جمال العربية

جمال العربية
        

نزار قباني ناثرًا.. الانفصال عن سلطة الشعر

          ليس كل الشعراء الكبار يمتلكون موهبة الكتابة النثرية كما يمتلكون موهبة الإبداع الشعري. والذين أوتوا الموهبتين معًا، والقدرتين معًا، هم الشعراء المحظوظون الذين يكمل نثرهم شعرهم، وينسكب ماء شعرهم وكيمياؤه على نثرهم فيتوهج ويتألق، ويغتني بما يحمله من أنفاس شعرية، عندئذ تصبح الكتابة النثرية - لدى هؤلاء الشعراء - ماسات تُشع، بغير حاجة إلى أوزان أو قوافٍ.

          في طليعة هؤلاء الشعراء المحظوظين، الموهوبين في الإبداع باللغتين: نزار قباني، الذي نقرؤه ونتأمله في كتبه النثرية، التي قدم فيها لوحات قلمية بديعة تصوّر سيرته الذاتية، وحياته مع الشعر، وآراءه في الإبداع والحياة، ورؤيته لعالمه الشعري من الداخل - داخل ذاته ومن صميم وجدانه - من بين هذه الكتابة النثرية كتابه البديع «مائة رسالة حب» الذي يقول في تقديمه: «هذه الرسائل المائة التي أنشرها، هي كل ما تبقى من غبار حبي، وغبار حبيباتي.

          ولا أعتقد أنني بنشرها، أخون أحدًا أو أعتدي على عذرية أحد.

          فأنا شاعر كان له - ككل الرجال - تراث من الصدق لا يخجل منه، ومجموعة من الرسائل لم يجد الشجاعة الكافية لإلقائها في النار.

          وأنا لا أنكر أنني فكّرت في النار، كحلّ أخير يُحرّرني من هذه التركة الثقيلة من الرسائل التي أحتفظ بها، ويُحرّر جميع حبيباتي.

          غير أنني حين رجعت إلى محتويات هذه التركة، وجدت أن بعض هذه الرسائل فيه شيء كثير من قماشة الشعر، بعضها الآخر شعر حقيقي.

          عندئذ، تراجعت عن عملية الحرق، والتقطت من بين أكداس الرسائل مائة رسالة، أو مقاطع من رسائل وجدت فيها إيقاعًا شعريًا وإنسانيًا، يتجاوز إطار الخصوصيات إلى إطار العموميات، بالرغم من اقتناعي بأن الخط الذي يرسمه الناس بين خصوصيات الفنان وعمومياته هو خط وهمي. ثم إني أعتقد أن الكاتب لا يكون في ذروة حريته، إلا في مراسلاته الخاصة، أي عندما يقف أمام المرآة متجرّدًا من أقنعته وثيابه المسرحية، التي يفرض المجتمع عليه أن يرتديها.

          فالرسائل هي الأرض المثالية، التي يركض الكاتب عليها، كطفل حافي القدمين، ويمارس فيها طفولته بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق.

          إنها اللحظات الصافية، التي يشعر فيها الكاتب أنه غير مُراقب، وغير خاضع للإقامة الجبرية».

          يقول نزار قباني في تقديمه لهذا الكتاب الذي يمثل نثره المتوهج بالشاعرية أجمل تمثيل: «وأنا بالرغم من الحرية التي كنت أمارسها كشاعر، كنت أحسّ في كثير من الأحيان بأنني مقيد بأصول الشعر قواعده، وإطاراته العامة، وأن هناك أشياء في ستائر النفس، تريد أن تُعبّر عن ذاتها، خارج شكليات الشعر، ومعادلاته الصارمة، وبتعبير آخر، كانت هناك منطقة في داخلي، تريد أن تنفصل عن سلطة الشعر، تريد أن تتجاوز الشعر».

          في ختام تقديمه يقول نزار: «ومرة أخرى أود أن أقول: إنني لا أبتغي من نشر هذه الرسائل إحراج أي امرأة، أو كشف أوراقها. فالتشهير ليس من هواياتي، والتشخيص لا يهمني أبدًا لأن النساء يأتين ويذهبن، كما يأتي الربيع ويذهب، وكذلك الحب: فهو مسافر قصير الإقامة، لا يفتح حقائبه حتى يغلقها، ويرحل من جديد.

          إن الحب انفعال رائع، بغير ريب، ولكن الأروع منه هي هذه الحرائق، التي يتركها على دفاترنا، وذلك الرماد الذي يبقى منه على أصابعنا.

          والمرأة هي الأخرى جميلة، ولكن الأجمل منها هو صور آثار أقدامها على أوراقنا، بعد أن تذهب.

          وبعد، فهذه الرسائل هي كل ما تبقى من غبار حبي، ومن غبار حبيباتي، وأنا أنشرها لأنني مؤمن أن عشق الفنان ليس عشقه وحده، ولكنه عشق الدنيا كلها، ورسائله إلى حبيبته مكتوبة إلى كل نساء العالم».

          هذه اللغة السلسة الصافية المتدفقة، وهذه الكتابة الإبداعية الشديدة الانسياب والرهافة، هي نفسها لغة نزار في شعره. هذا الشعر الذي أتيح له حجم هائل من الجماهيرية والانتشار، وذيوع الصيت لأنه يمكن النفاذ إلى صميمه - اكتشاف كنوزه من أول قراءة، لا يحتاج إلى كبير عناء أو مشقة، أو طول مراودة ومعاودة، من أجل العثور على أجمل ما فيه، وأبدع ما فيه، لغة نزار، وقدرته على إبداع الصورة ورسم اللوحة وإغراؤه المستمر لقارئه - في عالمي الحب والسياسة - لكثير من توابله الحرّيفة، التي تلذع بصراحتها، لكنها تغري بالمزيد، وتُمتع بإشباع النهم الحسّي والنفسي، والنّهم المتمرّد والغاضب، المتلفّع مرة باصطناع موقف الدفاع عن المرأة، ومرة أخرى بموقف الناقم والثائر والهاجي للمجتمع والحياة والتاريخ.

          وبقدر ما كانت القراءة الأولى منصفة لنزار قباني: الشاعر والناثر، فإنها لا تترك عادة فضولاً يكفي لقراءة ثانية، فقد قدّمت الكثير، وكشفت عن الكثير، ولم يعد ثمة ما يُغري باقتحام جديد، واكتشاف آفاق لم يتم التعرّف عليها.

          تلك هي معضلة نزار ومأزقه الحقيقي، منذ حاول أن يجعل من شعره كستور الفقراء - على حد تعبيره - وأن يراهن على الانتشار واتساع القماشة بأكثر من رهانه على العمق والغموض الجميل الذي لا يرتوي بسببه قارئه، وهو ما نجح فيه غيره من الشعراء الذين لم يحرصوا حرصه على اتساع الرقعة، قدْر حرصهم على الحفْر في العمق.

          يقول نزار في كتابه «مائة رسالة حب»: 

1 أريد أن أكتب لك كلامًا

لا يُشبه الكلام
وأخترع لغة لكِ وحدكِ
أُفصّلها على مقاييس جسدك
ومساحة حُبّي

***

أريد أن أسافر من أوراق القاموس
وأطلب إجازة من فمي
فلقد تعبتُ من استدارة فمي
أريد فمًا آخر
يستطيع أن يتحوّل متى أراد
إلى شجرة كرَز
أو عُلبة كبريت
أريد فمًا جديدًا
تخرج منه الكلماتْ
كما تخرج الحوريّات من زبد البحر
وكما تخرج الأرانب البيضاء
من قبعة الساحر
خذوا جميع الكتب
التي قرأتها في طفولتي
خذوا جميع كراريسي المدرسية
خذوا الطباشير
والأقلام
والألواح السوداء
وعلِّموني كلمة جديدة
أُعلّقها كالحلق
في أذن حبيبتي!

***

أريدُ أصابع أخرى
لأكتب بطريقة أخرى
فأنا أكره الأصابع التي لا تطول،
ولا تقصرْ
كما أكره الأشجار التي لا تموت،
ولا تكبر
أريد أصابع جديدة
عالية كصواري المراكب
وطويلة، كأعناق الزرافات
حتى أُفصّل لحبيبتي
قميصًا من الشِّعْر
لم تلبسْه قبلي
أريد أن أصنع لك أبجدية
غير كلّ الأبجديّات
فيها شيء من إيقاع المطر
وشيء من غُبار القمرْ
وشيء من حزن الغيوم الرّمادية
وشيء من توجّع أوراق الصفصاف
تحت عربات أيلول
أريد أن أهديك كنوزًا من الكلمات
لم تُهْدَ لامرأةٍ قبلك
ولن تُهْدى لامرأةٍ بعْدَكِ
يا امرأةً
ليس قبلها قَبْل
وليس بعدها بَعْد!

2 نهارَ دخلْتِ عليّ

في صبيحة يومٍ من أيام آذار
كقصيدةٍ جميلة تمشي على قدميْها
ودخلت الشمسُ معك
ودخل الربيعُ معك
كان على مكتبي أوراقٌ.. فأورقتْ
وكان أمامي فنجان قهوة
فشربني قبل أن أشربه
وكان على جداري لوحة زيتية
لخيولٍ تركض
فتركتني الخيول حين رأتْكِ
وركضتْ نَحْوكِ
نهارَ زُرْتني..
في صبيحة ذلك اليوم من آذار
حدثت قشعريرة في جسد الأرض
وسقط في مكانٍ ما من العالم
نيْزكٌ مشتعل
حسبهُ الأطفال فطيرةً محشوةً بالعسل
وحسبْتُه النساء
سوارًا مُرصّعًا بالماس

***

وحين نزعْتِ معطفك الربيعيْ
وجلسْتِ أمامي
فراشة تحمل في حقائبها ثيابَ الرصيف
تأكدتُ أن الأطفال كانوا على حق
والنساءَ كُنّ على حقّ
والرجال كانوا على حقّ
وأنك..
شهية كالعسلْ
وصافية كالماسْ

3 لماذا أنتِ؟

لماذا أنتِ وحدكِ
من دون جميع النساء
تُغيّرين هندسة حياتي
وإيقاع أيامي
وتتسلّلين حافيةً
إلى عالم شئوني الصغيرة
وتُقفلين وراءك الباب
ولا أعترض
لماذا؟
أحبُّكِ أنتِ بالذاتْ
وأنتقيكِ أنتِ بالذاتْ
وأسمح لكِ
بأن تجلسي فوق أهدابي
تُغنين
وتُدخّنين،
وتلعبين بالورق
ولا أعترض
لماذا..
تشطبين كلَّ الأزمنة
وتوقفين حركة العصور
وتغتالين في داخلي
جميع نساء العشيرة
واحدةً، واحدةً
ولا أعترض!

*** 

لماذا
أعطِيكِ، من دون جميع النساء،
مفاتيح مُدني
التي لم تفتح أبوابها
لأيّ طاغية
ولم ترفع راياتها البيضاء
لأي امرأة
وأطلب من جنودي
أن يستقبلوك بالأناشيد
والمناديل
وأكاليل الغار
وأُبايعك
أمام جميع المواطنين
وعلى أنغام الموسيقى ورنين الأجراس
أميرةً مدى الحياة!

4 كلما رأيتُكِ

أيأسُ من قصائدي
إنني لا أيأسُ من قصائدي
إلا حين أكونُ معكِ
جميلةٌ أنتِ.. إلى درجة أنني
حين أفكّر بروعتك.. ألهث
تلهث لغتي
وتلهث مفرداتي
خلّصيني من هذا الإشكال
كوني أقلّ جمالاً
حتى أستردّ شاعريتي
كوني امرأة عادية
تتكَّحَل وتتعطّر وتحمل وتلد
كوني امرأة مثل كلّ النساء
حتى أتصالح مع لغتي
ومع فمي!

***

          فهل استطاع نزار بعد هذه المغامرة الإبداعية النثرية أن يتجاوز الشعر، وأن ينفصل عن سلطة الشعر؟

          كيف، والشعر يسكنُ كلَّ أَوْردته وشرايينه، ويخفق مع كل نبضة من نبضاته، ويحمل ملامحَ روحه وسماتِ ذاته، في كلِّ كتاباته؟.

 

فاروق شوشة