا الذهب عن مومياء الملك المبجلة, كما استولينا على الشارات والحلي وكسوة التابوت). التحقيقات التي استخدمت فيها كل وسائل الاستجواب أدت إلى اعترافات أخرى. حامل مبخرة معبد آمون - الذي كان واحدا من بين خمسة وأربعين متهما - أكد أن إحدى عصابات السطو فاجأته ليلا أثناء نومه, أيقظه أفرادها وقالوا له: اخرج ودعنا نسرق لأننا جوعى. وروى حامل المبخرة بقية القصة: (صاحبوني في فتح مقبرة أخرجنا منها تابوتا من الذهب والفضة, فحطمناه ووضعناه في سلة خرجنا بها, ثم قسمناه إلى ستة أجزاء).

ولولا بعض المفردات المتناثرة في ثنايا الاقتباسات السابقة لاعتقد الكثيرون أن هذه الاعترافات مقتطعة من محاضر تحقيقات حديثة, لكن الغريب أنها ترجع إلى تاريخ بالغ القدم. وتحديدا فترة حكم رمسيس التاسع (1142 - 1123 ق.م) المفارقة تتمثل في أن البرديات التي خلدت هذه السرقة كانت بدورها ضحية حادث سرقة بيعت بعده بطريقة غير شرعية بأسواق الآثار الأوربية في نهايات القرن التاسع عشر!

بفحص هذه البرديات تكشفت ملامح القضية التي فجرها صراع بين اثنين من كبار موظفي الأقصر, فقد كان طرفاها الأساسيان هما باسر محافظ طيبة الشرقية وباورو محافظ طيبة الغربية, كان الأول نظيف اليد لكنه اشتهر بحبه للظهور, كما أنه كان على خلاف مع الأخير, لم تكد الأخبار تصله عن وقوع سرقات من البر الغربي حتى باشر التحقيقات بنفسه متجاوزا بذلك حدود اختصاصاته الرسمية.

واستخدم كل الوسائل التي تمكنه من نزع اعترافات المتهمين. بعد أن حقق هدفه وهو عرض القضية على الوزير المحلي ضع إم واست فأمر بتشكيل لجنة اكتشفت بعد المعاينة أنه تم السطو على مقبرة ملكية واحدة, إضافة إلى العيش بمقابر بعض الكاهنات. ورغم ثبوت التهمة فقد أنكر المتهمون اعترافاتهم عند إعادة استجوابهم وأصروا على براءتهم, مما جعل الوزير يسقط التهم كلها. انتصر باورو مؤقتا وعمد إلى مضايقة غريمه الذي فشل في توريطه, لكن حاكم طيبة الشرقية بدأ بعد شهور يلح على إعادة فتح (ملفات!) القضية. ونجح في نهاية الأمر في أن يحقق ذلك بمعرفة الوزير الجديد نب ماعت رع ناخت. استدعت المحكمة المتهمين واستجوبتهم وكانت هذه هي بداية تسجيل وقائع القضية على البرديات. عقب تحقيقات طويلة انتصر باسر هذه المرة بعد أن ثبتت التهم, وحكم على اللصوص بعقوبات قاسية نجحت في الحد من سرقات المقابر.. لكن إلى حين.

مرت القرون وأصبح المكان يحمل ملامح مختلفة, لكن رحيل الشمس باتجاه خط الأفق ظل يكتسب الدلالات نفسها. فعالم الليل - بما يملك من مقومات تؤهله لأن يكون أكثر قدرة على إخفاء الأسرار - يتحول إلى مسرح جيد للكثير من العمليات: صفقات مشبوهة, وحفائر تتم خلسة لتؤدي إلى اكتشاف آثار جديدة وتغذية السوق بمزيد من (البضائع). غير أن هذا لا يعني أن النهار ليس له نصيب, فارتفاع سرقات الآثار يشير إلى أن المساحة الزمنية لليل لم تعد كافية وحدها. حيث أوضح تقرير للجهاز المركزي المصري للمحاسبات حول أداء المجلس الأعلى للآثار خلال العام المالي 2000/2001 أن عدد قضايا سرقات الآثار التي تم ضبطها خلال هذا العام وصل إلى 123 قضية, في حين بلغ عدد قضايا الحفر خلسة 31 قضية. الأرقام السابقة تصلح كمؤشرات, لأن عدد عمليات السرقة أو التهريب التي لم تضبط غير معلوم. الكشف عن هذه السرقات يتم أحيانا عن طريق الصدفة وبعد حدوثها بسنوات, النموذج الأكثر حضورا بحكم حداثته هو ما حدث مع لوحة معبد بهبيت الحجارة. فقبل عام اكتشفت عالمة الآثار الفرنسية كريستين فيفر أن قطعة أثرية مصرية معروضة للبيع في مزاد علني تقيمه صالة مزادات كريستي بنيويورك في الثاني عشر من يونيو (2002).

سارعت فيفر بمخاطبة المجلس الأعلى للآثار ليمنع بيع هذه اللوحة النادرة التي كانت هي نفسها قد قامت بإجراء بعض الدراسات عليها وتصويرها عام 1977 بمعبد بهبيت الحجارة بمحافظة الغربية (يعتبر أكبر معابد منطقة الدلتا). الغريب أن القطعة كانت جزءا من حائط ضخم مما يعني أن اللصوص قاموا بنشرها وتهريبها, وهو الأمر الذي أثار علامات استفهام عديدة حول كيفية حدوث ذلك دون أن يشعر أحد من الحراس أو الأثريين الموجودين بالمنطقة رغم أن مثل هذه العملية تحتاج إلى وقت طويل لتنفيذها. وحتى إذا لم يشعروا بذلك فكيف لم يتسن لهم اكتشاف أن الجدران الظاهرة للأعين قد فقدت جزءا منها?بلاغ العالمة الفرنسية أدى إلى إنقاذ القطعة من البيع ودفع المسئولين إلى عمل معاينة للمعبد لتتكشف مفاجأة جديدة, فالقطعة المعروضة في المزاد لم تكن الوحيدة التي خرجت من المعبد, بل إن هناك قطعا أخرى اختفت منذ سنوات!

قانون الصدفة يتحكم في أمور أخرى عديدة في هذا المجال, فمن دون تخطيط يمكن أن يعثر أحدهم على قطع أثرية أثناء قيامه بالحفر لبناء منزل. هنا سيصبح أمام أحد اختيارين: الأول أن يقوم بإبلاغ الجهات المعنية, أما الثاني فيتمثل في احتفاظه بما اكتشف لنفسه ومحاولة بيعه, تدفعه في ذلك أحلام الثراء السريع. الذين يختارون البديل الثاني عديدون, يدخلون عالم تجارة الآثار من باب الصدفة كهواة.

منهم من يسقط نتيجة عدم الخبرة, ومنهم من يستمر وينتقل إلى دائرة الاحتراف.

والمحترفون ينتمون إلى كل الفئات الاجتماعية والعمرية والمهنية, منهم العاطل والمزارع والمهندس والمدرس بل وحتى عالم الآثار وضابط الشرطة. يشكل هؤلاء جميعا مجتمعا سريا تحكمه معايير السوق, تلك المعايير القائمة على العرض والطلب ومدى ندرة السلعة التي يجري تسويقها, والتنوع هو السمة الأساسية التي تسيطر على حركة تجارة الآثار, أما المضبوطات التي يعلن عنها باستمرار فتشير إلى وجود نزيف مستمر, عناوين الأخبار التي تنشر بصورة شبه يومية تثبت ذلك بوضوح: عاطل يعرض تمثال رمسيس للبيع بمليون جنيه, ضبط مجموعة نادرة من التماثيل الفرعونية والعملات الأثرية بحوزة مزارع عثر عليها بالتنقيب, تابوت أثري في منزل مزارع بقنا, ضبط 23 تمثالا أثريا بمنزل تاجر بالعياط. المتهم حصل عليها عن طريق التنقيب بالمنطقة الأثرية, إحباط محاولة لتهريب 95 قطعة أثرية نادرة حاول مزارع وصديقه بيعها بمليون جنيه لتاجر بالسلوم, ملوك الفراعنة للبيع بالهرم, ضبط قطع أثرية ينقلها تاجر صيني من فيلا مطلقته بالعجمي, القبض على موظف ومقاول بالمرج بحوزتهما 940 قطعة أثرية من العملات الرومانية, مدرس يتزعم عصابة للاتجار في القطع الأثرية, ضبط متحف أثري نادر في حقيبة عامل سكة حديد, ضبط مدير أمن مطار النزهة السابق (لواء) في محاولة لتهريب آثار. العناوين السابقة مجرد نماذج بسيطة لوقائع لا تحظى غالبا باهتمام المواطن العادي أو حتى المهتم بأحوال الآثار, لأن معدلات تكرارها المرتفعة جعلتها معتادة حتى أن خبيرة الآثار البريطانية فيفيان ديفيز حذرت في أغسطس من عام 2000 من أن المواقع الأثرية المصرية تتعرض لعمليات تدمير ونهب منظم أسبوعيا.وفي مقابل هذه النوعية من الوقائع تطفو على السطح كل فترة قضية تنجح في جذب انتباه الرأي العام, قد لا تكون الآثار المضبوطة فيها هي البطل وإنما الظروف التي أحاطت بها.

لصوص من الداخل!

شهدت الشهور الأخيرة قضيتين كانت لهما ملامح خاصة, فعدد من المتورطين الأساسيين فيهما كانوا من داخل المجلس الأعلى للآثار, أجواء القضيتين أعادت إلى الأذهان تفاصيل قضية الآثار الكبرى التي أثارت ضجة في بداية التسعينيات بعد أن ثبت تورط كبير مفتشي آثار سقارة وعدد من مفتشي المنطقة بها.

تم ضبط أولى القضيتين في نهايات يناير الماضي, وشهدت وقائعها مفارقة يمكن أن توصف بأنها حادة, فالمتهم الأول فيها كان المدير العام لإدارة الآثار المستردة, وهي إدارة أنشأها الدكتور زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار لتتولى استرداد الآثار التي خرجت من مصر بطريقة غير مشروعة!

كان ذلك المدير المتهم قد أسهم بحكم منصبه في استرداد عدد من القطع الأثرية المسروقة قبل القبض عليه بشهور, فاستعاد من هولندا تمثالا لرأس أمنحتب الثالث كان قد سُلب من الكرنك, وأعلن عن استرداد حوالي ألف قطعة من مواطن مصري يعيش في سويسرا, إضافة إلى آثار أخرى.

تم القبض على المسئول باعتباره مديرا لإدارة الحيازة (التي كان يشرف عليها أيضا) ووجهت إليه تهمة المشاركة في تهريب 362 قطعة أثرية (88 أيقونة, 60 تمثالا, 13 قطعة حلي, ورأس تمثال كبير), كان قد تم ضبط القطع قبل شهور من القبض على المتهمين بتهريبها, حيث شك المسئولون بمطار القاهرة في محتويات الشحنة التي سعى أحد تجار خان الخليلي لإرسالها إلى برشلونة على أنها آثارمقلدة, ورغم وجود خطاب من مدير إدارة الحيازة (وهو المسئول في الوقت نفسه عن الآثار المستردة) يؤكد أن القطع مقلدة, فقد قام مسئولو المطار بإبلاغ الوحدة الأثرية التي عاينت القطع وأكدت أنها أثرية. تم تشكيل لجنة أخرى لمعاينة القطع المضبوطة أثبتت في تقريرها أن هناك بالفعل بعض القطع غير الأثرية, لكن بقية المجموعة تضم عددا كبيرا من العملات الذهبية التي تنتمي لعصور مختلفة بعضها فريد لدرجة أنه لا يوجد له مثيل في المتاحف.

بعد ضبط الشحنة (!) أكد المسئول الذي لم تكن النيابة قد وجهت إليه تهمة وقتها أن التاجر تلاعب في محتوياتها بعد حصوله على شهادة تفيد بعدم أثريتها. عندئذ أصدرالأمين العام للآثار قرارا بعدم فحص أي شحنة إلا في المنافذ الجمركية لكي لا تكون هناك فرصة للتلاعب, كما حرصت لجنة إعداد مشروع قانون حماية الآثار الجديد (توضع اللمسات النهائية له حاليا) على وضع ضوابط للتعامل في النماذج الأثرية لكي لا تصبح متاحة للاستخدام في عمليات التهريب, خاصة أن هناك سوابق عديدة لذلك, أضخمها تمت منذ سنوات عندما حاول أحد تجار خان الخليلي (أيضا!) تهريب غرفة دمشقية أثرية. ووفقا للسيناريو نفسه اتجهت لجنة برئاسة المدير العام لمتحف الفن الإسلامي السابق إلى مقر التاجر وعاينت الغرفة وأقرت بعدم أثريتها.

لكن أعضاء هذه اللجنة كانوا أكثر حذرا حيث تركوا توقيعاتهم على بعض أجزاء الغرفة دون أن يلاحظ التاجر, وعندما وصلت الحجرة إلى المطار تم استدعاء اللجنة من جديد لكن أعضاءها لم يعثروا على توقيعاتهم, فأعلنوا أنه تم استبدال الغرفة, وأن الموجودة بالمطار أثرية!

لم تكد الضجة التي أثارتها قضية مدير ادارة الآثار المستردة تهدأ حتى تفجرت قضية أخرى كانت أكثر إثارة. في البداية كان محور الإثارة يتمثل في أن أحد المتهمين الأساسيين فيها مسئول بآثار القرنة بالأقصر, ثم زادت سخونة القضية عندما أُعلن أن أحد المتهمين الأساسيين فيها هو أمين الحزب الوطني بمنطقة الهرم. وتردد أن القضية - التي لا يزال نطاقها يتسع تدريجيا - ستشهد تورط أسماء أخرى لأقارب عدد من المسئولين. أثبتت الرقابة الإدارية التي كشفت عن هذه السرقة أنه تم العثور على 300 قطعة مختلفة الأحجام في منزل الأثري الموجود بالقرنة, وأن معظمها استُخرج من حفرة في منزله قطرها ستة أمتار. أما قصر أمين الحزب بالهرم فعثر به رجال الرقابة على مخزن يضم قطعا نادرة من الآثار الفرعونية وأعمدة يُشتبه في أنها سرقت من المعابد إضافة إلى بعض المخطوطات. الفاصل الزمني القصير بين هذه القضية وسابقتها واكتشاف تورط بعض الأثريين فيها جعل الدكتور زكريا عزمي عضو مجلس الشعب المصري يتقدم بطلب إحاطة عاجل إلى فاروق حسني وزير الثقافة, طرح الدكتور عزمي في طلبه موضوع حماية الآثار المصرية من السلب والنهب, وأشاد فيه بجهود وزارة الثقافة في حماية الآثار لكنه تساءل عن الضوابط الأمنية المتبعة لمواجهة ما يحدث من سلب خاصة بعد أن: (تبين أن بعض القائمين على الآثار هم الذين يسرقون الآثار). ووجه سؤالا لوزير الثقافة: (ماذا أنت فاعل بهم?).

الحادث الأخير أكد أن الأقصر لا تزال تحتل مكانتها على رأس قائمة المواقع المعرضة للنهب عبر العصور, وكما شهدت هذه المدينة واحدة من أقدم السرقات في التاريخ فقد استمرت في جذب أنظار أفراد العالم السري لهذه التجارة.

كان الأجانب الذين أقبلوا على شراء الآثار من الأهالي سببا في رواجها, وعبر أكثر من قرنين تسبب قناصو الكنوز الأثرية في نزيف حاد لآثار المدينة, سجل الراحل شادي عبدالسلام في فيلمه (المومياء) بعض جوانب هذا المشهد الذي تصدرته عائلة عبدالرسول إحدى أكثر العائلات شهرة في هذا المجال.

إنه ماضٍ يمكن تجاوزه, فالظروف كانت مغايرة والاتجار في الآثار لم يكن مجرَّما, لذلك يمكن إخراج معظم هذه الحالات من دائرة السرقات, وإن كان التاريخ سيظل يحفظها بوصفها من أكبر عمليات النهب التراثي في العالم.

في عام 1983 صدر قانون حماية الآثار المصري الذي قام بتجريم الاتجار فيها, لكن الأرباح الهائلة والعقوبات المتهاونة كانت سببا في استمرار النشاط.

ظلت قرية القرنة على حالها بمنازلها القابعة فوق بحيرة من الآثار, واستمر بعض أهلها في الحفر داخل منازلهم على النسق نفسه الذي ظل سائدا لقرون, لم تستطع السلطات أن تجد حلا لهذه المشكلة المزمنة, ورغم تخصيص أماكن بديلة فقد رفض الأهالي الخروج وحدثت مصادمات عديدة أدت إلى تأجيل حل المشكلة أكثر من مرة.

وإضافة إلى الحفائر التي تتم خلسة كانت هناك وسيلة أخرى للحصول على الآثار, بعض اللصوص اعتبروها أكثر سهولة رغم أنها تحتاج إلى قدر من الجرأة.

اتجه هؤلاء إلى مخازن الآثار مباشرة, فهي تجنبهم عناء البحث والتنقيب كما أن حالتها الإنشائية كانت بالغة السوء, الصفة نفسها كانت تنطبق على نظم تسجيل ما بها من آثار, وهو ما ظهر تأثيره فيما بعد. هذه الظروف الصعبة كانت تؤدي إلى مفارقات لا تتوافر عادة إلا في المسرحيات الهزلية, ففي عام 1997 قامت لجنة أثرية بجرد مخزن الشيخ لبيب بالكرنك للتحقيق في بلاغ عن اختفاء ثلاث قطع أثرية منه. بعد انتهاء اللجنة من عملها فجرت مفاجأة عندما أكدت أن عدد القطع التي اختفت بلغ 93 قطعة أثرية!! وأثبتت في تقريرها أن المخزن من دون سقف ومكشوف من أعلى! أي أن بعض ما نجا من السرقة تعرض للدمار بفعل الظروف الجوية. حركت النيابة الإدارية دعوى قضائية ضد مدير منطقة آثار الأقصر وكبير مفتشيها بعد أن رأت أن إهمالهما هو السبب فيما حدث, غير أن المحكمة التأديبية بقنا حكمت بعد عام ببراءتهما, وأكدت في حيثياتها أن السرقة تمت بسبب: (عدم اتخاذ هيئة الآثار بإداراتها المختلفة الإجراءات اللازمة لتأمين المخزن وحمايته بالوسائل المناسبة لدفع أخطار السرقة عنه أو بنقل ما يحويه من قطع أثرية إلى أماكن أكثر أمانا وتأمينا, خاصة أن المتهم الأول كمدير لمنطقة آثار الكرنك قد أطلع رؤساءه بالهيئة على المخاطر المعرض لها المخزن بحالته الراهنة وإلى سوء حالته إلا أن الهيئة لم تحرك ساكنا واستمرت في إغماض أعينها عن تلك المخاطر وسوء حالة المخازن. وفي كل تلك الظروف لا يمكن بحال أن ينسب إلى المتهمين إهمال في الإشراف على المخزن أو على أعمال التسجيل الحاصلة به). وأشارت المحكمة إلى الحالة السيئة للمخزن الذي يضم 13843 قطعة أثرية, قائلة: (.. وقد أجرت النيابة العامة معاينة للمخزن المذكور ثبت منها أن الحد الغربي للمخزن سور ترابي ويمكن الدخول منه إلى المخزن نظرا لعدم وجود سقف, وأن الواقف على جدار المخزن يمكنه التقاط القطع الأثرية المسروقة, ولعدم وجود سقف للمخزن, وعدم ارتفاع حوائطه يستطيع الغير الوصول إلى المخزن دون عناء أو تعب).

وفي نهاية حيثياتها أطلقت المحكمة تحذيرا مهما: (ومن نافلة القول أن المحكمة تدق ناقوس الخطر بشأن ما يحيط الآثار المصرية من مخاطر النيل منها من سرقة وإهمال وتهيب بهيئة الآثار أن تنشط وتتخذ مايكفل حماية هذا التراث من العبث ومن أن تطوله يد الإهمال والسرقة, بدلا من سياسة دفن الرءوس في الرمال والتغاضي عن العيوب والسلبيات التي تشوب الأداء, والقصور في المحافظة على هذا التراث).

أشباح المتحف المصري

مثلما يحدث في الأفلام البوليسية. دق جرس الهاتف في مكتب يجلس عليه أحد الضباط. فاعل خير لم يعرف أحد بعد ذلك هويته أكد حدوث سرقة في المتحف المصري. حدد رقم فاترينة العرض ووقت وقوع الجريمة. المكان الذي لا يمتلئ عادة إلا بمحبي الآثار أصبح مكتظا فجأة بعشرات من رجال الشرطة ومسئولي الآثار.بعد تشكيل لجنة جرد تم فتح الفاترينة رقم 27, ظاهريا لم يكن هناك نقص في مقتنياتها لكن الفحص المبدئي أسفر عن مفاجأة, فبدلا من ثماني سبائك ذهبية تم العثور على أخرى نحاسية.

في التحقيقات أكد الأمين العام للمتحف أن أحد جنود الحراسة سبق أن أبلغه - نقلا عن أحد الزائرين - بنقص عدد السبائك, لكنه عندما بحث الموضوع بنفسه تأكد من أن العدد سليم ولم يلحظ فرقا بين السبائك الموجودة في الفاترينة وتلك المصورة في البطاقة.

السرقة التي حدثت عام 1958 كانت واحدة من الحكايات العجيبة التي ارتبطت بالمتحف المصري, فبعدها بشهور سرقت 35 تميمة أثرية أخرى. لكن المفاجأة الأكبر حدثت في أغسطس من العام التالي عندما اختفت عصا توت عنخ آمون في ظروف غامضة, نجح اللص وقتها في فتح الفاترينة دون أن يكسرها ثم سرق عصا واحدة وترك إحدى عشرة عصا أخرى لكي لا يعلم أحد بأمر السرقة سريعا. اتجهت شكوك قائد الحرس إلى العاملين بالمتحف. وأكد: (إن أي لص يريد السرقة لا بد أن يكسر الزجاج, لكن السرقات تمت دون أي خدش في الزجاج مما يؤكد أن السارق عنده المفاتيح ولديه مطلق الحرية في الفتح والقفل, والوقت الكافي لأن تتم العملية بلا خوف, وكثيرا ما كان يخرج الأمناء أمام العساكر وهم يحملون حقائب ولا أحد يستطيع أن يتكلم). تكرار حوادث السرقة أدى إلى تفعيل فكرة جرد المتحف التي كان قد اتفق عليها قبل سنوات دون أن تتم. أشرف على الجرد العالم الكبير الدكتور سليم حسن الذي بدأ عمله بتوجيه رسالة إلى متاحف العالم يناشد مسئوليها إبلاغه عن أي قطع مسروقة من المتحف. وقال في رسالته: (يتشرف المتحف المصري بأن ينهي إلى علمكم أنه تبين له أخيرا مع الأسف أن بعض قطع أثرية نفيسة اختفت من بين مجموعاته, وتجدون رفق هذا صورا فوتوغرافية عن هذه القطع تساعد على إيضاح البيانات التي تخصها, فنكون شاكرين لكم إذا تفضلتم بمعاونتنا على استرجاعها ببحثكم عنها لدى تجار الآثر الموجودين بمدينتكم أو إفادتنا عما إذا كانت هذه القطع الأثرية قد عرضت عليكم للشراء أو أن متحفكم قد اقتناها). لكن لم يترتب على هذه الرسالة استعادة أي قطع مفقودة. بعد سنوات من هذه الأحداث احتفظ خلالها المتحف بهدوئه نسبيا, دخل لصان آخران إلى قاعاته عام 1987 وسرقا عددا من القطع. أمينة القسم الخامس اكتشفت الأمر بالصدفة وأبلغت عن اختفاء إحدى عشرة قطعة زادت بعد المعاينة إلى 42 تحفة, وعند القبض على اللصين قاما بتسليم القطع المسروقة إضافة إلى تسع قطع أخرى لم يتم الإبلاغ عنها! وفي عام 1996 حدثت السرقة الأكثر إثارة للدهشة, فقد استطاع اللص أن يقضي ليلته داخل المتحف, ويفتح أربع فاترينات ويسرق عددا من القطع من بينها خنجر توت عنخ آمون و18 خاتما.

اللص - الذي قبض عليه جنود الحراسة بالصدفة - أدلى في حديث صحفي بمعلومات ذات دلالة, أكد أنه فعل كل شيء داخل المتحف في هذه الليلة: (لعبت وسرقت ونمت وغسلت هدومي وتفرجت على الآثار, لم أخف من أي شيء, حكاية لعنة الفراعنة طلعت مضروبة, دول ناس طيبين). تسببت السرقة - التي أثارت ملابساتها الرأي العام - في إقالة الدكتور عبدالحليم نور الدين الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار وقتها, وأدت إلى التعجيل بتنفيذ مشروع تأمين المتحف إلكترونيا, وعاد المتحف إلى هدوئه.. حتى الآن.

السرقات لم تكن حكرا على المتحف المصري, بل امتدت إلى متاحف أخرى, منها متحف مُصغَّر كان قد أنشئ في قلعة قايتباي عقب ترميمها عام 1984. ضم المتحف قطعا انتشلت من أسطول نابليون وتم تدعيمه ببعض القطع التي نقلت إليه من متحف الفن الإسلامي. صباح أحد أيام شهر يونيو من عام2000 فوجئ المسئولون عن القلعة باختفاء العملات الذهبية التي كانت معروضة بخزانة عرض في البرج الرئيسي. اللصوص تمكنوا من الوصول إلى القاعة رغم ارتفاعها وكسروا الأقفال واستولوا على القطع التي وصفها الدكتور جاب الله علي جاب الله الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار بأنها: (من أجمل العملات المصنوعة من الذهب الخالص). اثنتان من العملات تعودان إلى العصر المملوكي ومكتوب على إحداهما اسم السلطان قايتباي وعلى الأخرى اسم السلطان قنصوة الغوري. أما القطع الأربع الأخرى فترجع للعصر العثماني.

بعد شهور من السرقة تمكنت شرطة الآثار من ضبط تاجري مجوهرات يعرضان القطع للبيع, وعادت القطع إلى متحف الفن الإسلامي بعد أن أصدر أمين الآثار قرارا بإلغاء المتحف المؤقت بقلعة قايتباي.

حوادث الاختفاء الغامضة امتدت إلى المتحف القبطي بالقاهرة فقبل شهور قليلة اختفت ثماني أيقونات من عهدة إحدى الأمينات, تم اكتشاف ذلك أثناء الجرد الذي يسبق إحالتها إلى المعاش, نشرت إحدى الصحف وقتها خبرا عن اختفاء نسخة نادرة للتوراة كانت في عهدة أمينة المتحف وهو ما سارع مسئولو الآثار بنفيه وتأكيد أن النسخة لا تزال في حوزة المتحف. غير أن الأيقونات لم تظهر. المدير العام للمتحف القبطي علَّق على ما حدث قائلا: (طالبت كثيرا بتوفير مخازن جديدة تتمتع بمواصفات خاصة للحفاظ على المقتنيات الأثرية وإعادة ترتيبها وتصنيفها, وهو مطلب ليس جديدا بل سبقني مديرون آخرون في هذه الرغبة لكنها لم تتحقق حتى الآن). الحادث السابق وتصريحات المدير العام للمتحف القبطي أثارا تساؤلا عما يحدث في المتاحف الإقليمية والمناطق الأثرية النائية إذا كان هذا ما يعاني منه واحد من أهم أربعة متاحف في مصر.

تصدير الآثار!

إذا كان استخدام المصطلحات التسويقية جائزا في هذا السياق, فيمكن القول إن تجارة الآثار تعتمد بشكل أساسي على الأسواق الخارجية, لذلك ترتبط السرقات الكبرى في معظم الأحيان بأطراف أجنبية. النماذج التي تؤكد ذلك متنوعة.

القضية التي تُعرف حتى الآن باسم سرقة الآثار الكبرى (رغم اكتشاف سرقات أكبر في سنوات تالية) ضمت - إضافة إلى الأثريين المصريين - البريطاني جوناثان توكللي, وقد عاقبته محكمة نايتس بريدج العليا بلندن في منتصف عام 1997 بالسجن لمدة ستة أعوام. كما كان من بين المشتركين فيها فريدريك شولتز. العصابة الدولية - التي اكتشفتها شرطة اسكوتلانديارد في بداية التسعينيات - استولت على عدد كبير من التحف والبرديات من المخزن رقم 8 بمنطقة سقارة, ومقبرتي (عنخ رع) و(حتب كا). بلغ عدد ما سُرق من المخزن وحده حسبما أُعلن وقتها 282 بردية لم يضبط منها في لندن وقت اكتشاف العصابة إلا 27 بردية.

الآثار التي وصلت إلى إنجلترا وجدت من يضبطها فأصبحت بذلك أحسن حظا من تلك التي انتقلت إلى مناطق أخرى ووجدت من يتواطأ على إخفائها. في ألمانيا كانت الأمور أكثر سوءا, ففي منتصف عام 2000 فجرت مجلة دير شبيجل مفاجأة شديدة الوطأة عندما اتهمت عالم المصريات ديتريش فيلدونج مدير متحف برلين وزوجته شوسكا مديرة متحف ميونيخ بالتورط في سرقة وتهريب الآثار المصرية. اعتمدت المجلة على ما أعلنه رالف كراوز نائب مدير متحف برلين عن أن مخازن هذا المتحف ومتحف ميونيخ تضم عددا كبيرا من القطع المسروقة من مصر, وقد حاول فيلدونج أكثر من مرة إجراء عملية غسيل لها عن طريق إعادتها إلى مصر مع استبدالها بقطع أخرى تهديها مصر لألمانيا بشكل رسمي. وأشارت دير شبيجل إلى أن ثلاثمائة من علماء الآثار الألمان أعربوا عن دهشتهم خلال اجتماع عقدوه في مدينة هيدلبرج من الصمت الذي يتعامل به المجلس الأعلى المصري للآثار مع القضية, بل إنهم أشاروا إلى أن الصمت يعتبر: (مسألة مريبة وتطرح التساؤل حول الضالعين مع فيلدونج من الموظفين الحاليين والسابقين الذين تربطهم علاقات عمل منذ أمد بعيد بفيلدونج). وهو الأمر الذي علقت عليه دير شبيجل مؤكدة أن من مصلحة البعض استمرار الغموض حول القضية. رالف كراوز كان محددا في اتهامه لفيلدونج بأنه متورط في الكثير من العمليات القذرة التي يأتي على رأسها المساعدة على تهريب وإخفاء الآثار المصرية وتوثيق شهادات تثبت أنها مشتراة أو مهداة في بدايات القرن الماضي ليتمكن من عرضها أو بيعها. ورغم صدور قرار بمنع فيلدونج من البحث والتنقيب في المناطق الأثرية المصرية فإنه كان دائم الزيارة لمصر والاتصال بعدد من مسئولي الآثار بها.

واحتاج الأمر إلى وقت طويل لتفعيل قرار مصري بمنع التعامل معه نهائيا, فبعد ما يزيد على عشر سنوات من اتخاذ القرار منع الدكتور زاهي حواس قبل شهور كل أشكال التعاون العلمي مع فيلدونج, وهو الأمر الذي انطبق على زوجته بعدها بأسابيع.

إذا كانت النماذج السابقة تثبت تورط بعض الأجانب بصفة شخصية في مثل هذه الجرائم, فإن الأمر يختلف جذريا مع ما حدث من سرقات قامت بها إسرائيل في سيناء أثناء احتلالها. كانت جرائم السرقة منظمة يتم تنفيذها وفق خطة دقيقة. من الآثار المسروقة ما اتجه إلى منزل موشى ديان المغرم بالآثار إلى درجة أن فريقا من المنقبين كانوا يقومون بإجراء حفائر خاصة له, ومنها ما اتجه إلى المتاحف الإسرائيلية. والنتيجة تمثلت في استنزاف آثار سيناء لدرجة أن ما استردته مصر من إسرائيل في منتصف التسعينيات تم تعبئته في ألف وثمانمائة صندوق! ورغم هذا يؤكد مسئولون أثريون مصريون أن ما تم استرداده هو ما كان مسجلا فقط, أما ما لم يكن موثقا في سجلات المجلس الأعلى وحصل عليه الإسرائيليون عن طريق التنقيب فلا أحد يعلم عنه شيئا. الإسرائيليون استخدموا كل الوسائل التي تمكنهم من النهب, وبعد أن كانوا في البداية يركزون على القطع الصغيرة بدأوا يكثفون نشاطهم لدرجة أنهم أصبحوا يربطون الكتل الضخمة في طائرات الهليكوبتر ويرفعونها ويحاولون نقلها إلى داخل إسرائيل, ورغم أن القوات الدولية اعترضتهم وأجبرتهم على إعادة بعض هذه القطع, فإن أحدا لا يعلم تحديدا عدد القطع التي نجحوا في تهريبها.

النماذج السابقة تقدم صورة غير مكتملة للمشهد, لكنها تصلح للتعبير عن عالم يتنقل بين السر والعلن حسب ما يتم ضبطه من قضايا كبرى. إنه العالم الذي لا يشترط فيمن يتسربون إليه مؤهلا محددا حتى أنه نجح في ضم فئات تعاني تناقضات صارخة فيما بينها. الجميع يسرقون ويُهرِّبون ضمن منظومة تحمل سمات كوزموبوليتانية تجعل الجريمة في هذا المجال أكثر اتساعا من مفهوم السرقة العادية. فالمشكلة الأكبر تتمثل في محاولات السطو على الهوية!

 

إيهاب الحضري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الفأس والذهب: أثناء التنقيب





حجر رشيد, المحفوظ والمعروض الآن بالمتحف البريطاني, لندن





قناع الذهب الأشهر للفرعون توت عنخ آمون, الذي نجا من السرقة والغربة





أحد حراس مقبرة توت عنخ آمون





دمى مصغرة تدعى أوشابتي, وتوضع بالمقابر مع الراحل للقيام بالعمل في الحياة الآخرة





رأس جرانيتي أحمر سجله الرحالة الأوائل كان في البهو الثاني في معبد الرامسيوم حاولت نقله الحملة الفرنسية أولا إلى باريس وبعد ذلك نقله جيوفاني بلزوني في 1816 والآن في المتحف البريطاني





نشر ديفو في 1830 رحلاته في مصر والنوبة وشرق المتوسط بوصفه ورسومه