جنيه إدريس

جنيه إدريس
        

عندما صدر الجنيه المصري عام 1924 استقبل الجميع الصورة المطبوعة عليه بدهشة بالغة، ولم يستطع أحد التعرف عليها.

          لم تكن على الجنيه صورة للسلطان العثماني الذي كانت مصر ولاية تابعة له على مدى مايقارب نصف قرن من الزمن، فقد كانت الدولة السنية في ذلك الوقت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وكان سلطانها محمد السادس يبدو رجلاً طاعنًا في السن كدولته، شاربه الابيض الكثيف متراخ، وفي عينيه نظرة ساهمة وحزينة، كان قد جاء إلى العرش بالمصادفة، بعد أن انتحر وأصيب بالجنون كل الذين كانوا أقرب منه للعرش، وكانت إمبراطوريته قد تلقت هزيمة مروعة في الحرب العالمية الأولى، وبعد أن كانت تحتل رقعة هائلة من العالم أصبح قلبها محتلا، تعبث فيه الجيوش الإنجليزية والفرنسية وحتى اليونانية، وكان احتلال هذه الأخيرة أقسى على قلب السلطان من أي شيء آخر، فالأتباع السابقون تحولوا فوق أرضه إلى سادة آمرين، وكان أمله معلقًا بقائد وحيد كالذئب الأغبر، هو مصطفى كمال، حتى ينقذ مملكته وعرشه، ولكنه كان يدرك أيضا  بحكم خبرته الطويلة  أنه ما إن يستأثر هذا القائد بالسلطة حتى يعزله من على عرشه، كان مثل كل سلاطين نهايات الدول، خانعا وطيبا، مستسلما لقدر السقوط الذي يلاحقه، لذلك لم يكن غريبًا أن يركب السفينة ذاهبًا إلى المنفى طائعًا بعد سنوات قلائل من عهده لتنقضي من بعده دولة آل عثمان إلى الابد.

          ولم يكن الجنيه أيضًا يحمل صورة مصطفى كامل، الرجل الذي بذل سنوات عمرة القصيره، ليعلم المصريين أن يكونوا جديرين بمصريتهم، أن يستيقظوا من سباتهم العميق، ومن رضوخهم لإهانات الاحتلال الإنجليزي، ومن تقبلهم لصنوف الحكام الجائرين الذين يقهرونهم بدلاً من الدفاع عنهم، كان هو الوحيد الذي ناصب اللورد كرومر العداء وقت أن كان حاكما مطلقًا يتذلل له الكبراء والوزراء والسلاطين، كان مصطفى كامل أفندي نحيل القامة، أخذ شهادة القانون من باريس، ورأى كيف تعيش الأمم الحرة، فوقف يدافع عن أرواح الفلاحين في قرية دنشواي، كان الزعيم الوحيد وربما حتى الآن الذي أصر على ألا تذهب أرواح المصريين بلا ثمن، وأنهم مثلهم مثل بقية الخلق، نفوس فطرها الله، لها حياتها الخاصة وتواريخها الخاصة يجب ألا تهدر، بحجة أن اعدادها كثيرة، وانها كحبات الليمون، تعصر دون أن تحصى، ولكن عزيمته كانت أقوى من جسده، وكانت روحه الوثابة اكبر من أن تسكن في هذا الهيكل النحيل، لذا غادرته وهو في سن السادسة والثلاثين، وتركت في قلوب المصريين حزنًا آسيا حتى الآن.

          ولم يكن الجنيه أيضا يحمل صورة الملك الجديد «فؤاد الاول»، بشاربه المبروم وصدره المنفوخ وتلك النياشين التي تغطيه والتي لا يعرف أحد من اين جاءت، كان ملكا غريبا على الجميع، واحدا من أمراء أسرة «محمد على» التي كان يسري الدم المجنون في عروقها منذ الجد الاول، ولكنه كان اقلهم ذكرًا، كان أبوه اسماعيل حاكمًا مليئًا بالأحلام العظيمة، وساذجا ومسرفًا من الناحية المالية، وقع في فخ الديون الأوربية، ومازال الفخ منصوبًا حتى الآن، وكان أخوه الخديو توفيق أشهر الخونة الذي قضى على ضباط جيشه الوطنيين، وقدمهم لقمة سائغة للمحتل البريطاني، فأي مجد، أو أي جدوى أن تظهر صورته على جنيه الدولة المستقلة  ولو كان هذا الاستقلال اسميا ,

          كان على الجنية صورة شخص غريب لا يعرفه أحد، فلاح مصري، لونه يحمل سمرة الجنوب، ولحيته يخالطها الشيب، ونظرته فيها نوع من القناعة والرضا بالمقسوم، على رأسه عمامة، وفوق كتفه عباءة بسيطة، دون أبهة أو نياشين، واعتقد الجميع أنها صورة للفلاح المصري الذي طالما وهب الحياة لهذا الوادي، وأن هذا اعتراف متأخر بالجميل، جاء من أرومة ألبانية تركية طالما امتصت دمه، ولكن الامر كان أبعد مايكون عن ذلك. 

الرافض للعرش

          قال الأمير كمال الدين وهو ينتفض: لا أريد هذا العرش.

          نظر إليه السلطان «حسين كامل» مذهولاً، كان راقدًا فوق فراش مرضه الأخير، وقد جف ماء الحياة من بدنه، ولم يعد في انتظاره سوى القبر، ولكن كلمات ابنه ملأته بالغضب، قال في مرارة: لقد فعلت كل شيء، وقبلت بكل شيء حتى تجلس حضرتكم على هذا العرش.

          كان قد قبل الإهانات وقام بالتنازلات، وتحمل سخرية الصحف المعارضة، وقصائد الزجل المسمومة، ونظرات الاحتقار من زوجته وزوجة ابنه، والتذلل أمام صغار الموظفين الإنجليز، ومقاطعة طلبة المدارس له، كل هذا قبله السلطان حسين كامل، مقابل شيء وحيد، أن ينتقل العرش من بعده إلى ولده الوحيد، ولكنه يقف الآن عنيدًا ورافضًا، كانت ملامح الشاب الصغير أقرب إلى شاعر حالم منها إلى أمير تركي عتيد، كان يميل دوما إلى العزلة والانطواء، مع نوع من الرهافة الأنثوية طالما كرهها السلطان، ولابد أن تربيته وسط خمس من الأخوات البنات قد تركت أثرها في شخصيته، قال الأمير:   لا يهمني ما فعلتم، لن أجلس على هذا العرش الملعون مادمت حيًا.

          صاح السلطان بكل مافيه من قوة الاحتضار: لن تبقى حيا بعد اليوم، لأنني سأنهض وأخنق حضرتكم بيدي هاتين.

          وفوجئ السلطان بابنه يخرج من جيبة مسدسا ويوجهه إلى رأسه، ويهتف في صوت صارم:  لا تتعبوا فخامتكم نفسكم، سأقوم بذلك الآن، أمامكم.

          شهق السلطان، أحس بقلبه على وشك التوقف، صاح به: اخفضوا المسدس واذهبوا إلى حيث تشاءون، لعنة الله عليكم وعلى العرش.

          أغمض السلطان عينيه وتذكر لحظة عرض عليه هذا العرش الضائع، كانت أتون الحرب العالمية الأولى مشتعلة، والإنجليزالذين سلخوا مصر عن الدولة العثمانية، وفرضوا حمايتهم عليها يبحثون عن حاكم يطيع أوامرهم، وكان الخديو عباس، الحاكم السابق، قد غادر مصر دون أن يستطيع العودة، كان قد راهن على انتصار ألمانيا وحليفتها تركيا في الحرب، وكانت النتيجة أنه ظل باقيًا رغمًا عن أنفه بجانب السلطان العثماني وهو يتلقى الهزائم، وانتهي أمره حين عزله الإنجليز نهائيًا.

          في تلك اللحظة لم يكن الأمير حسين كامل يرفض العرش حقا،  ولو حاول الإيحاء بذلك، كل مافي الامر ان زوجته «ملك هانم» كانت تدين بالولاء لأم الخديو السابق عباس، ولم تنس أنها كانت واحدة من جواريها،، وظلت تذكره في الفراش كل ليلة أن قبوله للعرش هو نوع من الخيانة، يضاف إلى ذلك أن ابنه الوحيد الأمير كمال الدين حسين، كان متزوجا بابنة الخديو السابق، وكانت هي أيضا ترى أن حماها سيكون الخائن الأكبر إذا قبل هذا العرش، ولم ينصفه الإنجليز أيضا، لم يشاءوا أن يعطوه لقب الملك بدلا من لقب الخديو الذي ألغي مع انفصال مصر عن تركيا، لم يكن الإنجليز يرون في الكون كله إلا ملكًا واحدًا هو الجالس على العرش البريطاني، أعطوه لقب السلطان، ولا شيء غير ذلك، لا حرية في اختياره لعلم سلطنته، ولأعضاء وزارته، ولا استقلاله الذاتي، لم يكن من حقه أن يطلب، كان واجبه فقط أن يطيع.

          وظل الأمير حسين كامل يتحجج، ولكنه أصيب بالذعر عندما اكتشف أن أغاخان يزور القاهرة بدعوة من السلطات الإنجليزية، لقد حسب أن زعيم الطائفة الإسماعيلية قادم لكي يجلس على العرش، وربما كان الأمر كذلك بالفعل، فالإنجليز كانوا قد ضاقوا ذرعا بتردده، لذا فقد تخلى فجأة عن تعنته الشكلي ووافق على القبول بشرط وحيد هو أن يرث ابنه العرش من بعده، وحتى هذ الامر لم يأخذ به إلا وعدا غامضا، ولم يوافقوا عليه إلا بعد سنوات من التوسلات.

          ولكن هاهو كل ماعمله يتردى، والأمير العاصي ينصرف من أمامه، فرحًا بحريته، ولم يبق أمام السلطان إلا أن ينتظر الموت وهو يردد لنفسه: غدا سوف تتنازع كلاب أسرة «محمد علي» على هذا العرش الخالي. 

.... والقابل بالعرش

          كانت سفينة الركاب الإيطالية تستعد لدخول ميناء الإسكندرية، عندما سمع الأمير فؤاد بهذا الحلم لأول مرة.

          كان ما يشغله وقتها، وهو يراقب البيوت البيضاء وصفوف النخيل التي تقترب، هو كيف يتسلل من السفينة إلى المدينة دون أن يعرف أحد انه كان مسافرا في أدنى درجة بها، دون قمرة أو جناح يليق به كأمير وكأخ لسلطان مصر، كان قد أفلت من روما، من ديون القمار، ومن الراقصات اللواتي كتب لهن شيكات بلارصيد، ومن قروض محلات الرهونات، كانت العشرون عامًا التي قضاها متسكعًا قد قادته إلى الإفلاس، لم يبق أمامه إلا ان يعود إلى القاهرة ليختفي في صمت، حتى لا يعلم أصحاب الديون فيها بوصوله، وتبدأ المطاردة من جديد.  في تلك اللحظة اقترب منه تابعه «إدريس الأقصري»، الوحيد الذي بقي معه بعد أن هجره الجميع، كانت ابتسامته تنير وجهه الأسمر، وكان مازال محتفظا بجلبابة وعمامته الجنوبية، لم يتخل عنهما على الرغم من الأيام الكثيرة التي قضاها في أوربا متسكعا في أثر سيده، قال له: يا افندينا، لقد رأيت رؤيا أريد أن أقصها عليكم. لم يلتفت فؤاد إليه، كان مافي داخله من هموم أكبر من مجرد حلم تافه لفلاح، وكانت صافرة السفينة تزعق طالبة الأذن بدخول الميناء، ولكن «إدريس» العنيد أصر على مواصلة الكلام:  لقد حلمت أنك أصبحت ملكًا لمصر.

          وانتبه فؤاد فجأة إلى تلك الكلمات المستحيلة من فرط غرابتها، كان يعرف أن السلطان مريض، ولكن له وريثا، وفوق ذلك، فهناك في الأسرة من هم أكبر منه سنًا وأكثر نفوذًا، كما انه كان يشعر دائما بالغربة في ذلك البلد الذي لا يجيد لغة أهله، ولو كان الأمر بيده لقضى كل حياته في الخارج، ولولا هذه الديون الثقيلة التي تطارده ما فكر في العودة، ولكن «إدريس» عاد يلح بالقول: رأيتكم يا أفندينا وأنتم تجلسون على عرش قصر عابدين، ورأيت رشدي باشا الوزير الأكبر وهو يقبل أياديكم، ورأيت كل الأمراء وعلى رأسهم الأمير عبد المنعم وهم ينحنون أمامكم.

          صاح فيه فؤاد أخيرًا: اصمت.

          كانت السفينة قد دخلت الميناء بالفعل، وفؤاد يرتجف خوفًا من أن يتعرف عليه أحد، ولكن كلمات الأقصري كانت تطن في أذنيه، توقظ داخله أمنية مستحيلة، على الرغم من أنها الانقاذ الوحيد من ورطته ومهانته التي طالت أكثر مما ينبغي، قال وهو يضحك في جفاف:

          لقد كبرت وخرفت يا إدريس.

          وبدآ يستعدان للنزول من السفينة، ولكن ما إن خرجا من بوابة الميناء حتى كانت المفاجأة الاولى في انتظارهما، كان هناك بائع صغير يحمل جريدة المقطم الداكنة الأوراق وهو يصيح بأعلى صوته: اقرأ آخر خبر، الأمير كمال الدين حسين يتنازل عن العرش، اقرأ المقطم..

          وتوقف الأمير فؤاد وتابعه، نظر كل منهما إلى الأخر مذهولاً، اشترى واحدة من الغلام، ولأن الامير لم يكن يجيد العربية فقد اعطاها لتابعه الذي أخذ يقرأها بلهجته الصعيدية المتكسرة، كان الخبر صحيحًا، وكان الامير كمال الدين حسين قد أرسل خطابًا رسميًا بذلك، ولكن كان هناك خبر آخر في نفس الصحيفة، الأمير عبد المنعم أكبر أفراد الأسره وابن الخديو عباس يستعد للذهاب إلى إنجلترا، وهتف فؤاد في خيبة أمل: لقد ذهب ليطالب بعرش أبيه، وسوف يظفر به.

          وبقي الأمر، مجرد حلم لفلاح عجوز، لم يأبه أحد بالأمير الغريب العائد، حتى  الدائنون، كأنهم قد يئسوا من استرجاع ديونهم، وحتى عندما طلب فؤاد الاذن لمقابلة أخيه السلطان المريض، لم يأذن له، لم يكن يريد أن يمنحه مالاً، والأهم من ذلك أن يدخله إلى منطقة الضوء، ويلفت انظار الإنجليز إليه، كان في داخله أمل واهن ان يتراجع ابنه الوحيد، وكان بالفعل قد أرسل خلفه رئيس وزرائه رشدي باشا ليرجوه ويتوسل إليه حتى يعدل عن قراره.

          وظل فؤاد حبيس كآبته، لايقدر على التجول أو الذهاب إلى أي مكان، وبدأ يرمق إدريس الاقصري في عداء، وأحس أدريس بالذنب فأخذ يخفض رأسه خجلا، ولكن فؤاد لم يكن يعلم ما يدور في الخفاء، لم يعلم ان طلب الأمير عبد المنعم قد رفض، وأن الإنجليز قالوا له بوضوح إن حقه في العرش قد سقط مع خلع أبيه، ولم يعلم أن كمال الدين حسين غادر مصر بصحبة زوجته الثانية، الفرنسية الأصل، بعد أن صرح بأنه مسلم حقا ولكن لا وطن له، لذا كان غريبا أن يستيقظ في الصباح على دعوة لمقابلة المستر «وينجت»، كان طلبًا غريبًا ومفاجئًا من المندوب السامي الذي يأتمر بأمره الجميع، حضرة جناب اللورد الحاكم الحقيقي لمصر.

          توقف فؤاد أمامه مذهولا، كان قد ارتدى أفضل ما لديه من ملابس، وحاول أن يبدو معتدا بنفسه دون أن يكون مفرطا في الغرور، ولكن «وينجت» نظر إليه من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، كأنه يريد أن يقدر حجمه قبل أن يقدم له أي عرض، لم يطلب منه الجلوس، ولكنه قال في لهجة عسكرية صارمة: سنقوم بدفع كل ديونك.

          ولهج الأمير بالشكر بالتركية والإيطالية، ولكنه كان يحس في داخله بالإهانة، فقد بدا في سلوك الحاكم والذي كان عسكريًا سابقًا أنه الذي يكره هذا النوع من المقامرين من أمثاله، ثم قال له أخيرًا: لقد اختارتك حكومة صاحب الجلالة لتكون ملكًا على مصر أعتقد أن هذا مناسب لك، لا تعلن هذا الأمر حتى يموت السلطان، وعليك أن تلتزم بالأوامر التي سوف نوجهها إليك.

          انصرف الامير الذي أصبح ملكًا وهو مذهول، مصفر الوجه، لدرجة أن المنتظرين في قاعه المندوب السامي حسبوا أنه تلقى توبيخا مميتا، كما هي عادة وينجت مع الأمراء المفلسين، لم يتفوه فؤاد بكلمة واحدة إلا بعد أن عاد إلى بيته، وجد إدريس يصلي صلاة الظهر، ظل واقفا حتى فرغ من الصلاة، تطلع كل منهما إلى الآخر، وابتسم فؤاد أخيرا بعد سنوات من العبوس، وهتف به: انهض يا إدريس بك.

          ولم يستطع إدريس بك النهوض، ظل جالسًا مذهولاً على سجادة الصلاة، وعاد فؤاد يقول: لقد تحقق حلمك الغريب، وسوف تكون صورتك على أول جنيه تصدره حكومتي .

          وفي يوم 4 يوليو 1924 صدر أول جنيه مصري عن الدولة المصرية التي ظفرت باستقلالها الشكلي وهو يحمل صورة إدريس بك الاقصري، الذي عاش طويلا حتى شهد سقوط الجنيه الذي يحمل صورته وسقوط الملكية في مصر نفسها.

 

محمد المنسي قنديل